آخر فرصة مُتاحة أمام أنقرة لبلورة موقفها النهائي من أجل حل ملف إدلب بما لا يخرج عن الخطوط العريضة التي حكمت مختلف مناطق خفض التصعيد، بما فيها منطقة الجنوب التي كانت برعاية أميركية. فهل تقتنص أنقرة الفرصة أم تستمر في تخبّطها بإدارة الملف بما يُهدّد آخر ما تبقّى لها من مصالح محفوظة في المنطقة؟.
خِلافاً لظاهرِ التصريحات والمُبادرات التركية حول محافظة إدلب الذي يوحي باتّخاذ أنقرة موقفاً مُتشدّداً إزاء أية عملية عسكرية للجيش السوري في آخر قلاع الفصائل المُسلّحة في الشمال السوري، تُشير قراءة أوليّة لما بين أسطر تصريحات المسؤولين الأتراك وفي ثنايا أوراق المُبادرات وآخرها "الورقة البيضاء" أن القيادة التركية ليست في وارِد أن ترفع سقف مطالبها في منطقة خفض التصعيد الرابعة (إدلب وما حولها) أكثر مما فعل الكيان الصهيوني بخصوص ملف الجنوب، وأن العودة إلى تفعيل "اتفاق أضنة" الأمني قد يكون غاية ما يمكن أن تصل إليه أنقرة كما كانت العودة إلى اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974، غاية ما أمكن للإسرائيلي أن يصل إليه بعد صولات وجولات شديدة حاول من خلالها تغيير قواعد اللعبة وتعديل شروط الاتفاق لصالحه، من دون جدوى.
وفيما اكتفى المسؤولون الأتراك بالتهديد بانهيار جوهر اتفاق خفض التصعيد ردّاً على أية عملية عسكرية في إدلب، ما يترك الباب مفتوحاً أمام سيناريو التسويات والمُصالحات كما حصل في درعا والقنيطرة، تضمّنت الورقة البيضاء، التي تقدّمت بها أنقرة إلى موسكو لإيجادِ حلٍ نهائيّ لموضوع إدلب، اعترافاً تركياً بالعجز عن تلبية أهم شروط اتفاق خفض التصعيد ، وهو القضاء على التنظيمات الإرهابية مُمثّلة بشكلٍ خاص في هيئة تحرير الشام، لأن المعلومات المُسرَّبة حول الورقة تضمّنت إشارة إلى نيّة تركيا عقد مؤتمر عام للفصائل المُسلّحة بما فيها هيئة تحرير الشام ومُطالبتها بتسليم سلاحها الثقيل. وهذا يعني أن أنقرة ما زالت تُراهِن على أمرين أقرب ما يكونان إلى المستحيل، الأول هو إقناع موسكو بإمكانية إعادة دمج هيئة تحرير الشام ضمن هيكلية جديدة للفصائل وإبعادها عن دائرة التصنيف الإرهابي. والثاني رِهانها على إمكانية الضغط على هيئة تحرير الشام للخضوع لمطالبها وإجبارها على تسليم سلاحها ، وهو ما لا يمكن أن تقبل به الهيئة تحت أيّ ظرف لأنها تُدرِك أنه بمثابة الاستسلام التام للمشيئة الاقليمية والدولية.
ولا تقتصر الأمور على ذلك بل يبدو أن الأتراك تحدّثوا مؤخّراً في بعض اجتماعاتهم مع قادة الفصائل المُسلّحة المُقرّبة من أنقرة بما يوحي بوجود تراخٍ تركي في موضوع إدلب ، بدأ يُشعِر قادة هذه الفصائل أن سيناريو الجنوب وتخلّي الولايات المتحدة عن دعم الفصائل هناك يبدو هو الأقرب إلى التطبيق في الشمال السوري لكن هذه المرة على يد تركيا. ومن هنا يمكن فَهْم تصريح حسام سلامة القيادي في "أحرار الشام" و"جبهة تحرير سوريا" حول وجوب عدم الاعتماد على الموقف التركي لوحده.
وأهم العوامل التي تشكّل قوّة ضغطٍ على الموقف التركي ومدى حدّته في الشمال السوري عاملان أساسيان هما: انتهاء مدّة اتفاق خفض التصعيد في شهر أيلول المقبل ، ووجوب تجديدها بتوافقٍ قد لا يكون متيسّراً بين الدول الضامِنة الثلاث روسيا وتركيا وإيران، ما ينزع من يد تركيا التلويح بورقةِ الاتفاق وشروطه. والثاني الملف الكردي الذي يُشكّل هاجِس أنقرة الجوهري في سوريا. إذ لا شك في أن التقارُب الأخير بين الكرد ودمشق والحديث عن مفاوضات بين الطرفين لحل الخلافات بينهما في الشرق السوري سيشكّلان مصدر قلق لأنقرة التي لا تريد أن ترى للكرد أيّ دور في مستقبل سوريا. وفي هذا السياق قد تكون تصريحات القادة الكرد حول استعدادهم للمُشاركة في العملية العسكرية في إدلب رميةٌ من غير رامٍ ستُصيب آمال أنقرة في مقتلٍ، وتدفعها إلى التعجيل في إيجادِ صيغةٍ لحلِ ملفِ الشمال السوري بما يضمن لها إبعاد الشبح الكردي عن شريطها الحدودي.
في غضون ذلك بدأ الجيش السوري بحشد قوّاته على جبهات إدلب والمناطق المجاورة لها، لا سيما في ريفيّ اللاذقية وحماة الشماليين، على نحوٍ يُذكّر بخطّته لاختراق منطقة الجنوب انطلاقاً من ريف السويداء الغربي، لتشكيل قوّةِ ضغطٍ عسكري على المنطقة تكفي لوضعها على صفيحٍ ساخِنٍ مستفيداً من زُخم النار التي لم تخمد بعد في منطقتيّ درعا والقنيطرة. وبالتزامُن مع هذا التحرّك العسكري توجد مساعٍ سورية للتواصل مع فعاليات أهلية واجتماعية وسياسية واقتصادية في محافظة إدلب، تهدف بشكلٍ أساسي إلى إيجاد نسيجٍ شعبي داعِمٍ للعمليةِ العسكرية من جهة ، ودافِع نحو المُصالحات والتسويات من ناحيةٍ ثانية. وذلك بالإضافة إلى جهود استخبارية كبيرة لاختراق صفوف الفصائل المُسلّحة وكوادرها الإعلامية من أجل إظهار مدى تهالكها وانهيارها في اللحظة المناسبة.
الوقت لا يسير في صالح أنقرة، وقد يكون الاجتماع المُرتَقب بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيّب أردوغان على هامش قمّة دول "بريكس" في أواخر الشهر الحالي ، آخر فرصة مُتاحة أمام أنقرة لبلورة موقفها النهائي من أجل حل ملف إدلب بما لا يخرج عن الخطوط العريضة التي حكمت مختلف مناطق خفض التصعيد ، بما فيها منطقة الجنوب التي كانت برعاية أميركية. فهل تقتنص أنقرة الفرصة أم تستمر في تخبّطها بإدارة الملف بما يُهدّد آخر ما تبقّى لها من مصالح محفوظة في المنطقة؟.
* عبد الله سليمان علي .. الميادين