السيد عباس نورالدين
بعد مرور أكثر من ألف سنة على غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ما زلنا نشاهد أفرادًا وجماعات تعتقد بأنّه لا يجوز العمل بأي نحو من أجل التمهيد لظهوره وخروجه؛ هذا، بالرغم من ادّعاء هؤلاء الاعتقاد بوجوده وإمامته!
فما الذي حدث؟ ألم تكن كل هذه الفترة الزمنيّة كافية ليطّلعوا على الحقائق والمعلومات المهمّة التي قُدّمت لهم بهذا الخصوص؟ فتراثنا العلميّ حافل بمئات الأحاديث وعشرات الأبحاث والآراء التي تشير إلى أسباب الغيبة، وتربطها بقلّة الناصر والمؤازر. وكم من حادثةٍ جرت عبر تاريخ الأئمّة (عليهم السلام) وأوضح فيها هؤلاء الأطهار أنّ عدم قيامهم إنّما كان بسبب قلّة عدد من يمكن أن يقف معهم وهو مؤمن بمشروعهم وأهدافهم.
إنّ أدنى اطّلاع على سيرة أئمّة أهل البيت وما جرى عليهم، يقطع بأنّ قضية الناصر هي القضيّة المحوريّة في قيامهم بالأمر. ولا شك بأنّ المؤمنين بالأئمّة لا يظنّون بهم نقصًا من ناحية القدرة على إقامة حكم الله على الأرض، ولكن بعض هؤلاء قد يظن بأنّ لهذا الأمر ظروفه الخاصّة التي لا يعلمها إلا الله تعالى.
صحيح أنّ زمان تحقّق أمر الله لا يعلمه إلا الله ومن شاء، لكن هذا لا يعني أنّه لا ينبغي العمل لتحقيقه. فدخول مكّة المكرمة كان علمه عند الله؛ وقد أطلع الله عليه رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لكن ذلك جرى بعد جهاد مرير وصبر طويل للمسلمين. فالتوقيت شيء والعمل شيء آخر، وهما لا يتعارضان حتّى يُقال أنّ كذب الوقّاتين يستلزم عدم العمل على إنجاز الوعد.
وإذا عزلنا تلك الجماعة المتعاملة مع الغرب والمنسجمة مع سياساته القاضية بفصل الدين عن السياسة، فإنّ من بقي من المعارضين للتمهيد هم أشخاص لم يتمكّنوا من استيعاب السيرة العامّة والنهج الكلّي لأهل بيت العصمة والطهارة؛ فكأنّهم ما زالوا يعيشون في حقبة ما بعد كربلاء، التي تميّزت بخروج انتفاضات فاشلة رفعت شعارات أهل البيت وحتى أسماءهم؛ فكانت وبالًا عليهم بدل أن تخدم خطّهم وطريقة عملهم.
أجل، هناك العديد من المواقف التي نسمع فيها نهيًا ـ وحتى تقريعًا ـ من قبل الأئمّة بشأن الخروج على السلطان. لكن هذه المواقف لم تكن سوى قضايا في وقائع، لها ظروفها وخصوصيّاتها التي لا ترتبط بالنهج العام لحركة الأئمّة الرساليّة الكبرى. ولا شكّ بأنّ أئمّة الهدى عليهم السلام كانوا يشيرون إلى أحد أهم أركان أي حراك سياسيّ وهو ضرورة كون قيادته متمتّعة بالشروط اللازمة، من فقاهة وعدالة وحسن تدبير.
إنّ كل من يرتع في بيئة التّراث العظيم للإسلام لا يشك لحظة واحدة بأنّ دين الله لا يمكن أن يرضى لعباده الكفر والفسوق والعصيان؛ وهي كلّها نتائج حتميّة لحكومة الجور وسلطان الجهل. وكيف يمكن أن يرضى الإسلام بكل ما جرى على المسلمين من كوارث ومصائب لطّخت جبين التاريخ بأبشع المواقف وأشدّها ظلاميّة! وهل يمكن أن يصل الوضع إلى ما هو أسوأ من حيث التمزّق والضياع والضلالة التي مرّت على المسلمين؟!
لهذا، لا يمكن لأي مؤمن بهذا الدين أن يرضى بتلك الأوضاع التي عاشتها الأمّة المسلمة، وما زالت تعيشها، في العديد من أوطانها. ولا بد من رفض ذلك كلّه، والسعي الجاد للتغيير والإصلاح بكل ما أوتينا من قوّة. وهنا سنجد أنّ ما يقف على رأس هذه الإصلاحات هو الدعوة إلى الإمامة الحقيقيّة والقيادة الربّانيّة.
ولو تأمّلنا في كلّ جهاد يمكن أن يقوم به المسلمون لإصلاح أمورهم، لما وجدنا ما هو أولى وأشدّ تأثيرًا من هذه الدعوة، ولما وجدنا ما هو أشدّ على الظالمين وأعداء الأمّة منها. وفي المقابل، يجب أن نعلم أنّ إغفال هذه الدعوة لن تكون عاقبته سوى نسيان الإمامة من أصلها. فقضيّة الإمامة العادلة تبقى حيّة في النفوس والاعتقادات من خلال إظهار حقيقتها والدعوة إليها. وهذا ما يغضب الظالمين ويثير حنقهم ويهدّد عروشهم.
فالحريّ بالذين يرفضون التمهيد أن يلتفتوا إلى الآثار الوخيمة الناجمة من إخفاء المعاني الحقيقيّة للإمامة، وأنّهم بذلك لا يخدمون إمام زمانهم بشيء، بل سيكونون عنده أكثر من يثير استياءه ونفوره.
لم تكن قضيّة الإمامة لأجل الحكم والسلطة بقدر ما كانت لأجل تهذيب النفوس وتربيتها. ولا يمكن أن نجد ما هو أسوأ على دين المؤمن من قبوله بالظّلم وعدم رفضه له. بل إنّ العامل الأوّل لبقاء الإيمان في القلب يكمن في أن ينهض صاحبه لقلع الظلم من العالم كلّه. وأي إيمان لا يجد له في قلوب العباد مثل هذا الشعور الرافض الكاره، سيرتحل عنها ولن يستقر فيها. لهذا، فإنّ الذين يعتادون على مشاهد الظلم والفساد والمنكر في مجتمعاتهم، سرعان ما يتحوّلون إلى مخلوقات مشوّهة فاقدة لروح الإيمان والإسلام.
من الطبيعيّ أن يخاف الإنسان من السلطان الجائر المستبدّ الطاغي، لكن خوفه هذا لا ينبغي أن يصبح وسيلة لتفسير الإسلام وفق ذلك. ولا بأس أن يعترف هؤلاء بخوفهم أو عدم قدرتهم على النهوض والكفاح، لكن أن يجعلوا ذلك عقيدة يتعرّضون بواسطتها لكلّ من يجاهد ويناضل ويضحّي ويمهّد، فهو أمرٌ مشين لا يزيد من قباحتهم إلا قبحًا.
لقد آن الأوان لكي يدرك الشباب الذين يعيشون في مثل هذه البيئات تلك الحالات النفسية المقنعة، ويعلموا أنّ الجبن والخوف لا يمكن أن يبقى مستترًا. فحين يصبح شبابنا على دراية بقيم الإسلام وأخلاقه، وتقوى فيهم التوجّهات إلى معنويّاته، سيتعرّفون بسهولة على كلّ من يبني عقائده على الخوف والتقاعس، فلا تنطلي عليهم أحابيلهم وأفكارهم الزائفة.
المصدر: مركز باء للدراسات