جعفر البدري
توقيع الامام المهدي (عليه السلام) الاخير لنائبه الرابع الشيخ علي بن محمد السمري (رحمه الله)
من اهم ما تملكه المصادر الشيعية من نصوص تؤرخ بداية الغيبة الكبرى بإعلام من الإمام المهدي (عليه السلام) هو آخر توقيع له خرج على يد نائبه الرابع السمري (رحمه الله)، حيث أخبر صلوات الله عليه السمري (رحمه الله) بوفاته، ونهاه من الوصية لأحد بمقامه، لأن السفراء كانوا يوصون لمن يعينه الامام (عليه السلام)، ثم أعلمه بوقوع الغيبة الكبرى المعبر عنها في النص بالغيبة الثانية او التامة.
قال الصدوق (رحمه الله): حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المكتِّب قال: كنت بمدينة السلام (1)في السنة التي توفي فيها الشيخ علي بن محمد السمري قدس الله روحه، فحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعا نسخته:
"بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمد السمري، أعظّم اللَّه أجر إخوانك فيك فإنّك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فأجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية(2)، فلا ظهور إلا بعد إذن اللَّه عزَّ وجلَّ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتيAnchor(3) من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم".
قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عُدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيك من بعدك؟
فقال: لله أمر هو بالغه. ومضى رضي الله عنه، فهذا آخر كلام سمع منه.(4)
هذا هو آخر توقيع صدر من الامام المهدي (عليه السلام) للنائب الرابع السمري أعلى الله مقامه وهو بمثابة رسالة منه عليه السلام لشيعته، وقد اُحيط هذا التوقيع بإشكالات، منها ما يرتبط بالسند، ومنها ما يرتبط بدلالة المتن، نحاول ههنا تسليط الضوء على الجانبين.
السند: روى الصدوق (رحمه الله) – وهو أجل من أن تخفى وثاقته على احد – هذه الرواية من طريق المُكتِّب(رحمه الله) عن السفير الرابع علي بن محمد السمري'>السفير الرابع علي بن محمد السمري (رحمه الله) والذي أجمعت الإمامية على كونه في أعلى درجات الوثاقة والاعتبار لإسناد السفارة إليه، فمن هو (المكتِّب) الذي روى عنه الصدوق(رحمه الله)؟
ذهب المشهور الى جهالته لعدم تعرض الرجاليين والعلماء القدماء له لا بمدح ولا بقدح بل وعدم ذكر اسمه في مصنفاتهم الرجالية، وغاية الأمر ان الصدوق (رحمه الله) ترضى عليه وترحم!
قال السيد الخوئي (رحمه الله): (الحسن بن أحمد المكتب: أبو محمد، من مشايخ الصدوق – قدس سره – ترحم عليه(.(5)الا إن السيد محمد علي الموحد الأبطحي (رحمه الله) ذهب الى ان هذا الرجل هو نفسه الحسين بن ابراهيم بن احمد بن هشام المكتب المؤدب، بقرينة ذكره في الرواية السابقة على رواية التوقيع الاخير باسم (الحسين).
قال الصدوق (رحمه الله): حدثنا أبو محمد الحسين بن أحمد المكتب قال: حدثنا أبو علي بن همام بهذا الدعاء، وذكر أن الشيخ العمري قدس الله روحه أملاه عليه وأمره أن يدعو به وهو الدعاء في غيبة القائم عليه السلام: (اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك ...الخ).(6)
قال السيد الأبطحي (رحمه الله): (إن الاقتصار على اسم أبيه أو مع ذكر جده احمد أو ذكره كما تقدم في العنوان(7)لا يدل على التعدد وذلك بقرينة من روى عنه فلاحظ(8).
لو تتبعنا من لقب بالمُكَتِّب من شيوخ الصدوق (رحمه الله) فهم ثمانية، ومَن كان منهم اسمه الحسن او الحسين فهما: (الحسن بن احمد، والحسين بن ابراهيم بن احمد بن هشام)، فوفقا لما ذهب إليه السيد الأبطحي (رحمه الله) ظهر اتحادهما، وان الحسن مصحف عن الحسين، حيث قال: (ثم إن الموجود في الكتب وروايات الصدوق (رحمه الله) (الحسين) مصغرا، إلا ما تقدم عن موضع من الاكمال والغيبة وهو الأنسب لتكنيته بأبي محمد، إلا أنه بعد عدم الملازمة بين التسمية بالحسن والتكنية بأبي محمد فالأظهر ما عليه كتب الأصحاب ورواياته من الضبط بالحسين مصغرا(9).
ولو ثبت أن الراوي هو نفسه الحسين بن ابراهيم بن احمد بن هشام – وهو كذلك – الذي لقب بالمُكتِّب تارة واُخرى بالمُؤدّب، فما هو حاله؟
ايضا ذهب المشهور الى جهالته لعدم تعرض الرجاليين والعلماء القدماء له لا بمدح ولا بقدح بل وعدم ذكر اسمه في مصنفاتهم الرجالية، غاية الامر ان الصدوق (رحمه الله) كان بين مترحم ومترضٍ عليه في كل الموارد التي ذكره فيها.قال السيد الخوئي (رحمه الله): هو من مشايخ الصدوق وقد ترضى عليه في جميع الموارد(10).
قال الشيخ النمازي (رحمه الله): (من مشائخ الصدوق (ذكره) في كتبه مترضيا عليه)(11).
قال السيد الأبطحي (رحمه الله): (كان الحسين من مشايخ الصدوق (رحمه الله)، روى عنه في كتبه كثيرا مترضيا مترحما عليه).(12).
قال ابن حجر: (الحسين بن إبراهيم بن أحمد المؤدب، روى عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي وغيره، قال علي بن الحكم في مشائخ الشيعة، كان مقيما بقم، وله كتاب في الفرائض أجاد فيه، واخذ عنه أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه، وكان يعظمه)(13).
قال السيد الأمين (رحمه الله): (الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المؤدّب أو المكتّب، لم ينص على توثيقه سوى أن الصدوق أكثر من الرواية عنه مترضيا مترحما، وهو كافٍ في جلالته، وفي الرياض: الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتب: من أجلة مشايخ الصدوق)(14).
نعم ترضي الصدوق (رحمه الله) وترحمه عليه كاشف على اقل تقدير عن جلالته، بل ان ترضيه عليه في غالبية الموارد التي يذكره فيها إنما كاشف عن توثيقه له.
على فرض عدم ثبوت ما اوردناه، فهل تبقى الرواية معلولة من جهة الاسناد؟
إن هذه الرواية على الرغم من أنها خبر واحد، إلا أن جمهور علماء الإمامية قد عمل بها وتلقاها بالقبول، مما يعني إمكان معالجة علة الاسناد – على فرض عدم ثبوت ما اوردناه – ببعض القواعد الرجالية، نورد منها اثنتين:
الاولى: عمل المشهور ونصها: إن شهرة العمل برواية توجب الإطمئنان بصدورها وصحتها، قال الشيخ الايرواني: (وهذا الكلام جيد اذا كانت شهرة العمل ثابتة لدى الطبقة المتقدمة من علمائنا الذين عاصروا الغيبة الصغرى او قاربوا عصرها)(15)وعمل المشهور بهذه الرواية اجل من ان يخفى.
الثانية: رواية الثقة ونصها: إن الثقة لا يروي إلا عن ثقة، وهذه لا يمكن الاطمئنان إليها – على الاقل في هذا الموضع – لعدم تصريح الصدوق (رحمه الله) بعدم اخذه الرواية الا عن الثقة ولو في كتابه هذا، لكي نقول بوثاقة من يروي عنهم مباشرة.
بما ان الصدوق (رحمه الله) قد اكثر الرواية عن المكتب – كما صرح بذلك الأبطحي متتبعا – قال الشيخ الايرواني: (إذا أكثَرَ أجلّاء الثقات وكبارهم الرواية عن شخص فلا يبعد كونها دليلاً على الوثاقة لعدم إكثار العاقل الرواية عن شخص لا يعتقد بوثاقته، انه اتلاف لوقته بلا مبرر لعدم الفائدة في تجميع روايات عن الضعاف)(16) كذلك يمكن الاستناد الى قواعد اُخرى في التصحيح منها خاصة ومنها عامة:
فمن الاولى: ان الرواية صحيحة لنفسها، أي: (ان المتن يشهد لنفسه بالصحة لما فيه من قرائن تدل عليه) كما في قول الصاحب (عليه السلام): (إنّك ميت ما بينك وبين ستة أيام)، ثم حضور من اخذ الرواية في اليوم السادس عند السمري (رحمه الله) ليشهدوا تحقق اخبار الأمام (عليه السلام) بوفاة السمري (رحمه الله)، كذلك التركيز على ان السفياني والصيحة هما اهم العلائم للظهور الشريف وهو ما دلت عليه روايات اخرى ايضا، فالملاحظتان وغيرهما دليل على أن هذا الكتاب صادر من الحجة (عليه السلام).
ومن الثانية: ان الرواية صحيحة لغيرها، أي: (ان هناك قرائن خارجية محيطة بالمتن دلت على صحته)، كخروجه على يد آخر النواب اعلى الله مقامه، وتلقي علماء الطائفة له بالقبول.
والنتيجة هي صحة الرواية، إما من خلال القواعد المذكورة، أو من خلال ما عرفناه من كون هذا الرجل هو من شيوخ الصدوق (رحمه الله) وترضيه عليه يكشف عن توثيقه له، والله العالم.
قراءة في النص و تحليله:
إن هذا التوقيع الشريف يدل دلالة قاطعة على انقطاع السفارة، وهو ما يظهر من منع الإمام (عليه السلام) نائبه الرابع علي بن محمد السمري (رحمه الله) من الإيصاء الى اي احد يقوم مقامه في السفارة والبابية من بعده، بعبارة اخرى: إن الإمام (عليه السلام) منع السمري (رحمه الله) من ان يوصي الى اي احد في التصدي للسفارة من بعده، وهذا المعنى اوضح من أن يُختلف فيه ويُناقش، للإطلاق في قوله (عليه السلام): (ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية).
ثم إن الإمام (عليه السلام) يصرح في التوقيع مخبرا أنه: (سيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر)، وههنا بيت القصيد من التوقيع، فما هي المشاهدة المنفية – قبل السفياني والصيحة – التي صاحبها كذاب مفتر؟
في بدء الامر علينا معرفة معنى جذر المشاهدة (شهد) في اللغة:
قال ابن فارس: (الشين والهاء والدال أصل يدل على حضور وعلم وإعلام))(17).
والمشاهدة مفاعلة من اسم الفاعل (شاهد)، قال الراغب: (الشاهد: هو العالم بالشيء المخبر عنه)(18). وقال في موضع آخر: (الشاهد: هو المخبر عن الشيء مشاهدة؛ أما حسا أو عقلا)(19).
اذا فإن حقيقة المشاهدة هي المعاينة بالحضور المصحوبة بالعلم ثم الاخبار عما شوهد، وان الشاهد لا يسمى شاهدا حتى يخبر عما رأى، واما المشاهدة وجذرها شهد ففي المجاز تتسع لمعاني عديدة ليس هنا محلها.
إن الكلمة تُحكم بالسياق الذي تَردُ فيه وهو المحدد لمعاناها، وقد تبنى مشهور الامامية من معنى المشاهدة الواردة في التوقيع الشريف المعنى الحقيقي لها، قال العلامة المجلسي (رحمه الله): (محمول على من يدعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الاخبار من جانبه عليه السلام إلى الشيعة، على مثال السفراء)(20).
فتكون المشاهدة المنفية ههنا إنما معنى من معاني السفارة والبابية عنه صلوات الله عليه، وهو نقل الاخبار من جانبه الى الشيعة، واستلام الحقوق الشرعية منهم بأمره مباشرة وصرفها بما يأمر به صلوات الله عليه بالمباشرة، كما كان هو فعل السفراء اعلى الله درجاتهم.
ويشهد للمعنى المختار ما أوردناه من اللغة، بل وما ورد في الكتاب العزيز، قال تعالى اسمه: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)(21)، قال الزجاج: (شاهدا على امتك بالابلاغ، ابلاغ الرسالة)(22)، وقال الشيخ (رحمه الله): (يعني على امتك بالبلاغ والدعاء الى اخلاص عبادته)(23)
إن المشاهدة التي نفاها صاحب الامر صلوات الله عليه مدتها من بدء الغيبة الكبرى بوفاة السفير الرابع السمري (رحمه الله) حتى ظهور السفياني أو الصيحة، فإن في هذه المدة سيأتي للشيعة من يدعيها كما صرح الإمام (عليه السلام)، وهو اخبار منه بما سيقع في المستقبل وهو من القرائن التي تشهد بصحة الرواية، وقد شهدنا بالأمس ونشهد اليوم هذه النماذج، فمن ادعاها في المدة المُبيَّنَة انما هو كذاب مفتر كما قال الإمام (عليه السلام).
الهوامش:
(1) يعني بغداد.
(2)في رواية الطوسي: التامة.
Anchor(3) في رواية الطوسي: لشيعتي.
(4)الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: ٥١٦. ورواه الطوسي، الغيبة: ٣٩٥، قال: (وأخبرنا جماعة، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، قال: حدثني أبو محمد الحسن بن أحمد المكتب قال : كنت بمدينة السلام ...الخ)، وليس فيه ارسال كما قد يظهر بل ان الشيخ (رحمه الله) يرويه عن اساتذته ممن روى عن الصدوق (رحمه الله)، منهم الشيخ المفيد (رحمه الله).
(5)الخوئي، معجم رجال الحديث: ٥/٢٧٢.
(6)الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: ٥١٢
(7)اي: الحسين بن ابراهيم بن احمد بن هشام المؤدب المكتب.
(8) الابطحي، تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي: ٢/٣٧٣.
(9) الابطحي، تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي: ٢/٣٧٣. ولا يبعد ايضا ان الحسين بن ابراهيم متحد مع (الحسن بن إبراهيم ابن أحمد بن المؤدب) لكونه يروي ايضا عن احمد بن يحيى القطان، فيكون الحسن مصحف عن الحسين، والله العالم.
(10) الخوئي، معجم رجال الحديث: ٦/١٨٩، الحسين بن ابراهيم.
(11)النمازي، مستدركات علم رجال الحديث: ٢/٣٣٤.
(12) الأبطحي، تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي: ٢/٣٧٢.
(13) ابن حجر، لسان الميزان: ٢/٢٧١.
(14) الأمين، أعيان الشيعة: ٥/٤١١.
(15)الايراني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: ٢١٠.
(16) الأيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: ٢٥.
(17) ابن فارس، مقاييس اللغة: مادة شهد.
Anchor(18)الراغب، تفسير الراغب: ١/٣٣١، تحقيق ودراسة: د. محمد عبد العزيز بسيوني، نشر كلية الآداب/ جامعة طنطا.
Anchor(19)الراغب، تفسير الراغب: ٢/٥٨٧، تحقيق ودراسة: د. عادل بن علي الشِّدِي، نشر دار الوطن/ الرياض.
Anchor(20)المجلسي، بحار الأنوار: ٥٢/١٥١.
(21) الفتح: ٨.
Anchor(22)الزجاج، معاني القرآن: ٤/٢٣١.
Anchor(23)الطوسي، التبيان: ٩/٣١٨.
المصدر: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي