آية الله السيد محمد حسين فضل الله
نعيش في هذه الأيام ذكرى ولادة إمام من أئمَّة أهل البيت(ع)، وهو الإمام عليّ بن موسى الرضا(ع)؛ هذا الإمام الَّذي تميّزت حياته بأنّه عاش وضعاً قد يكون معقَّداً من خلال وجهة نظر البعض، وقد يكون منفتحاً من خلال وجهة نظر البعض الآخر، وهو أنَّ المأمون جعله وليّ عهده، ولم يكن الإمام(ع) راغباً في ذلك، كما يرغب الطامحون إلى المواقع الرسميّة فيما يمكن أن يتطلّبوه، وفيما يمكن أن يعرض عليهم، وليست المسألة أنَّ الإمام(ع) لا يحمل مسؤوليَّة السّلطة عندما يكلَّف بها، ولا سيَّما إذا كانت سلطةً تتحرَّك بعنوانٍ إسلاميٍّ يمكن أن يطلَّ من خلاله الشَّخص على رعاية واقع الإسلام، وعلى تنفيذ حكم الله تعالى، وعلى تصحيح خطِّ الانحراف إلى خطِّ الاستقامة، فتلك هي مهمَّة أهل البيت(ع)، أن يرصدوا كلَّ الواقع؛ الواقع الثقافيّ، ليصحّحوا المفاهيم الَّتي يمكن أن تختلط فيها التّفاسير، أو الفكريّ، ليصحِّحوا الكثير من الأفكار الّتي يمكن أن تتحدّاها الأفكار المضادّة التي تثير الشّبهات في داخلها، أو الحركيّ، ليصحِّحوا مسار الطّريق عندما ينحرف النّاس عن الطّريق المستقيم.
ثقافة متنوّعة الأبعاد
ولذلك، قد تكون ولاية العهد فرصةً، ولكنَّنا ذكرنا هذه المسألة في أكثر من حديث، ولسنا بحاجةٍ إلى أن نبرّر قبول الإمام لولاية العهد بضغوطٍ كبيرةٍ عليه، وإن وردت بعض الرّوايات في ذلك، لكنّ ذلك ليس ضروريّاً، بقطع النظر عمّا إذا كان التّبرير صواباً أو خطأً، وذكرنا أنَّ المنصب هو منصبه بالأصالة، باعتبار أنّه الإمام المفترض الطاعة، ولكنّ الإمام(ع) كان لا يرى المأمون جادّاً في المسألة، ولا يرى أنَّ هذا الأمر يمكن أن يتمَّ له، ولذلك لم يتحمَّس للموضوع، وقبِل الأمر بشروطٍ معيَّنةٍ من خلال دراسته لطبيعة الواقع.
نحن لا نريد أن نفيض في هذا الحديث كثيراً، ولكنّنا نريد أن نؤكِّد هذه المسألة المثيرة في حياة الإمام الرّضا(ع) مما لم تتوافر لأيّ إمامٍ آخر من الأئمَّة(ع)، وقد استطاع الإمام(ع) قبل ذلك وبعد ذلك، أن يملأ السّاحة الإسلاميّة علماً واسعاً عميقاً يواجه كلَّ القضايا الجديدة الَّتي طرحت في الواقع الإسلاميّ من قبل التيارات المضادّة، وهذا ما جعله يجلس مع كلّ الناس الَّذين يمثّلون مختلف التيارات الفكريّة، سواء كانوا من الملحدين أو من أهل الكتاب أو من ديانات أخرى غير الكتابيَّة.
ولقد واجه الإمام الكثيرين من أهل الفلسفات ومن المتصوّفة، وكان يخاطب كلّ واحدٍ منهم بالمستوى العلميِّ الّذي يملكه، ورأى فيه كلّ هؤلاء، بمن فيهم المأمون، الّذي عقد له مجلساً دعا فيه أهل الملل والدّيانات والاتجاهات الفكريّة إلى أن يناقشوه، رأوا فيه الإمام الموسوعيّ الّذي لم يتعقَّد من سؤال، ولم يتوقَّف أمام أيّة مشكلة، بل كان يفيض بالعلم فيضاً، وكان القرآن هو القاعدة الّتي انطلق منها وارتكز عليها في كلِّ ذلك.
لهذا، نحن نتصوَّر أنَّه لا بدَّ من دراسة كلّ تراث هذا الإمام العظيم، لأنّه يمثّل تراثاً واسعاً في الجوانب الفلسفيَّة والفقهيَّة والتفسيريَّة والأخلاقيَّة والحركيَّة، بحيث إنَّ الإنسان الَّذي يدرسه، يستطيع أن يخرج بثقافةٍ إسلاميَّةٍ موسوعيَّةٍ متنوّعة الجوانب، ممتدَّة الأبعاد.
وهذا ـ أيّها الأحبّة ـ ما ندعو إليه في إثارتنا لكلِّ الأحاديث عن أهل البيت(ع)، وهو أن لا تكون المأساة كلَّ حديثنا عنهم، وأن لا يكون الغيب ـ وهو الحقيقة ـ كلَّ حديثنا عنهم، ولكن أن يكون تراثهم الّذي يغني الإنسانيّة، والّذي يمكننا إذا درسناه وأوضحناه وحلَّلناه، أن نقدِّمه للعصر، وأن نجعل العصر يتمثَّل هؤلاء الأئمّة كما لو كانوا حاضرين فيه، يعالجون قضاياه، ويحلّون مشاكله، وينطلقون به نحو الخطِّ المستقيم.
القرآن كتاب هدى
ما نريد طرحه في ذكرى ولادته(ع)، هو أن نتمثَّل الإمام كيف كان يحدِّث الناس الَّذين يلتقي بهم، وكيف كان يحدِّث في المسجد وفي بيته، وفي كلّ المواقع التي كان يلتقي النّاس بها.. ونبدأ بحديثه عن القرآن، لأنَّ القرآن هو كتابنا الأساس، وتأتي السنّة في خطّه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(1)، ولكنَّ القرآن هو الَّذي يؤصِّل لنا مفاهيم السنّة، لأنَّ الحديث جاء عن رسول الله(ص) وعن الأئمَّة من أهل بيته(ع).
إنَّ علينا أن نعرض كلّ حديثٍ يأتينا من أيّ شخصٍ على كتاب الله، فما وافق كتاب الله نأخذ به، ما خالف كتاب الله ندعه. يقول الإمام الرِّضا(ع) فيما ينقل بعض أصحابه وهو (الريان بن الصّلت)، قال قلت للرّضا: "ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله لا تتجاوزوه ـ أي قفوا عنده وادرسوه وتدبَّروه، وخذوا منه مفاهيم الفكر في العقل، وخذوا منه خطوط الحركة في الواقع، وخذوا منه مناهج الحركة فيما تتحركون به في هذا العلم أو ذاك ـ لا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوا"(2)، فهو الهدى وهو النّور، وإذا انفتحتم عليه وعرفتم كلَّ معانيه، فإنَّكم ستعرفون الهدى مشرقاً منيراً مضيئاً، أما إذا تجاوزتموه إلى غيره، فقد ترون ظلمات بعضها فوق بعض.
ويقودنا الإمام الرضا(ع) كما يقودنا الأئمَّة من أهل البيت(ع) في كلّ أحاديثهم إلى القرآن الكريم، وقد جاء في حديث أحد أصحابه أنّه قال: سمعت (إبراهيم بن العبّاس) يحدِّث عن الرّضا عن أبيه موسى بن جعفر، وكلامهم واحد، أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله: "ما بال القرآن لا يزداد عند النّشر والدّراسة إلا غضاضةً؟ ـ أي إلا جدّةً، فالآن نحن لا نزال نقرأ هذا الكتاب الّذي نزل قبل 1400 سنة، فما بالنا، وهو كتاب قديم استهلك النّاس قراءته ودراسته، نشعر بأنَّنا عندما ندرسه فكأنَّنا ندرس شيئاً جديداً علينا لم نقرأه من قبل، ففي كلّ قراءة له، نجد أنَّ هناك جدةً وحداثةً وحيويَّةً كما لو لم نكن قرأناه من قبل ـ فقال: لأنَّ الله لم ينزله لزمانٍ دون زمان..."(3)، ذلك أنَّ القرآن هو كتاب الله الّذي يعيش مع الزمن كلّه، ولذلك فقد اختزن القرآن بإيحاءات معانيه، وفي الآفاق الّتي يمكن أن ينفتح عليها ويطلّ عليها، ما يمكن له أن يخاطب أهل كلّ جيلٍ بقضاياهم ومشاكلهم.
وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر(ع)، وهو يشير إلى ما قد جاء في بعض الكتب من أسباب النّزول في فلانٍ أو فلان، قال: " لو أنَّ الآية إذا نزلت في قومٍ ثم مات أولئك القوم ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، ولكنَّ القرآن يجري أوَّله على آخره ما دامت السَّماوات والأرض"(4). لذلك، فإذا نزل القرآن في واقعة، فالواقعة ليست هي معنى الآية، بل هي النَّموذج الّذي يشير إلى كلّ النَّماذج المماثلة على مدى التّاريخ، وإذا نزل في شخص، فإنّ الشّخص لا يمثّل ما تدلّ عليه الآية فقط، ولكنَّه يمثِّل العنوان الَّذي يمكن أن ينفتح على كلّ العناوين في حركة الحياة، "لأنَّ الله لم ينزله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس"، فقد خاطب الناس كلّهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}(5)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى}(6)، وخاطب المؤمنين في كلّ زمان ومكان، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}(7)، لم يخاطب الناس في زمنه، ولم يخاطب المؤمنين في زمنه، "فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ ـ يعني حيويّ ـ إلى يوم القيامة"(8).
حفظ القرآن من التحريف
ومن خلال ذلك ـ أيها الأحبّة ـ لا بدَّ لنا عندما نقرأ القرآن وندرسه، من أن نستوحيه في كلّ ما يستجدّ في حياتنا، لنوسّع آفاقه حتى تنفتح على آفاقنا، فلا نقرأه في الأحداث الّتي عاشت في عهد الرسالة الأول، بل نقرأه من خلال تلك الأحداث، على أساس أن تكون أحداث الحياة، وليست أحداث زمن معيّن أو موقع معيّن. وبهذا نستطيع أن نتحرّك بالقرآن، وأن يحركنا القرآن، وأن نحركه في كلِّ واقعنا.
قال عليّ بن محمد بن موسى الرازي: حدثني أبي، قال: "ذكر الرضا(ع) يوماً القرآن، فعظّم الحجّة فيه"، يعني ما احتجّ الله به على عباده في كلّ ما لله فيه الحجّة، {فَللّهِ الْحُجَّةُ}(9)، على جميع خلقه، واحتجّ به على الكافرين المشركين والمنافقين، "والآية والمعجزة في نظمه"، يعني في أسلوبه، قال: "هو حبلُ الله المتين، وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدّي إلى الجنّة، والمنجي من النار"، باعتبار أنَّ من أخذ به، استطاع أن يكتشف طريق الجنّة في كلّ ما يخطّطه القرآن للإنسان من طريق، "والمنجي من النار، لا يخلق"، يعني لا يبلى، "لا يخلق من الأزمنة، ولا يغثّ على الألسنة، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، والحجّة على كلّ إنسان، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(10)"، وهذه الكلمة تشير إلى أنَّ القرآن لا يمكن أن ينسب إليه التّحريف، سواء من حيث الزيادة أو من حيث النقصان.
وعلى هذا الأساس، فما ينسب إلى شيعة أهل البيت(ع) بأنهم يرون تحريف القرآن، فإنّ ذلك مما يكذِّبه حديث أئمَّتهم، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(11)، وهكذا نرى كيف يعظِّم أهل البيت(ع) القرآن، وكيف يريدون من الناس جميعاً أن يكون القرآن النّور الّذي يشرق في عقولهم، والهدى الّذي يتمثَّل أمام عيونهم، والمنهج الذي ينتهجونه في كلِّ ما يريدون الوصول إليه، والطّريق المستقيم الّذي يقود إلى الجنَّة وينجي من النَّار.
الدَّعوة إلى الصِّدق والأمانة
وننتقل إلى موقعٍ آخر، فنرى الإمام الرّضا(ع) يلتقي بتلميذه (السيّد عبد العظيم الحسني) الّذي يُزَار في منطقة الريّ، ويسمّى (الشّاه عبد العظيم)، فلقد كان يرسله ليبلّغ أولياءه ما يريد منهم، لأنّه كان لا يجلس في بيته وحسب لينطلق أولياؤه بمبادرةٍ منهم باللّقاء به، ولكنه كان يفكّر فيهم وفي أوضاعهم وفي كلّ ما يعيشونه، ويراقب أوضاعهم في انحرافاتهم، لأنَّ ذلك هو موقع القيادة في أيّ مكان، وفي أيّ زمان، بأن يكون القائد في موقع الرّاصد لكلّ أتباعه ولكلّ جنوده، ليبتدئهم إذا لم يسألوه، وليجيبهم إذا سألوه، قال: "يا عبد العظيم، أبلغ عني أوليائي السَّلام، وقل لهم أن لا يجعلوا للشّيطان على أنفسهم سبيلاً"، أن يعرفوا خطوات الشَّيطان ووساوسه وحيله وألاعيبه، وأن يعملوا على أن يتفادوا ذلك كلَّه في سلوكهم العمليّ، فيغلقوا كلّ النّوافذ التي يمكن أن يطلّ عليهم منها، ويسدّوا كلّ الطّرق التي يمكن أن يأتي إليهم منها.
والوصيَّة لكم أيضاً، لأنَّه يوصي أولياءه، وأنتم من أوليائه في كلّ مكان وزمان، "ومرهم بالصّدق في الحديث"، أن لا يكونوا الكاذبين فيما يحدّثون به، لأنّ الكذب يعطّل وضوح الحقيقة في الواقع، فعندما نعيش الواقع في جزئياته وكلّياته بعيداً عن الحقيقة، فإنّه سوف يصاب بالضّياع وبالارتباك وبالخلل في موازينه وفي أحكامه، "وأداء الأمانة"، لأنّ الله يأمركم بأن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها، سواء كان أهلها من الكافرين أو من المسلمين، ولأنَّ أداء الأمانة، سواء كانت أمانة مال أو أمانة سرّ أو أمانة مسؤوليَّة، هو الَّذي يحافظ على توازن المجتمع، وعلى تركيز قواعد الثّقة الاجتماعيَّة بين أفراد المجتمع، عندما يحترم كلّ شخص الآخر من خلال ما اؤتمن عليه في حياته، مالاً كان أو أمراً سياسيّاً أو اجتماعيّاً، "ومرهم بالسّكوت"، بالصَّمت الّذي ينطلق به الإنسان ليفكِّر، لا صمت الغباء، ولكن صمت الفكر، لأنَّ الإنسان إذا لم يعطِ نفسه فرصةً للصَّمت وللسّكوت، فإنه قد لا يجد فرصةً للتَّفكير الصَّافي المنفتح.
لذلك، نحن بحاجة ـ أيّها الأحبَّة ـ إلى بعض الصَّمت وبعض السّكوت، حتى نستطيع من خلال صفاء الفكر وهدوئه وابتعاده عن الضَّجيج، أن نفكّر فيما عملناه، وفيما قلناه، وفيما خطَّطنا له، لندرس إيجابيّاته وسلبيّاته، وأن نعرف ما نريد أن نخطِّط له أو نقوله أو نفعله، لندرس نقاط ضعفه ونقاط قوّته في أين الصَّواب هنا وأين الخطأ هناك.
ترك الجدال الفارغ
"وترك الجدال فيما لا يعنيهم"، وهذه وصية حيَّة مهمّة رائعة، وهي أنك عندما تدخل في جدالٍ حول أمر تختلف فيه مع الآخر، فكّر في هذا الأمر الّذي تثير الجدال فيه، هل هو من الأمور التي تتصل بالخطوط الأساسية للعقيدة، باعتبار أنَّ عقيدتك مسؤوليَّة فكرك الَّذي تقدّم فيه حسابك إلى الله، أو أنَّه يتَّصل بخطّ حيويّ بالشّريعة، باعتبار أنَّ الشّريعة تمثّل حركة حياتك في مسؤولياتك السلبيّة أو الإيجابيّة أمام الله، أو هل يتَّصل بشأن من شؤون الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة بما يتعلّق بقضايا المصير؟!
أمّا إذا رأيت أنَّ هذا الأمر لا علاقة له بالعقيدة، ولا علاقة له بالشّريعة، ولا علاقة له بالحياة، ولا علاقة له بالمصير، وإنما هو مجرّد شيء تجريديّ، سواء اعتقدته أو لم تعتقده، فإنه لن يغيّر من الأمر شيئاً، تماماً كما كان أهل قطسنطينية يتنازعون والفاتح يدقّ الأبواب يريد أن يقتحم البلاد، وفلاسفتهم يتناقشون هل إنَّ البيضة أصل الدّجاجة أو الدّجاجة أصل البيضة! فهذا يقول إنَّ البيضة أصل، وذاك يقول إن الدّجاجة أصل.
وهل إنَّ الملائكة ذكور أم إناث! ويختلفون فيما بينهم، ولا يلتفتون إلى المهمّ، وهو إذا أنتجت الدّجاجة لنا بيضاً، أن نأكل البيض لذيذاً شهيّاً، أو إذا أنتجت لنا البيضة دجاجةً أيضاً، أن نأكل الدّجاجة التي أحلّها الله لنا، أمّا الملائكة، فهم عباد مكرَّمون، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، فهل نريد أن نزوّج الملائكة إذا كانوا ذكوراً، ونتزوَّج منهم إذا كانوا إناثاً، هذا كلام فارغ، كالكثير من الكلام الفارغ الَّذي يدور في القضايا التي ينطلق فيها الناس على أنه من هو أفضل ذاك أم هذا، وهذه أم تلك، في حين أنّ الأمور عندما لا تتّصل بمسؤوليّتنا أمام الله، ولا بمسؤوليّتنا بحركة الحياة، فإنّها تمثِّل طواحين الهواء التي تطحن وتطحن ويبقى الهواء هواءً، إذ لا يمكن أن يتحوَّل الهواء إلى أيِّ شيء، ولكن عندما تطحن الحنطة، فإنها تتحوَّل إلى دقيقٍ تستطيع أن تعجنه خبزاً، ولكنّ المشكلة هي أنّنا أناس متخلّفون ـ بكلّ أسف ـ فنحن نحاول أن نصعد بالتخلّف إلى الدّرجات العليا من مواقعنا، ولا نلتفت إلى الآثار المؤسفة المترتّبة على هذا التخلّف، ونتنازع ونتكافر ونتضالّ، في حين لا علاقة لقضايا الخلاف والنزاع بالدّنيا ولا علاقة لها بالآخرة.
التّراحم بين المسلمين
وهذا ما يقوله الإمام(ع): "وترك الجدال فيما لا يعنيهم"، يعني في الأمور التي لا تتصل بمسؤولياتهم في الدنيا والآخرة، "وإقبال بعضهم على بعض"، وذلك بأن لا يتقاطعوا، وأن يقبل المؤمن على المؤمن بعقله ليعطي النصيحة، وبقلبه ليعطي المحبَّة، وبحياته ليعطي الطّاقة، "والمزاورة"، بأن يزور بعضهم بعضاً، "فإنّ ذلك قربة إليّ"، لأنهم بذلك يوحّدون الصف، وبذلك يقوى الموقع، "ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً"، في حين أنّ الكثيرين يزورون الإمام الرّضا(ع) وهم يمزّقون بعضهم بعضاً عنده أو قريباً منه أو في أجوائه على كلّ المستويات، والفئات تمزّق بعضها بعضاً، والمشايخ يمزّقون بعضهم بعضاً، والعوائل والأعراق، كأنهم لا يشعرون بأنَّ "المؤمن للمؤمن بمنزلة البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً"(12)، وكأنهم لا يعرفون أنَّ "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمى"(13).
"فإنّي آليت على نفسي أنّه من فعل ذلك"، من شيعتي ومن أوليائي، من عمل على تمزيق الواقع الإسلاميّ والإيمانيّ تحت أيّ اعتبار، "وأسخط ولياً من أوليائي"، بالإساءة إليه، وباتّهامه بما ليس فيه، وبغيبته، وبتشويه صورته، وبإسقاط موقعه، "دعوت الله ليعذِّبه في الدنيا أشدّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين".
وهذه تحتاج إلى تأمّلٍ، فلو دعا عليك شخص فالأمر هيّن، ولكنّ الإمام الرّضا(ع) يقول أنا أخذت على نفسي عهداً أمام الله، أن أدعو عليهم بأن يعذِّبهم الله أشدّ العذاب، وبذلك، فعلى من لديه عقدة نفسيَّة، أو مشكلة شخصيَّة، أو وضع فئويّ معيّن، أو وضع عائليّ معيّن، أن يعرف حاله قبل أن يزور الإمام الرّضا(ع)؛ هل هو ممن يدعو عليه الإمام الرّضا(ع) أو ممن يرتضيه في أوليائه؟!
"وعرّفهم أنَّ الله قد غفر لمحسنهم"، عندما ينطلقون من قاعدة الإسلام، ومن قاعدة الخطِّ الأصيل، وهو خطّ الولاية في الإسلام، "وتجاوز عن مسيئهم، إلا من أشرك به، أو آذى وليّاً من أوليائي، أو أضمر له سوءاً، فإنَّ الله لا يغفر له حتى يرجع عنه"، أي عندما تعود القلوب مفتوحةً على المحبّة لبعضنا البعض، فإذا كان الشَّخص يؤذي وليّاً أو يضمر له سوءاً، "فإنَّ الله لا يغفر له حتى يرجع عنه، فإن رجع"، تاب الله عليه، "وإلا نزع روح الإيمان عن قلبه، وخرج من ولايتي، ولم يكن له نصيب في ولايتنا، وأعوذ بالله من ذلك"(14).
هذه المسألة تعطي صورةً يمكن أن تمثّل واقعنا، فكلّ واحدٍ منّا يذبحها على قبلة ـ كما يُقال ـ فهذا يقول لك أفعل ما أفعل من أجل الدّين، وهذا من أجل المذهب، وهذا من أجل الإسلام، وهذا من أجل الوطن، وعندما ندخل إلى داخل نفوسنا، نجد أنّها تقوم بكلّ ذلك من أجل الذات، حسداً أو حقداً أو عداوةً، "وأعوذ بالله من ذلك".
و في النهاية نقول :إذا أردنا أن نحتفل بالإمام عليّ بن موسى الرضا(ع) في مولده، فلا تكفي الطريقة الاحتفاليَّة تصفيقاً وإنشاداً، بل لنحتفل به بأن يولد في عقولنا، وأن يولد في قلوبنا، وأن يولد في حياتنا، بحيث نعيش فكره وروحانيّته وانفتاح قلبه على النَّاس جميعاً، ونعيش هذا الخلق المتسامح المنفتح على الخير كلّه، وقبل ذلك وبعده، أن نعيش مع الإمام في عيشه مع الله، حيث ينطلق مع الله أوّلاً، لينطلق بالتالي مع الناس من خلال محبّته لله التي توحي بالمحبَّة لعباد الله ولكلِّ خلق الله. وهذا ما يجعلنا نلتزم بإمامتهم بهذا الخطّ، "فوالله ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتّواضع والتخشّع والأمانة... وصدق الحديث... وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء"(15). وقال الإمام الباقر(ع): "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ولا تُنال ولايتنا إلا بالورع والعمل"(16)
الهوامش:
1 [الحشر/ 7].
2 بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 89، ص 118.
3 عيون أخبار الرضا(ع)، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 93.
4 الكافي، ج2، ص628.
5 [النّساء: 1].
6 [الحجرات: 13].
7 [البقرة: 104].
8 عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 93.
9 [الأنعام: 149].
10 [فصلت: 42]، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 17، ص 211.
11 [فصلت: 42].
12 بحار الأنوار، ج 58، ص 150.
13 ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 4، ص 2837.
14 الاختصاص، الشيخ المفيد، ص 247.
15الكافي، ج 2، ص 74.
16الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 725.
المصدر:موقع بينات بتصرف