محمود الخطيب
خلال تصفح روتيني لمواقع التواصل الاجتماعي استوقفني فيديو منذ عدة أشهر لشيخ يحاضر بمجموعة من الحضور فسأله أحد السائلين "هل الأرض تدور؟"، تهيأ الشيخ للجواب مبتسما ابتسامة الواثق المدرك لما سيقول وكأنه يوحي للحضور أنهم سيحصلون على إجابة عجز عنها علماء الفلك والفيزياء ولازالوا في حالة حيرة حتى أذن الله لهذا الشيخ أن يدلي بدلوه على أحد المنابر، بما لا يدعو للشك أن سبب توجيه هذا السؤال هو أحد الاحتمالين، إما أن السائل دفع بذلك السؤال بهدف توريط الشيخ ولو باستهزاء الحضور لعلم مسبق بطريقة تعامل الشيخ مع الجوانب والقضايا العلمية البحثية الصرفة، أو أن السؤال مبيَت باتفاق مسبق بين السائل والمسؤول ليتسنى للشيخ الحديث عن هذا الأمر، فالسؤال ليس ديني وإنما فلكي فيزيائي وعادة لا نرى حضوراً يوجهون أسئلة علمية لعلماء الدين ويبدو أنه لم يتسنّى للشيخ الحديث أو التعبير عن نظريته عبر منبر علمي أو مركز أبحاث.
دعونا نترك جانب الحديث عن ذلك السيناريو ولنتحدث بما تلاه من كارثة نطق بها الشيخ ، وليته لم ينطق وتنحى جانباً فاسحاً المجال لأهل الفلك والفيزياء، هذا على اعتبار أن سؤال هل الأرض تدور، لا زال رهن البحث عن إجابة ولم يُحسم منذ مئات السنوات.
في معرض الإجابة عن التساؤل ،جاء رد الشيخ بما معناه أن الأرض حتماً لا تدور والدليل (وهنا انتهج الشيخ بالاقتباس التقليدي لا أكثر نهج البرهان العلمي الذي يثبت المطروح) أنك لو سافرت بالطائرة بنفس اتجاه دوران الأرض فإنك ستتأخر أو حتى لا تصل كونك والأرض تتحركان بنفس الاتجاه فالصين تبتعد وانت ذاهب إليها، أو العكس أنك ستصل مبكراً لو حركة الطائرة معاكسة لدوران الأرض، ولو بقيت الطائرة ساكنة في الهواء فستصل الصين إليك دون أن تذهب إليها."!!!
هذا كان مختصر إجابة الشيخ، وهنا أود أن أوجه له سؤالين، يا سيدي الشيخ، لو كنت تركب في حافلة قرب السائق، ووقفت على قدميك وبدأت بالقفز المتتالي في الهواء هل ستصل تلقائياً للمقعد الأخير لأنه في فترة قفزتك الحافلة تمشي وأنت في الهواء؟ والسؤال الثاني، هل أنت متأكد أنك تدور فعلاً؟ هل فعلاً درت على مراكز البحث العلمي، قبل ذلك الإفتاء الفلكي؟ هل درت في أحد المكتبات لتقرأ أساسيات الفيزياء لتعلم أن ما قلته خاطئاً لأن الطائرة والأرض هما كتلة واحدة في مثالك؟ ولو كنت في الحافلة فأنت والحافلة كتلة واحدة؟!
سيدي الشيخ هل أنت متأكد أنك قبل أن تدور في إفتاءات علم الفلك والفيزياء قمت بالبحث والدوران عبر آلاف المراجع المتاحة في شبكة الانترنيت قبل فتواك الفلكية؟ ألم يُنسب جهلك لعيب في الدين نفسه والمتدينين من قبل قناصي أخطاء العلماء والشيوخ؟
بكل أمانة لا أعلم إن كان ذلك الشيخ اعترف بخطئه العلمي واعتذر لتجاوزه حدود الدين نحو العلم الاختصاصي، وأتمنى أن يكون قد فعل ذلك فعلاً فهي صك براءة له من تهمة هو أكثر المتمنين ان لا تنسب إليه وهي الجهل والاجتهاد بما لا يعلم. المضحك المبكي أن جاليلو وهو العالم الذي برهن دوران الأرض وُجَهت له تهمة الكفر وحُكم عليه بالحرق من قبل الكنيسة وعلماء الدين آنذاك وقيل أنه تراجع عن أقواله وهمس قائلاً (لكنها تدور)، وهنا الموقف معاكس، المتهم عالم دين والمحكمة هي جموع الناس المتعلمة التي اكتفت بنعته بالجهل.
سيدي الشيخ... اجتهد بما تعلم واعلم بماذا تجتهد فنحن أمة تحترم العلماء، نخشى عليكم النعت بالجهل وأن ينسب للدين أي جهل على أيديكم بقصد وبدون والدين منه براء.
لست من أولئك الذين يكيلون الاتهامات لعلماء الدين ولن أكون، لكنني لا أستطيع أن أكون مريداً أعمىً علموه أن لحم العلماء مرّ ونقد أخطائهم باطل، وإلا فانا بلا شك شاة ضمن قطيع لا اكثر، لا أستطيع أن أتبع عالماً أو أفتخر به إن تحدث عن تزاوج الفئران في بلد تهدمت أغلب مساجده وتشرد أهله وتقتات الفئران على جثث أطفاله الميتة والمفقودة، لا أستطيع أن أكون من مريدي شيخ يقول أنه يعطي الدروس للدجاج والدجاح ينصت إليه متعلماً منه ضارباً عرض الحائط تجارب بافلوف والذي بالكاد استطاع أن يعلم الكلاب أن قرع الجرس يعني موعد الطعام، أما شيخنا فقد علم الدجاج الإدراك، هذا الإدراك هو ذاته ينفي تكريم الإنسان على باقي المخلوقات كما جاء في ديننا الحنيف.
ابتكر الإنسان الطائرة وطار محلقاً في الأجواء، الكثير من أقطاب العلماء المهاجمين للقرآن لم يهاجموه لأنه لم يذكر ذلك صراحة (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْر) لأنهم يدركون أن الحجة أتت بالبيان المطابق لفهم العقل آنذاك، فكيف له أن يذكر الطيران ويصدقه الناس، وهل يعجز القرآن عن ذكر الطيران وقد تحدث عن آلية سير الكواكب وسباحتها في الكون بتعقيد أصعب بكثير من الحديث في الطيران فالموضوع لم يكن لديهم نقص في الحجة وإنما نهج علمي فلم يتطرقوا لذلك، هم في نقدهم متعلمون ونحن في برهاننا جهلة.
يقول الإمام ابن عطاء الله السكندري "إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية"، أي أنك منوط بمهمة اختارها الله لك، فالطبيب والمهندس والصيدلاني والمدرب كلهم عبّاد ما دام العمل لله ولم يطلب من أحدهم ترك ما أنيط به ليصبح عالم دين يفتي بين الناس، ومن أناطه الله بمهمة الدين لم يطلب منه أن يقفز لعلوم ليست من تخصصه ولا مناطاً بها فقد هيأ الله له مهمة أخرى ولو شاء الله لاستخدمه بغيرها دون أن يخرجه منها كما ورد في تفسيراتها.
سمعت بتحدٍ قاله أحدهم أنه أثبت ما يشابه النظرية النسبية في القرآن الكريم، وهذا لا مشكلة فيه مبدئياً على ما نظن لكنه إتبع تحديه صراحة وقال "سأتحدى به علماء وكالة ناسا مجتمعين"، عليكم أن تتخيلوا تبعات الموضوع لو فشل في الإثبات كونه عالم دين وهم علماء في الفلك والفيزياء والعلوم المتقدمة التي بالكاد سمعنا عنها لما وصلته من مراحل متقدمة.
سيدي الشيخ... اجتهد بما تعلم واعلم بماذا تجتهد فنحن أمة تحترم العلماء، نخشى عليكم النعت بالجهل وأن ينسب للدين أي جهل على أيديكم بقصد وبدون والدين منه براء.
المصدر:الجزيرة