لهذه الأسباب...يُعد الغناء أحد أسوأ الظواهر

الإثنين 2 يوليو 2018 - 11:42 بتوقيت مكة
لهذه الأسباب...يُعد الغناء أحد أسوأ الظواهر

فإذا كان التمييز بين الحقّ والباطل في الكلام العادي والنقاش الهادئ أمرًا يتطلّب مهارات خاصّة، فكيف إذا أُسقط الكلام في قالب الغناء والألحان! لهذا، كان الأصل تحريم كل ما يمتّ إلى أجواء الغناء اللغوي والباطل بِصلة...

السيد عباس نورالدين

عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَان."(1)
لم يكتفِ عبدة الشيطان بالنطق بالكلام العابث والباطل والمثير للغرائز الحيوانيّة، بل سعوا منذ بداية التاريخ إلى تنميقه وتحسينه بواسطة الشعر والتناغم اللفظي، عسى أن يجدوا له في النفوس وقعًا وقبولًا؛ ثمّ ما لبثوا أن أضافوا إليه أنواع الألحان والموسيقى باستخدام الآلات والأوتار ليكون أشدّ تأثيرًا ونفوذًا..

أجل، فالتغنّي بالكلام العبثيّ والمخالف لحقائق الحياة والوجود أو المحرّك لكل دوافع البهيميّة الحيوانيّة أصبح أحد أهم سمات المجتمعات التي انحرفت عن صراط العقل والحكمة والإنسانية.
لكن المصيبة الكبرى، لم تكن في هذا النوع من الغناء نفسه، بل في اعتباره فنًّا راقيًا وأمرًا جميلًا وحسنًا؛ ومن ثمّ تمجيده والدعوة إليه كأحد أشكال الجمال والروعة. وهذا ما يمكن أن نعتبره آخر مدارك الانحطاط الذي يمكن أن يصل إليه أي إنسان أو مجتمع.
غالبًا ما أتذكّر حديث النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وهو يحدّد دركات الانحطاط الثلاثة التي تبدأ بترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ثمّ تصل إلى النهي عن المعروف والأمر بالمنكر، إلى أن تبلغ حالة رؤية المعروف منكرًا والمنكر معروفًا،(2)هنا يشير هذا الإنسان الكامل إلى بلوغ المجتمع حالة اللارجوع إلى الرشد أو حالة الضياع المطلق.
إنّ النفوس البشريّة لا تميل بحسب فطرتها إلى العبث والباطل، وإن كانت تميل بحسب طبيعتها إلى اللهو والحيوانيّة والماديّات؛ ولأجل ذلك، فإنّ نزاعًا ما سيحصل داخل النفس بين الفطرة والطبيعة. وحين يشتد هذا الصراع الحتميّ بين هاتين القوّتين في نفس الإنسان، فإنّ النتيجة سوف تحدّد ما الذي سيكون عليه هذا الإنسان في نهاية المطاف. فلا يمكن لأي إنسان أن يسلك في حياته طريقين متضادّين، مثلما أنّه لا يمكن أن يتحرّك إلى الوراء وإلى الأمام في الوقت نفسه. أمّا التذبذب بين الفطرة والطبيعة، بحيث يتبع الفطرة حينًا والطبيعة حينًا آخر، فلا بد أن يُحسم في النهاية لمصلحة أحدهما، وهذا هو المصير.
وفي هذا الصراع سيستمد كلّ قطب ويستنجد بمجموعة من العوامل التي تقوّيه. فالفطرة تستمد من الحقائق والحكمة ومن كلّ أمر جميل، والطبيعة ستستمد من اللغو والعبث والباطل، وإن كان مغلّفًا بالجمال.
وهنا يأتي الغناء ليكون أحد أهم العوامل التي تقوّي الطبيعة البهيمية وتغلّبها على الدوافع الفطرية. لهذا، كان الغناء أحد أكبر العلل وراء تسافل الإنسان وانحطاطه.
إنّ كل أشكال الشقاء والتعاسة والاضطراب والقلق إنّما تنشأ من تعلّق الإنسان بالباطل والوهم وتوجّهه إليهما. وإنّ أحد مظاهر الباطل هو حين يعتقد الإنسان بأنّ سعادته تكمن في تلبية غرائزه وشهواته والسير على طريقهما. ومن مظاهر الباطل هذا أن يحصر الحب في إطار العلاقة مع الجنس الآخر. ولهذا، ترى هؤلاء العشّاق النزويّين في معاناة دائمة في علاقات العشق والشغف. ونحن هنا لا ينبغي أن نستهين بمثل هذه المعاناة، سواء من ناحية استهلاكها لأهم الطاقات البشرية أو من ناحية حرف هذا الإنسان عن طريق سعادته الواقعية.
إنّ قسمًا مهمًّا من عمر الإنسان وتوجّهاته يضيع هباءً منثورًا نتيجة عدم تمييزه بين الحبّ الحقيقيّ والحب الذي يتغنّى به المطربون. ولأنّ هذا الإنسان غافل عن مصيره وعن عاقبته، فهو لا يشعر بأي مشكلة من هذا الهدر والتضييع. فقد سيطرت على عقله تلك الأوهام الجذّابة والأباطيل العذبة حتى أنسته وجود حبٍّ حقيقيّ جميل خالٍ من المعاناة.
ولا يعني موقفنا هذا أنّ كل أغنية في العالم هي باطل ولغو، فلا شك أنّ في الغناء ما يشير إلى بعض حقائق الحياة وبعض القيم الجميلة؛ وعلى كل إنسان أن يميّز ويحدّد ما يصح أن يستمع إليه وما لا يصح. بَيد أنّ المشكلة الثانية هنا تكمن في البيئة الرائجة للغناء، والتي لا تسمح لأكثر الناس بالتمييز ولا تسعفهم في ذلك.
فإذا كان التمييز بين الحقّ والباطل في الكلام العادي والنقاش الهادئ أمرًا يتطلّب مهارات خاصّة، فكيف إذا أُسقط الكلام في قالب الغناء والألحان! لهذا، كان الأصل تحريم كل ما يمتّ إلى أجواء الغناء اللغوي والباطل بِصلة، حتى نوجد تلك المسافة اللازمة لصفاء العقل ونداء الفطرة. فالمشكلة لم تعد محصورة في الغناء نفسه، بل تعدّته إلى الأجواء والبيئة والثقافة المرتبطة به.
إنّ التغنّي بالكلام الحقّ والحكيم والداعي إلى الفضيلة والإنسانية لهو أمرٌ جميل، بمعزل عن مدى حاجة الإنسان إلى الألحان لإدراكه والاستفادة منه. ولا شك بأنّ لبعض الأغاني والأناشيد التي تمجّد تلك المعاني الجميلة أثرًا طيّبًا في النفوس، بل نجدها تعبّر عن حاجة ماسّة لإظهار الأهداف والقيم التي يؤمن بها الناس، خصوصًا في عصر الغناء الباطل.
وبالرغم من هول فاجعة الغناء اللهويّ على النفس البشريّة والحياة الاجتماعيّة والقيم الإنسانيّة، فنحن نعتقد بأنّنا نمتلك من الرصيد المعنويّ والمعرفيّ والتشريعيّ والقيميّ ما يجعلنا قادرين على الانتصار في هذه المواجهة. فأغنية حقّانيّة واحدة قادرة على إزهاق ألف أغنية باطلة، بشرط أن تتمتّع أنشودة الحقّ بعناصر التفوّق الجماليّ.
ولكن هل يمكن القول بأنّنا دخلنا في هذه المواجهة كما ينبغي، أم أنّنا ما زلنا نعيش التردّد بين المحظور والمقبول؟ ففي جولة عامّة على الأناشيد الإسلامية "كما يُقال"، نلاحظ فراغًا هائلًا في مجال مواجهة أغاني العشق الكاذب والحبّ الوهميّ، التي لها نصيب الأسد من هذا الفن الهابط. وإذا انتقلنا إلى المضمون وعمقه، فمن النادر أن نسمع أنشودة جميلة تطرح القيم الأصيلة بدل أن تستعمل الكلمات الفارغة الخالية من المعنى الذي يجب أن يصل إلى عمق الروح.
لقد استمعت إلى عشرات الأناشيد التي تدور حول تمجيد أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، ونادرًا ما وجدت أنشودة واحدة استطاعت أن تقفز فوق العموميّات والمعاني السطحيّة. حتى أنّني كنت أطلب من بعض المستمعين أن يقرأوا كلماتها دون أن يعلموا أنّها أغنية، ليخبروني إن كانوا يجدون فيها من المعاني ما يختص بمقامات هؤلاء العظماء ويحكي عن امتيازاتهم الجذّابة السامية المتفوّقة، لكن كانت الأجوبة أنّها قد تنطبق على أي إنسان عادي.
إنّ هواك لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وعشقك له وغرامك السكريّ به أمرٌ جميل، لكن تعبيرك عنه دون الإشارة إلى سببه لا يمكن أن يصبح حقًّا يدمغ باطلهم ويستهزئ بانحطاط معشوقاتهم.

ظاهرة الغناء في العصر الحديث
إنّ ظاهرة الطّرب والغناء تستهلك قسمًا مهمًّا من جهود النّاس وأعمارهم، وتصرف الطّاقات البشريّة عن فهم معنى الحياة والتفاعل مع كائناتها بطريقة عقلانيّة ذكية سليمة، وتحبط الإبداع الحقيقيّ وتؤدّي إلى مفاسد لا يحصيها إلّا الله على صعيد النّفس والعلاقات الاجتماعيّة والأسرة والحياة المعنويّة..
فترى هذه الظّاهرة تنعكس بصورة واضحة على الأرض إفسادًا وتخريبًا (يكفي كنموذج معاقرة الخمرة جرّاء حياة الطّرب وأجواء الغناء أو الاستخفاف بالمحرّمات أو الإقبال على الشهوات بما فيها من عبثية وندامة).
إنّ هذه الظّاهرة المرضيّة المهلكة تتفشّى منذ عشرات السّنين وتنخر بجسد البشريّة المتعب، بفعل الدّعاية الواسعة والدّعم الهائل من قبل مؤسّسات تابعة لحكومات وأمراء وشركات، وما كانت لتزدهر وتنتشر بهذا المستوى المفجع لولا هذا الدعم الحكوميّ والسلطويّ والرأسماليّ.
كم هو بعيد عن الواقع من يظن أنّ الغناء الشهواني ينتشر بين الناس دون رعاية تربويّة وإعلاميّة من قِبل أصحاب المال والسّلطة الذين وصفهم الله تعالى في كتابه بالذين يتّبعون الشهوات. وأجهل من هذا من لا يلتفت إلى الآثار النفسية الاجتماعية لهذه الظاهرة المتفشية.
لهذا، فإنّ البيئة الاجتماعيّة التي تتشكّل بفعل الأجهزة الطّاغوتيّة هي أقوى عامل في تخريب الأرض. وهذه البيئة تصبح عظيمة التأثير حين تقوم على أسس وقواعد فكريّة وعقائديّة وقيميّة مدعومة بأنظمة العادات والتّقاليد والموروثات. وبدورها ستحكم هذه الثّقافة علاقة الإنسان بغيره من النّاس والحيوانات والنّباتات، ويكون ناتجها الحتميّ تعطيل القابليّات المودعة فيه بحرمانه من فرصة التّفاعل الإيجابيّ مع كلّ موارد الأرض ونعمها.
سيضطرّ هذا الإنسان إلى تخريب الأرض من أجل حفظ نمط حياته وعلاقاته داخل مجتمعه. وهذا النمط من الحياة والعلاقات والنظم الاجتماعية يقوم على أسس ثقافيّة محدّدة.

الهوامش:

(1) أصول الكافي، ج6، ص434.

 (2)نْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (ص): كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَتْ نِسَاؤُكُمْ وَفَسَقَ شَبَابُكُمْ وَلَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَقِيلَ لَهُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ! كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ! قَالَ: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ! كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً. [أصول الكافي، ج5، ص 59].

المصدر: موقع باء للدراسات

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الإثنين 2 يوليو 2018 - 11:33 بتوقيت مكة