من الفج العميق الى البيت العتيق

السبت 11 أغسطس 2018 - 12:15 بتوقيت مكة
من الفج العميق الى البيت العتيق

مقالات – الكوثر: بينما تمضي في مناسك الحج، تبتعد رويدا رويدا عن نفسك، عن ضعفك، عن سلبيتك، عن سطحيتك، عن تسرعك، عن قلة صبرك، عن كبريائك، عن حدودك التي وضعتها بنفسك لنفسك.

 

هاجر معزوز

الحج أكبر من أن يعتبر محطة لغسل الذنوب تبقى حكرا على من بلغ به الكبر عتيا، الحج هو الفريضة الوحيدة التي وجبت مرة واحدة في العمر، لأنه زاد للعمر كله، الحج يجعلك تعيش الكثير من التجارب والتحديات العميقة جدا في أيام معدودات وأمكنة معلومات، الحج مدرسة.. دروسه تقوم الحياة، توجه القلوب، تضبط النفوس وتمتحن أعلى درجات صبرك واحتمالك وعطائك.

 

الحج تجربة فريدة وجديدة ومختلفة عن كل ما عشته من قبل، وسفر غير الذي عزمت عليه من قبل، وكأي سفر لا بد من عدة واستعداد، غير أن الاستعداد للحج راق برقي العبادة وفريد بتفردها. في البداية تذكرك قطعتا الثوب الأبيض-الإحرام- بمآلك الأخير فتستحضر بشكل دائم تلك اللحظات الأخيرة وتعمل على ردع نفسك وتقويمها باستمرار، عندما تحرم تستغني عن كل زينة تبعدك عن ذاتك الحقيقة فتتصالح مع جسدك وتتصالح مع نفسك بمحاسنها وعيوبها، بمرضها وصحتها، بهوانها وقوتها، أنت في حالة تجرد من الأقنعة التي تحيط نفسك بها منذ استيقاظك في أيامك الروتينية من قبل.

 

ثم تقبل بعد إحرامك على مكة مشتاقا، مستسلما، ملبيا وقد تركت وراءك كل ما يمكن أن يثقل روحك من ترسبات أفسدت فطرتك وتصنعا دائما لشخصية غير التي جبلت عليها وأخلاقا غير التي ترجوها ونفسا غير نفسك. في أول دخول لمكة تنتابك رهبة لم تشهدها في مكان غيرها وقدسية عجيبة تسمو معها في جو روحاني نقي يعم المكان.

 

في منى تغرس فيك قيمة التسامح أكثر من أي وقت مضى حين تتقاسم نفس المحيط المحدود المساحة وما تيسر من قوت ومساحة نوم مع أشخاص من جنسيات مختلفة.

 

يأتي الطواف بعد ذلك ليعلمك أن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وأن التدرج في كل شيء يحقق المراد، الطواف حركة دائرية مستمرة، التغيير الذي ستحس به هو نتاج استمرار طوافك وليس بوصولك لآخر شوط، تستحضر إذا أن العبرة والدروس والمشاعر والنجاحات كلها متجسدة في الطريق لا بنقطة النهاية فالعبرة بالحركة لا بالوصول. ثم تحلق بعد آخر شوط حلقا متخففا به من أولى أثقالك وأغلالك التي ستتحرر منها شيئا فشيئا وأنت ماض فيما تبقى من المناسك.

 

بعد مرورك بالواد الذي تتوسطه الكعبة يحتضنك واد منى، فهي أيضا واد تحيط به الجبال، وكأنك تنتقل من حضن الكعبة إلى حضن منى وأنت الجديد العهد بهذه العظمة وهذه المناسك وهذه الهيبة ينتابك شيء من الذهول فتحتاج أن تكون في موقع شبيه بالحضن الذي يشجعك ويكون لك سلوى على العظمة والتجربة الروحانية الفريدة الذي لم تعهدها بعد. تجد نفسك تمشي في خشوع نحو موضع لم تطأه قدامك من قبل، كل ما تعرفه عنه هو تلك الصور التي شاهدتها من فوق في يوم ما أمام شاشة التلفاز. الآن أنت تخطو إلى منى وتراها بوجه أخر، تراها عن قرب، خيم بيضاء لم ترض غير لون الإحرام كسوة.

 

في منى لا مجال لحضور ملهيات، الوقت كله بين يديك لتتفكر وتتذكر. في منى تغرس فيك قيمة التسامح أكثر من أي وقت مضى حين تتقاسم نفس المحيط المحدود المساحة وما تيسر من قوت ومساحة نوم مع أشخاص من جنسيات مختلفة، فتستحضر أن العالم أكبر مما كنت تتصور، فتقارن منجزاتك بمنجزاتهم، وظروف عيشك بظروفهم، وطموحاتك بطموحاتهم، ونظرتك عن الإسلام ونظرتهم، فتحس بتوسع مداركك شيئا فشيئا متحررا من نظرتك المحدودة المدى المتمركزة فقط على اهتماماتك ومحيطك الضيق فيبعث ذلك فيك شوقا للتعارف مع شعوب وقبائل أخرى فتخرج من ذلك الإطار الضيق جدا الذي وضعت به نفسك لسنوات وجعلت نفسك محور نفسها ولم تحقق آية الله في كونه أن "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا".

 

منى تهييئ ليوم الحج الأكبر –يوم عرفات-، فسبحان الحكيم الذي علم إقبالنا مثقلين بترسبات السنين، بأخطاء الماضي وتعثرات الطريق فعلم أن دخولنا المباشر في يوم الحج الأكبر صعب على نفوسنا التي لم تتعود بعد على عظمة الموقف فيهيئ النفس لقربه في أكثر الأيام جلالا. ويأتي شروق يوم عرفات الذي يذكرك بالشروق الذي يلي ليلة القدر، شروق خاشع يحنو بأشعته برفق على ضيوف الرحمن وكأنه يبشرهم بما سيلقونه من عظيم العفو. وأنت في غمرة عدم تصديقك بتوفيق الله لك أن كتب لك أن تطأ أقدامك هذا المكان في هذا الوقت بالذات، تشهد جوارحك سكينة لم تشهد لها مثيلا كيف لا وأنت تستشعر القرب، كيف لا وقد وعدنا أنه دان منا مباه بنا ملائكته، ونحن المقصرون، الضالون المتعثرون باستمرار. تذكرك أصوات التلبية في كل مكان أنك فعلا تشهد يوم الحج الأكبر فتشمر وتَعِده سبحانه ألا ينقضي اليوم إلا وقد بذلت كل ما بوسعك ليتقبله منك، وتجتهد من بين كل العبادات في الدعاء، فأفضل الدعاء دعاء يوم عرفات.

 

إن فهم المعنى الحقيقي للدعاء من أعظم دروس الحج وهو يتجسد بشكل كبير يوم عرفات. لقد شب كل منا على هذا المفهوم، متى يطلب منا الآخرون الدعاء أو يذكروننا به؟ عندما نمر بأمر عصيب او عندما نسأل التوفيق والتيسير في أمر ما لأنفسنا ولغيرنا، قلصنا معناه في ذلك فحسب، لكن في عرفات نتعلم أن معنى الدعاء أشمل وأجل، في عرفات تتعلم أن الدعاء تعظيم له، أن الدعاء حمد وشكر، أن الدعاء رجاء، أن الدعاء تذكير لك بذُلِّك وعبوديتك وأنه لا توفيق إلا منه. الدعاء سند للأسباب المادية بحيث لا يقوم تحققها إلا به، إنه تذكير لك باحتياجك المستمر ليَدٍ تقوم زلاتك وتسندك عند ضعفك وترحمك عند ألمك وترأف بك عند توبتك وترشد عند حيرتك.

 

بعد درس امتد من طلوع الشمس الى غروبها، احرص ألا ترحل إلا وقلبك واثق مطمئن واثق بأنه استجاب وسيستجيب وغفر وسيغفر وتقبل وسيتقبل، فلا يغلب على ظنك غير ذلك حتى تنال العلامة الكاملة. تترك عرفات فرحا بما لقيت من الرضا والسكينة والقرب، روحك متأرجحة بين لذة المغفرة وثقل المسؤولية، فأنت مقبل على ليلة صفيحتك فيها بيضاء، حاملا ثقل مسؤولية العهد الذي أمضيته ألاّ ترجع إلى ما كنت عليه…لائحة بنود العهد طويلة وأنت عاهدت عظيما.

 

تمضي لمزدلفة متخففا من أسمال الماضي مثقلا بثقل العهد الجديد، في تلك اللحظة تود لو تهنئ كل من حولك من الحجاج، مع أنك ترى ما ينتابك في أعينهم جميعا، مفترشين الأرض، نعم فالأمر لم ينته بعد. درس الاستسلام والخضوع والذل والعبودية لا زال قائما فكل ما تكرر الدرس تقرر وما أصعب أن يتقرر في قلب تعود الأنفة والكبر والتمحور حول الذات، تفترش صعيد مزدلفة وقد نال منك التعب لكن النوم يفارقك وقلبك مندهش بمنظر الكل. للحظة تتأمل الوجوه حولك كما لم ترها من قبل فكل منهم أشعث أغبر لكن علامات الرضا والطمأنينة والأمل تعلو أساريره، وقلما ترى هذا المزيج الذي يجعل المحيّى أكثر بهاء فتسعد نفسك وتنشرح بمجرد رؤيته. بعد أن جددت العهد بعد عرفات ومزدلفة تستجمع قواك لتسير نحو جمرة العقبة الكبرى وتستكمل ما تبقى من الشعائر العظيمة.

 

ثم يحين وقت الرحيل أو بالأحرى وقت فطام يضاف لقائمة ما اضطررت لأن تُفطم عنه من قبل، لكن الأمر في الحج أكبر وأشد. إن هذا الرحيل هو جزء من الشعائر نفسها، في الحقيقة أنت لم تمر بكل ما مررت به من عبر وتجارب وعلامات لتختزن تلك التجربة العظيمة لنفسك، لم تولد من جديد لتعود الانسان الروتيني العديم الوجهة والآفاق الذي جئت أصلا لتتخلص منه.. عظم هذه العبادة أعظم من اختزالها في لقب مسمى – حاج -، بل هو بصمة تذكرك باستمرار أنك عاهدت عهدا عظيما وأُعطيت فرصة أعظم، فاعتبر ثم الزم واحرص على ألا تعود لفج روحك القديم الذي عاهدت ربك ونفسك ألا تعود إليه.

 

110

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 11 أغسطس 2018 - 12:15 بتوقيت مكة
المزيد