يُنقل أن الإمام الصادق(ع)، كان موضع احترام كل الناس، ممن يقولون بإمامته وممن لا يقولون بها. ويروى عن إمام المذهب المالكي، وهو "مالك بن أنس"، أنه قال: "جعفر بن محمد اختلفت إليه زماناً ـ ترددت عليه ـ فما كنت أراه إلا على إحدى ثلاث خصال: إما مصلٍ وإما صائم وإما يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وورعاً". وقد تتلمذ عليه إمام المذهب الحنفي "أبو حنيفة" مدة سنتين، وكان يُنقل عنه ـ بحسب روايات أهل السنّة ـ أنه قال: "لولا السنتان لهلك النعمان".
وينقل عن "أبي حنيفة"، أن الخليفة العباسي، أبا جعفر المنصور، قال له: لقد فُتن الناس بجعفر بن محمد وأقبلوا عليه، وأصبح له شأن كبير عندهم، وأريدك أن تحضّر له من مسائلك ما تستطيع أن تتغلّب فيها عليه، فيقول أبو حنيفة: فحضّرت له أربعين مسألة من كبار المسائل، ودخلت على أبي جعفر المنصور، وجعفر بن محمد جالس إلى جانبه، فأخذتني هيبة الإمام الصادق أكثر مما أخذتني هيبة الخليفة، فقال لي المنصور: ألقِ على أبي عبد الله ـ وهي كنية الإمام الصادق ـ مسائلك، فبدأت ألقي عليه مسائلي، فكان (ع) يقول: "أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا"، فربما التقى معنا وربما اختلف عنا جميعاً، إلى أن انتهت كل مسائلي ـ في هذا الجواب التفصيلي الذي لا يقتصر على بيان الرأي، وإنما يحيط بكل الآراء ـ ثم قال أبو حنيفة: ألسنا قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.
ورأينا أن الإمام الصادق (ع) إنسان الحوار، الذي لا يتعقّد من أيّ مسألة، ويشجّع الناس أن يلقوا إليه مسائلهم حتى لو كانت ضد الإسلام، وكيف كان(ع) يجلس في المسجد الحرام والناس يطوفون بالبيت، وهو يستقبل جماعة من الزنادقة الذين لا يؤمنون بالله ولا بالإسلام، ويذكر منهم ابن أبي العوجاء وغيره، فكان يفتح صدره لهم، وكانوا يتحدثون بكل جرأة، حتى إن ابن أبي العوجاء قال له: "إلى متى تدوسون هذا البيدر"، وهو يشير إلى الطواف حول الكعبة، وأجابه الإمام الصادق (ع) بكل هدوء ورحابة صدر حتى أسكته، وكان قد جاء إلى الإمام ليتحداه، فعندما رجع إلى أصحابه قالوا له: لقد فضحتنا، فأجابهم: أتعرفون إلى من بعثتمونني، إنه ابن من حلق رؤوس كل هؤلاء الناس، ثم قال: ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد إذا شاء، ويتروّح إذا شاء، فهو هذا (وأشار إلى الإمام الصادق(ع).
وهكذا رأينا كيف امتدت مدرسة الإمام الصادق (ع) في كل مواقع الإسلام، حتى عدّ الناس ممن تتلمذ على يديه وتثقف عليه وروى عنه، أربعة آلاف شخص. وفي رواية، أن أحد الأشخاص دخل مسجد الكوفة ووجد تسعمائة شيخ ـ وهم الأساتذة ـ وكل واحد منهم يقول: حدّثني جعفر بن محمد.
لقد كان الإمام الصادق (ع) إمام الوحدة الإسلامية، فكان يريد للشيعة أن ينفتحوا على المذاهب الأخرى ولا ينعزلوا عنهم، وكان (ع) يقول: "ما أيسر ما رضي به الناس عنكم، كفّوا ألسنتكم عنهم"، لأن الاختلاف لا يُعالج بالسب واللعن والتشهير، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، لأنك من خلال السبّ واللعن تزيد خصمك حقداً على حقد، أما إذا حاورته وتكلمت معه بالتي هي أحسن، فإنك تليّن قلبه، وتدخل بالتالي إلى عقله، ودور المسلم أن يدعو إلى الإسلام على الصورة التي وصف الله تعالى بها نبيّه (ص): {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}.
من هم شيعة علي (ع)؟
وفي رواية، أن شخصاً جاء إلى الإمام الصادق (ع) وقال له: كيف نصنع مع عشائرنا وخلطائنا من الناس؟ فقال(ع): "صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل "هذا جعفري"، فيسرّني ذلك، وإذا كان على غير ذلك، دخل عليّ بلاؤه وعاره". "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا". وقد كان (ع) ينفتح على السنّة كما ينفتح على الشيعة، وينفتح على أهل الأديان الأخرى كما ينفتح على المسلمين.
ولذلك، فإن الإمام الصادق (ع) يشكل النموذج الأكمل للإنسان الذي يمثل القيادة والإمامة الإسلامية التي ترتفع بالناس إلى أعلى مستوى، والتي تشير إلى الناس أن يتقدموا ويأخذوا بأسباب العلم، وينفتحوا على العقل كله، ويتحركوا من أجل أن يكون المسلم هو الإنسان الذي يعطي العالم ـ من موقع الخط الإسلامي المستقيم ـ عقلاً من عقله، وعلماً من علمه، ومحبةً من قلبه، وخلقاً من أخلاقه، ليكون إنسان الحياة والنموذج الأكمل للإنسانية.
هذه هي رسالة أهل البيت (ع)، رسالة الإسلام، التي تريدنا أن نرتفع حيث يرتفع الإسلام بأهله، وأن نتحرك، عندما يريدنا الإسلام أن نتحرك في خط الدعوة إلى الله والخير والعدل والحق، تلك هي رسالتهم(ع)، وعلينا ان نرتفع معهم وبهم ونتعلّم علومهم، فهذا ما جاء في أحاديثهم: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"، قيل: وكيف ذلك ـ هل نضرب رؤوسنا بالسيوف وظهورنا بالسلاسل؟!! ـ فيجيبون: بأن تعلّموا الناس علومنا، وتنقلوا إليهم أحاديثنا، ليحبونا من خلال ذلك، إحياء أمرنا هو إحياء علومنا وثقافتنا، وروحانيتنا وأخلاقنا، وأن تكونوا صورة عنا أهل البيت (ع).
لقد كان رسول الله (ص) القمة في كل شيء، وعليكم أن تقتربوا من هذه القمة، وعليّ (ع) كان القمة، وكان يريد للناس أن يحملوا علمه ويتعلّموا من خبرته، وعلينا أن نقترب من هذه القمة في علمه وروحانيته وأخلاقه، وقد كان الأئمة من أهل البيت (ع) هم أئمة الهدى والخير والحق، وكانوا القيادة العظيمة الرشيدة للناس، فلنكن في هذا الاتجاه:
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبّه بالكرام فلاح
المصدر: موقع بينات بتصرف