السيد محمد تقي مدرسي
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }(1) .
لو أن كل حاج قد دعي إلى ضيافة الله سعى إلى التعمق في الآية المباركة المذكورة أعلاه ، وتأمل في أفكارها ومعانيها وبصائرها ، واستفاد من توجيهاتها ، لاستطاع أن يجعل حجه حجاً مبروراً ومباركاً ، ولاستفاد منه في الدنيا ، ولجعله عوناً له في الآخرة ، فهي آية قصيرة ولكنها ذات معانٍ كبيرة جداً دون أدنى شك .
إعلموا إن الحج ليس سفرة عادية ، وليس رحلة ترفيهية ، وهو ليس كسائر الفرائض الأخرى التي تتكرر مثل الصلاة والصيام ، بل هو فريضة لا يوفق إلى أدائها إلا من دعي إليها دعوةً خاصة . فأنت ـ أيها الحاج ـ في أية بقعة من الأرض كنت ، قد وصلتك إشارة ونور من الله سبحانه وتعالى ، كما قد أتتك دعوة من رسول الله وأهل بيته صلى الله عليهم أجمعين ، وفور تسلمك لهذه الدعوة واستقبالك لهذه الإشارة وهذا النور يتولد في قلبك إحساس خاص ، فتراك تصرف الأموال وتتحمل مشاق السفر ومعاناة الغربة ، فتتجاوز جاذبية الأهل وتندفع نحو تلبية نداء النبي إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أمره الله عز وجل بالأذان به في الناس وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم . فكنت ممن لبى هذا النداء الإلهي واستعد لدخول هذه الضيافة الرحمانية ، فقد تحج مرة واحدة ، لأنك لبيّت ـ وكنت لمّا تخلق بعد ـ مرة واحدة ، وقد تحج عشر مرات لأنك كنت قد لبيّت عشر مرات .
كان البعض من الحجاج يستغرق حجهم سنة كاملة أو أكثر من ذلك ذهاباً وأداءً وإياباً ، وكانت رحلة البعض الآخر تستغرق أشهراً ، ورغم تطور وسائل النقل في العصر الحاضر إلاّ أننا ما نزال نرى هذا الحاج أو ذاك قد صرف من وقته عشرات الساعات حتى يصل إلى هذه الأرض المقدسة بسبب مشاكل المطارات الفنية والقانونية ، بل حتى رأينا من طالت سفرته إلى الحج ثلاث سنين … لأنه جاء سيراً على الأقدام من أقصى الأرض . وهؤلاء كلهم يدفعهم ، أو لنقل يجذبهم شعور قلبي وروحي خاص للتوجه إلى بيت الله الحرام ، بل وإلى الآخرة برمتها .
وها هو الحاج ، حيث يتجاوز كل هذه المصاعب ويتحمل كل هذه المشاق تراه عرضة لوساوس الشيطان ، ليحرفه عن اهتماماته الحقيقية ، وليوجهه إلى التفكير بتوافه الأمور ، كشراء بعض الحاجيات والمأكل والنوم والمشاكل الجزئية الأخرى . . وذلك كله لينسيه حقيقة أنه إنما جاء إلى بيت الله الحرام لكي يخوض تجربة تربوية قد لا يوفق إليها مرة أخرى .
إن الحاج يجب أن يضع في حسبانه ويعلم يقيناً بأن فريضة الحج عبارة عن إرادة إلهية قاطعة في تطهير الحاج من ذنوبه وتأهيله تأهيلاً جديداً إلى خوض الحياة مرة أخرى وفق أصول الإيمان والتقوى وسلامة القلب . وهذا ما ليس له أن يحدث في الإنسان دون تحمل المشاق والمعاناة والتعب والعبادة والطاعة والالتزام وسهر الليل وجهد النهار وبذل المال ، فيرجع فاعل ذلك والتخرج من هذه الدورة الإيمانية الخاصة والمكثفة كيوم ولدته أمه ؛ ولادة جديدة بالمعنى الكامل .
أما لو بقي الكبر والضغينة والحسد والحمية والأنانية والطمع وغير ذلك من الأمراض النفسية عالقاً في قلب الحاج بعد انتهائه من موسم الحاج ، فإنه لن يستفيد شيئاً من حجه .
إن كل شخص يقدم إلى أداء فريضة الحج، إنما يقدم لأنه يحس بوجود مثل تلكم الأمراض النفسية في قلبه ، نظراً لأن واقع المجتمعات ومحيطها ليس ذلك الواقع والمحيط النزيه . فعليه ـ والحال هذه ـ أن يعتبر نفسه مريضاً ، وأن المستشفى هي هذه الأرض المقدسة ، وأن الطبيب هو الله رب العالمين الذي يعطي إرشاداته .
ومن جملة هذه الإرشادات الإلهية للحاج في أشهر حجّه ، هي معرفة أنه يلبي دعوة الله الخاصة معرفة حقيقية ، فيتجرد من ملابسه التي ترمز إلى ظاهرة ، فيلبس ملابس إحرامه التي ترمز إلى البساطة والنزاهة بلونها الأبيض المستحب ، فيقول رافعاً صوته دونما غش أو شك : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك" فيعرف إلى ومع من يتكلم .
ثم إنه عليه الالتزام بتروك ومحرمات الإحرام التي تبلغ أربعة وعشرين تركاً ؛ فيتخلى عن الزينة واستخدام العطر والاكتحال ، ليعلن توبته إلى ربه ويقبل عليه على حقيقته .
ثم يمتنع عن النظر إلى نفسه في المرآة ، ليعلن أنه قد جاء إلى الحج ليرى وجه ربه الكريم لا إلى نفسه أو أنانيته . إذ أن من فرائض الحج حمل الحاج ذاته على العودة إلى طبيعتها الأولى المجردة .
والحاج أيضاً مفروض عليه الابتعاد عن مختلف القضايا المرتبطة بالجنس ، حتى عقد النكاح أو الشهادة عليه .
أما فيما يخص تشذيب الجانب الفكري والأخلاقي ، هناك فريضة الابتعاد عن الجدال والفسوق الذي فسرته النصوص الشرعية وفتاوى الفقهاء الأعلام بأنه الكذب ، وكل ما من شأنه المساس السيئ بشخصية الطرف الآخر ، وكل ما يخرج المرء عن نطاق الإيمان . وقد قال ربنا سبحانه وتعالى موضحاً معنى الفسوق بشكل خاص: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2). أي بئس كل ما كانت طبيعته تخريب الإيمان ، ولا سيما المواقف التي تطفح بالأنانية سيئة الصيت ، وهي المرض الذي طالما عانى منه الإنسان ، وطالما دفعت جراءه الخسائر الفادحة ، لأنها زنزانة عتيدة يكبل الإنسان نفسه بأثقل القيود وأبشعها ، وتمنعه دون الانعتاق والتحليق في عالم الحرية والعطاء .
وعليه ؛ فإنه من الحري بالحاج أن يبحث بحثاً جاداً ودقيقاً عن المواقف والحالات التي من شأنها القضاء على أنانيته ، كخدمة الآخرين وإغفال موقعيته الاجتماعية أو ما يحمله على توهم عظمته وتفوقه على غيره . فهو مهما يكن لا يعدو أن يكون عبداً من عبيد الله .
وعلى صعيد آخر يقول ربنا تبارك وتعالى: { ... وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ..}(3) . بمعنى قبح أن يبخل الحاج على نفسه من عمل الخير وذكر الله الدائم وتسبيح اسمه وأداء المستحبات من الصلاة والدعاء للمسلمين وتقديم الصدقات في موسم الحج ، لا سيما وأن الله سبحانه وتعالى يضاعف ثوابه للحجاج على أعمالهم الخيرة ، فهذه الأرض الطيبة فيها يتضخم الجزاء الطيب .
ثم يقول تعالى في إطار تبيينه لبصيرة أخرى عظيمة : {... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ... ﴾ (4) . أي أن التقوى هي الهدية التي يجب أن يهديها الحاج لنفسه ، وذلك لأسباب عديدة ، منها أن زاد التقوى هو الحصن المنيع دون استيلاء الفتن وسيطرتها عليه . فالتقوى هي العامل الأهم بعد رفد الله ونصره لعباده في مقاومة الفتن والانتصار عليها ، سواء كانت فتن الدنيا أو الآخرة 4 .
الهوامش:
1-القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 197 ، الصفحة : 31 .
2- القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 11 ، الصفحة : 516 .
3-القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 197 ، الصفحة : 31 .
4-في رحاب بيت الله ، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي ، الفصل الأول : نور المعرفة . و هذا الكتاب مجموعة من خطب و كلمات ألقاها سماحته في سفرة الحج على حملات الحجاج من أطراف الأرض وأكنافها .
المصدر: موقع الإشعاع الإسلامي