الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء
بما أنَّ الإنسان مُتكوِّنٌ من جوهرَين، جسم ورُوح، فقد جعل شارع الشّريعة الإسلاميّة لكلٍّ من الجوهرَين فرائضَ وتكاليف، ليس الغرض منها سوى سعادة الإنسان وتعاليه في معارجِ الكرامة ومدارجِ العظَمة، وأهمّ فرائض الرُّوح العقيدة والإيمان. وأهمّ فرائض البدن، أعمال خاصّة يُسمِّيها الشَّرعُ بالعبادات والفروع، أي فروع الدِّين، كما يُسمِّي تلك [فرائض الرُّوح] بأصول الدِّين.
وتلك العبادات خمسة: الصَّلاة والصَّوم، وهي بدنيّة مَحْضة [ومنها الجهاد أيضاً]، والخُمس والزَّكاة، وهي ماليّة مَحْضة، والحجّ يَتَضمنَّهما معاً، فهو عبادةٌ ماليّة وبدنيّة.
وقد جمعت كلّ واحدةٍ من هذه العبادات أسراراً وحِكَماً، إذا لم يكن الحجّ أكبرها مقاصد وأكثرها أسراراً وفوائد، فليس هو بأقلِّها، وقد أشارت الآيات إلى بعض تلك الأسرار والمزايا، وهي مادّيّة اقتصاديّة، وأخلاقيّة اجتماعيّة، ورموز عِلْوِيّة، ورياضات روحيّة.
نعم، النّاظرُ إلى أعمال الحجّ نظرة سطحيّة قد ينسبق إلى ذهنه أنّها ألاعيبُ من العبث؛ ولكن لا تلبث تلك النّظرة العابرة حتّى تعود عِبرةً وفكرة، تذهلُ عندها الألباب وتطيشُ في سُبُحات جلالها العقول.
أمّا الّذي فيه من الفوائد المادّيّة، والاجتماعيّة، والأخلاقيّة، فلعلَّ سطحه الأوّل ظاهر مكشوف، والتّوسُّع فيه يحتاج إلى مجالٍ أوسع ونظرٍ أعلى وأرفع، وهي الّتي أُشير إليها بقوله عزَّ شأنُه ﴿..لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ..﴾ الحجّ:27، ولكن إذا لم يتَّسع لنا المجال للإشارة إلى تشريح هذه المنافع أفلا يمكن التّلويح إلى بعض تلك النّفحات الّتي تهبُّ نسائمُها من الكنوز والرّموز الرّوحيّة الّتي تتضمنَّها أعمال الحجّ؟
مع الحاجّ في مناسكه
أوّلُها الإحرام؛ أرأيتَ المُحرم حين يتجرّد من ثيابه الّتي يتجمّل بها بين النّاس، فيَستبدل بها قطعتَين من القطن الأبيض، إشارة إلى قَطْعه جميع علائق هذه الحياة وزخارفها، واكتفائه بثوبَين، كمَن ينتقل من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى، لابساً أكفانه، منصرف النّفس عن كلّ شهواتها، وعازفاً عن كلّ لذّاتها.
أتراه حين يرفع صوتَه كلَّما علا جبلاً أو هبط وادياً أو نام أو استيقظ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لا شَريكَ لَكَ لَبَّيْكَ، كأنَّه يُجيب داعياً، ويُخاطب منادياً؛ نعم يجيبُ داعي الضّمير، ويُخاطبُ الوجدان خطاباً يجيبُ به نداء ربِّه، وأذانَ أبيه إبراهيم، ودعوةَ نبيّه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله. أتراه كيف يتجرَّد من الدُّنيا ويتخلّى عن الرّوح الحيوانيّة فيصير روحاً مجرَّداً، وملاكاً بشراً فيحرّم على نفسه التّمتّع حتّى من النّساء والطِّيب والطّيِّبات.
أرأيتَه حين يَطوف حول الكعبة رمز الخلود، ومركز الأبديّة، وتمثال العرش الّذي تطوف حوله الملائكة ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ..﴾ الزّمر:75 طالباً أن تُفتحَ أبوابها فيدخل في فردوسها الأبهى، ويخلد في نعيمها الأبديّ، مع الخالدين. أتراك حين تبتدئ بطوافك من الحجر فتلمسه قاصداً أنَّك تبايعُه وتأخذ العهد منه وتقبِّله كأنَّك تقبِّلُ يدَ الرّحمن، وإنَّه قد نزل أبيض من اللُّجين ولكنَّ ذنوب العباد كَسَته حلَّةَ السَّواد، كناية أنّه تحمَّل ذنوبهم وتعهَّد بغفرانها من خالقهم.
أرأيتَ كيف ينقلب الطَّائف حول الكعبة بعد الفراغ من طوافه إلى مقام إبراهيم فيصلِّي فيه، إشارة إلى أنَّه بعد طوافه على القلب قام مقام أبيه إبراهيم في دعائه إلى الرَّبّ: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.. ﴾ البقرة:129 ﴿..وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ البقرة:128.
أتراه حين يَنفلت بعد الفراغ من الطَّواف إلى السَّعي بين الصَّفا والمروة مُهروِلاً يدفعه الشَّوق، حذار أن تعرضَه خطراتُ الوسواس فتكون حجرَ عثرةٍ في طريقه إلى مشاهدة الحقِّ، وتُكدِّر عليه ذلك الصَّفا المتجلّي عليه من أشعّة تلك اللّمعات. والصّفا هو الصّخرة الّتي وقف عليها نبيُّ الرّحمة في أوَّل دعوته النّاسَ إلى التّوحيد، والدّخول في دين الإسلام، والتّخلِّي عن عبادة الأصنام، وما بين الصَّفا والمروة هو الموقع الّذي سعت فيه هاجر أمّ إسماعيل سبع أشواطٍ في طلب الماء لولدها الّذي تركته في المسجد الحرام حول الكعبة، ولمّا أَيِسَت رَجعت لِولَدها، رجعت إليه فوَجدت ماء زمزم قد نبَع من تحت قدمَيه.
ثمّ بعد إكمال السّعي يقصِّر من شعره، ولعلّه إشارة إلى أنَّ السَّالك إلى الحقِّ مهما جَدَّ في المسير، فإنَّ مصيره ومنهاه إلى القصور في شعوره، أو التّقصير. فإذا عَرف قصوره، واعتَرَف به، حلَّ من إحرامه، وأحلَّ اللهُ له الطّيّبات الّتي حرَّمها عليه، ورجع من الحقِّ إلى الخلق، وهو أحد الأسفار الأربعة، وإلى هنا تنتهي عُمرَتُه.
ثمَّ يوم الثّامن يوم التّروية يعقد الإحرام ثانياً، وهو إحرام الحجّ، ويتوجَّه إلى مِنى وقبل ظهر يوم التّاسع يكون في عرفات من الظَّهر إلى غروب الشّمس، ثمّ يفيض إلى المشعر، وقبل طلوع الشّمس يعود إلى منى، فيأتي بمناسكها الثّلاثة: الرّمي، والذّبح، والحلق يوم عيد الأضحى، وبعد الحلق يحلّ من كلِّ ما حُرِّم عليه بالإحرام إلّا الطِّيب، والصَّيد، والنِّساء.
ثمّ يعود إلى مكّة، لإحرام الحجّ ويحلّ له بعده الصّيد، والطِّيب؛ ثمّ يعود إلى منى ويَبيت فيها ليالي النّفر؛ الحادية والثّانية عشر ويرمي الجمرات في اليومين، أو الثّلاث بعد الأضحى ثمّ يطوف طواف النّساء فتحلّ له.
وهنا تنتهي أعمال الحجّ والمناسك بأجمعها وفي كلِّ واحدٍ من هذه الأعمال رموز وأسرار وحِكَم ومصالح، لو أردنا شرح بعضها فضلاً عن كلِّها، لاحتَجنا إلى مؤلَّفٍ مستقلٍّ لا نستطيع القيام به، وقد وهن العظم منّي واشتعل الرّأسُ شَيباً.
أسرار الحجّ: خاصّة وعامّة
ولكنّ ليعلم أنَّ الأسرار والمصالح الّتي في الحجّ، بل وفي كلِّ عبادة، نوعان: خاصّة وعامّة.
أمَّا الخاصّة، فهي الأسرار الّتي يتوصَّل إليها السّالكون، والعلماء الرّاسخون، والعرفاء الشّامخون، ولا تنكشف أستارُها وكنوزُها لعامّة النّاس، بل ولا يتصوَّرها بلمحِ الخيال أحدٌ منهم.
وأمَّا العامّة، فهي الواضحة المكشوفة الّتي يستطيع كلُّ متفكِّرٍ ومتدبِّرٍ أن يعرفها ويتوصَّل إليها. وأعظمها وأهمّها وأجلى المصالح والأهداف الّتي يرمي إليها ويتطلّبها على الظّاهر المكشوف والّتي يدركها كلّ ذي شعور هي النّاحية الاجتماعيّة، ومن المعلوم أنَّ الإسلام دينٌ اجتماعيٌّ وقد أعطى للنّواحي الاجتماعيّة أعظم الأهمّيّة؛ فشرّع صلاة الجماعة في مسجد المحلّة كلّ يوم ثلاث مرّات أو خمس، وصلاة الجمعة في المسجد كلّ أسبوع، وصلاة العيدَين لعموم أهل كلّ بلد وضواحيها كلّ سنة مرَّتين. ولم يكتفِ بذلك كلّه، حتّى دعى إلى مؤتمرٍ عامٍّ من المسلمين المتفرِّقين في أقطار الأرض الشّاسعة في صعيدٍ واحدٍ، ليتعارفوا أوَّلاً، فإذا تعارفوا تآلفوا، وإذا تآلفوا تكاتفوا، وصار كلُّ واحدٍ منهم قوّةً للآخر يتفقَّد شؤونه، ويشاركه في سرّائه وضرّائه، ونعيمه وشقائه، فتكون من ذلك للمسلمين قوّة هائلة، لا تقاومها كلّ قوّة في العالم.
والمسلمون يا للأسف، لو كان يُجدي الأسف، إنّهم لمّا فاتهم الحِجى واللّبّ أصبحت أعمالهم بل وعباداتهم قِشراً بلا لبّ، يجتمعون وهم متفرِّقون، ويتقاربون وهم متباعدون، متقاربة أجسامُهم متضاربة أحلامُهم، يحجُّون ولا يتعرَّف أحدُهم إلى أخيه ولا يرى إلَّا صورته، ولا يعرف شيئاً من أحواله بل ولا اسمه، وبهذا ومثله وصلنا إلى الحال الّتي نحن فيها اليوم، فلا حول ولا قوّة، وبالله المستعان على هذا الزّمان وأهل الزّمان .
المصدر: كتاب الفردوس الأعلى