الامام السيد علي الخامنئي(حفظه الله)
إنّ أحد الأشياء المؤسفة جدّاً، والّتي تواجه الباحث حول حياة الإمام الصادق عليه السلام، هي أنّ تفاصيل حياة هذا الإمام، ولا سيّما في السّنوات الأولى من إمامته، والّتي تزامنت مع نهاية حكم بني أميّة، محاطة بهالة من الغموض. فهذه الحياة المليئة بالأحداث، والتي يُمكن مشاهدة كفاحاتها وصعودها وهبوطها في طيّات مئات الرّوايات التاريخيّة، نجد أنّها لم تنعكس، لا في التّاريخ، ولا في أقوال المحدّثين وكتّاب التذكرة، بنحوٍ منظّم ومترابط على الإطلاق.
أسباب الغموض في سيرة الإمام الصادق عليه السلام
وينبغي البحث عن أسباب هذا الغموض والإبهام، ولا سيّما فيما يتعلّق بالأنشطة التنظيميّة للإمام مع أتباعه ومن أسباب الغموض في ماهيّة هذه الأعمال:
1-الأعمال السرّية والتنظيميّة: في العادة إذا تلازمت هذه الأعمال مع الأصول الصّحيحة للعمل السريّ فإنها يجب أن تبقى سريّة ومخفيّة دائماً. فهي خفيّة في ذلك الزمان، وينبغي أن تبقى كذلك فيما بعد، وإنّ تكتّم وسريّة أصحابها لا يسمحان لأيّ غريبٍ أن يصل إليها. حتّى إذا وصلت هذه الأعمال إلى الثّمرة المطلوبة، وتمكّن المنفّذون والعاملون من الإمساك بالسّلطة، فإنّهم سوف يكشفون دقائق هذا العمل السرّي للملأ.
2-خصال كُتّاب التاريخ وكتابة التاريخ: فلو كان لجماعةٍ مدانة ومظلومة ذكر في التّاريخ الرّسميّ وتوثيق لذكرياتها، فلا شكّ في أنّ ذلك كان بطلب وقولٍ وإيعاز من الحاكم الظّالم.
3-التواريخ المعتبرة عباسية الصبغة: إنّ جميع التّواريخ المعروفة والمعتبرة، والّتي تُشكّل وثائق ومصادر أكثر التّحقيقات والدّراسات اللاحقة، والّتي دُوّنت وبقيت إلى ما بعد حياة الإمام الصادق عليه السلام بخمسمائة سنة، كانت ذات صبغة عبّاسيّة، فإنّ حكومة العبّاسيين قد استمرّت إلى منتصف القرن السابع الهجري، وجميع التواريخ القديمة المعروفة قد كُتبت وأُلّفت في مرحلة زعامة وسلطنة هذه السلالة المتجبّرة.
وهذا هو سرّ الكثير من التّحريفات والمبهمات في حياة الإمام الصّادق عليه السلام. والطّريق الوحيد الّذي يُمكّننا من التعرّف على الخطّ العام لحياته؛ هو أن نجد نماذج مهمّة لحياة هذا الإمام في ثنايا كل هذا الإبهام والغموض، بالاستمداد ممّا نعرفه من الأصول العامّة لفكر هذا الإمام وأخلاقه فنرسم الخطوط الأساس لحياته.
قيادة الإمام الصادق عليه السلام
كانت خطّة الإمام الصادق عليه السلام هي أن يجمع الأمور بعد رحيل الإمام الباقر عليه السلام وينهض بثورة علنيّة ويسقط حكومة بني أميّة -التي كانت في كلّ يومٍ تبدّل حكومة، ما يحكي عن منتهى ضعف هذا الجهاز-، وأن يأتي بالجيوش من خراسان والريّ وأصفهان والعراق والحجاز ومصر والمغرب وكلّ المناطق الإسلاميّة، الّتي كان فيها شبكات حزبيّة للإمام الصادق عليه السلام؛ أي الشّيعة، وأن يحضر كلّ القوّات إلى المدينة ليزحف نحو الشّام، ويسقط حكومتها، ويرفع بيده راية الخلافة، وأن يأتي إلى المدينة ويعيد حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليها. هذه كانت خطّة الإمام الصادق عليه السلام. لهذا، عندما كان يجري الحديث عند الإمام الباقر عليه السلام في أيّام عمره الأخيرة، ويُسأل من هو قائم آل محمّد، كان ينظر إلى الإمام الصادق عليه السلام ويقول كأنّني أنظر إلى قائم آل محمّد هذا.
بالطبع، من المعلوم أنّ اسم قائم آل محمّد هو اسمٌ عام وليس اسماً خاصّاً، فليس هو اسم وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف. كلّ الّذين نهضوا من آل محمّد على مرّ الزمان، سواءٌ انتصروا أم لا، كلّ واحدٍ منهم هو قائم آل محمّد. وقد كان من المقرّر للإمام الصادق عليه السلام أن يكون قائم آل محمّد في ذلك الزمان. لقد وصل الإمام الصادق عليه السلام إلى الإمامة في مثل هذه الحالة.
تعدّد الميادين
لقد كان الإمام الصّادق عليه السلام:
1-رجل العلم والمعرفة: فمحافل دراسته وميادين تعليمه الّتي أوجدها لم يكن لها نظير... فلقد بيّن الإمام الصّادق عليه السلام كلّ ما ينبغي أن يُقال بشأن المفاهيم الإسلاميّة الصّحيحة والقرآنيّة الأصيلة الّتي تعرّضت للتّحريف طيلة قرنٍ ونيّف من الزمان بواسطة المغرضين والمفسدين أو الجاهلين. وهذا الأمر هو الّذي أدّى إلى أن يشعر العدوّ بخطره.
2-رجل الجهاد والمواجهة: لقد كان الإمام الصادق صلوات الله عليه، مشغولًا بجهادٍ واسع النّطاق. فقد كان عليه السلام يُهيّئ الأرضيّة للقضاء على بني أميّة والمجيء بحكومة علويّة؛ أي حكومة العدل الإسلاميّ. وهذا ما يتّضح من حياة الإمام الصادق عليه السلام لكلّ من يُطالع ويُدقّق.
3-رجل التنظيم والتشكيلات: ذاك البعد الثالث الّذي لم يُسمع عنه من الأساس، فهو كان رجل التنظيم والتشكيلات. لقد أوجد الإمام الصادق عليه السلام تشكيلات عظيمة من المؤمنين به ومن أتباع تيّار الحكومة العلويّة في مختلف أرجاء العالم الإسلاميّ. فعندما كان يريد الإمام الصّادق عليه السلام أن يُعلم النّاس بأيّ شيءٍ، فإنّه يفعل ذلك من خلال وكلائه المتواجدين في مختلف آفاق العالم الإسلاميّ، كما وتعني هذه التشكيلات أيضاً رجوع أتباع الإمام الصّادق عليه السلام إلى وكلائه وممثّليه المتواجدين في جميع المدن لمعرفة تكليفهم الدينيّ والسياسيّ من الإمام.
لقد أوجد الإمام الصادق عليه السلام مثل هذه التشكيلات العظيمة، وبهذه التشكيلات وبمساعدة من كان داخلاً فيها من النّاس، كان الإمام يواجه جهاز بني أميّة. وكذلك جهاز بني العبّاس مدّة طويلة، وعندما كان انتصاره على بني أميّة حتميّاً جاء بنو العبّاس كتيّارٍ انتهازيٍّ ونزلوا إلى الميدان، ومن بعدها صار الإمام الصادق عليه السلام يواجه بني أميّة وبني العبّاس أيضاً.
مواجهة بني أميّة... علنيّة
وقد نُقل عن الطّبريّ -المؤرّخ المعروف- أمورٌ تتعلّق بمحاربة الإمام عليه السلام لبني أميّة في مطلع السنوات العشرة لإمامته. كانت مواجهة الإمام الصادق عليه السلام في هذه المرحلة قد أضحت علنيّة. لقد كان الإمام الصادق عليه السلام يذهب يوم عرفة إلى عرفات ويقف بين التجمّعات الكبيرة -والّتي جاءت من جميع نقاط العالم الإسلاميّ-، ويُعلن بصراحة وبشكلٍ رسميّ للنّاس أنّ الإمام والحاكم بحقّ في هذا اليوم هو جعفر بن محمد وليس أبا جعفر المنصور. لهذا كان الإمام يقف وسط هذا التجمّع الكبير، ويُبيّن السلسلة الصحيحة للإمامة: "أيّها النّاس إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان الإمام، ثمّ كان علي بن أبي طالب"( الكافي، الكليني، ج4، ص466)-وهو منطق الشّيعة المعروف-، ومن بعده الحسن ثمّ الحسين ومن بعده عليّ بن الحسين، ومن بعده محمّد بن عليّ، ومن بعده أنا. فيعرّف نفسه كإمامٍ، ومثل هذا كان يتطلّب شجاعة كبيرة. كان الإمام الصادق عليه السلام يقوم بمثل هذا العمل في أواخر عصر بني أميّة.
عودة إلى التقيّة
أمّا في عهد بني العبّاس فلم يعد الأمر كذلك، بل كان يجري بالتقيّة والكتمان، وسبب ذلك أنّ بني العبّاس كانوا يرفعون شعارات آل عليّ ومواقفهم باللسان، فكان ظاهرهم ظاهر آل عليّ، وعملهم عمل بني أميّة، حيث كان بنو العبّاس يُمثّلون ذلك التيّار الانحرافيّ الّذي انتهز الفرصة، وحرّف الثّورة الّتي كان الإمام الصادق عليه السلام بصددها، وهذا هو الخطر الدائم لكلّ الثورات، حيث يتم أحيانًا استبدال الخطّ الصحيح للثّورة الّذي يتطابق مع معاييرها وضوابطها الأساس، بخطٍّ بديلٍ منحرفٍ فاسدٍ باطلٍ تحت شعارات الحقّ.
المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 عاماً للإمام السيد علي الخامنئي دام ظله