نطقت أحاديث أهل البيت عليهالسلام وبصورة متواترة بأن الله تعالى لا يخلي أرضه من حجة على عباده منذ أن خلق الله آدم وإلى قيام الساعة ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الحجة ظاهراً مشهوراَ ، أو خائفاَ مستوراً .
والتسليم بهذه القاعدة يعني الاعتقاد بوجود الإمام المهدي عليهالسلام في أرض الله عزّوجلّ وإن لم يره أحد ، وهو بحد ذاته كاف لنمو الفضيلة ، وخلق جوّ من التآلف والمودّة بين المؤمنين الذين يعيشون في حالة انتظار دائم وترقّب شديد لظهوره عليهالسلام ، الأمر الذي يؤدي إلى حفظ المجتمع المسلم من التشتّت والضياع ، ومنعه من الانحدار وراء الشهوات ، وصونه من كل انحراف.
كما أن نفس وجود الإمام عليهالسلام فيه منافع كثيرة ترتبط بحياة الناس جميعاً ، من نزول بركات السماء ، وعدم المؤاخذة بالعقاب العاجل ونحوها ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة مبيناً أهميتة الحجة وهي في زمن نزوله منحصرة برسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال تعالى : { وما كان الله ليعذّبهم أنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون} (الأنفال/33) ، وأما بعده صلىاللهعليهوآله فلا شكّ في أنها بآله الكرام عليهمالسلام.
لقد حاول الإمام الصادق عليهالسلام تقريب صورة الانتفاع بالإمام الحجة الغائب عليهالسلام بمثال مادي محسوس ، ليكون ذلك أدعى إلى الإذعان والتصديق.
فعن سليمان بن مهران الأعمش ، عن الإمام الصادق ، عن أبيه الإمام الباقر ، عن أبيه الإمام على بن الحسين عليهمالسلام ، قال : « نحن أئمة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ... ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة الله ولا تخلوا إلى أن تقوم الساعة من حجة الله فيها ، ولولا ذلك لم يعبد الله. قال سليمان : فقلت للصادق عليهالسلام : فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال عليهالسلام : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب » (إكمال الدين ١ : ٢٠٧ / ٢٢ باب ٢١ ، وأمالي الصدوق : ١٥٦ ـ ١٥٧ / ١٥ مجلس / ٣٤).
وكما أن السحاب لا يمنع من فوائد الشّمس الكثيرة ، ولولاها لانعدمت الحياة ، فكذلك لا تمنع الغيبة من الفوائد العظيمة المترتّبة على وجود الإمام عليهالسلام، وهذا ما يفسّر لنا معنى قول الإمام الصادق عليهالسلام : « لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت » (أصول الكافي ١ : ١٧٩ / ١٠ ، باب من الأرض لا تخلوا من حجة).
جدير بالذكر من حديث الإمام الصادق عليهالسلام المتقدم برواية الأعمش هو جزء من حديث عظيم لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، برواية جابر بن عبد الله الانصاري ، قال رضي الله عنه : « لمّا أنزل الله عزّوجلّ على نبيّه محمد صلىاللهعليهوآله { يا أيّها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (النساء/59) قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله ، فمن اولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال عليهالسلام : « هم خلفائي يا جابر ، وأئمة المسلمين(من) بعدي أولهم عليّ بن أبي طالب ، ثم الحسن والحسين ، ثم عليّ بن الحسين ، ثم محمد بن عليّ المعروف في التوراة بالباقر ، وستدركه يا جابر ، فإذا لقيته فأقرئه منّي السّلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم عليٍّ بن موسى ، ثم محمد بن عليّ ، ثم عليّ بن محمد ، ثم الحسن بن عليّ ، ثم سميّي وكنيي حجة الله في أرضه ، وبقيّته في عباده ابن الحسن بن على ، ذاك يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان » ، قال جابر : فقلت له : يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال صلىاللهعليهوآله : « اي والذي بعثني بالنبوَّة إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سرالله ، ومخزون علمه ، فاكتمه إلاّ عن أهله » (إكمال الدين : ١ : ٢٥٣ / ٣ باب ٢٣).
وتشبيه فائدة الإمام المهدي عليهالسلام في غيبته بفوائد الشمس المجللة بالسحاب يوحي إلى أمور ، قد تعرض لها العلامة المجلسي في ذيل هذا الخبر ، ولا بأس بنقلها كما هي لفائدتها.
قال رحمة الله : « بيان ـ التشبيه بالشمس المجللة بالسحاب يوحي إلى أمور :
الأول : إن نور الوجود والعلم والهداية ، يصل إلى الخلق بتوسّطه عليهالسلام ؛ إذ ثبت بالأخبار المستفيضة منهم العلل الغائية لايجاد الخلق ، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم ، وببركتهم والاستشفاع بهم ، والتوسل إليهم يظهر العلوم والمعارف على الخلق ، ويكشف البلايا عنهم ، فلولاهم لا ستحقّ الخلق بقبائح أعمالهم أنواع العذاب ، كما قال تعالى : { وما كان الله ليعذّبهم ومنت فيهم }(الأنفال/33) ولقد جرّبنا مراراً لا نحصيها أن عند انغلاق الأمور وإعضال المسائل ، والبعد عن جناب الحقّ تعالى ، وانسداد أبواب الفيض ، لمّا استشفعنا بهم ، وتوسلنا بانوارهم ، فبقدر ما يحصل الارتباط المعنوي بهم في ذلك الوقت ، تنكشف تلك الأمور الصعبة ، وهذا معاين لمن أكحل الله عين قلبه بنور الإيمان.
الثاني : كما أن الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها ـ ينتظرون في كل آن انكشاف السحاب عنها وظهورها ، ليكون انتفاعهم بها أكثر ، فكذلك في أيام غيبته عليهالسلام ، ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره ، في كل وقت وزمان ، ولا يبأسون عنه.
الثالث : إن منكر وجوده عليهالسلام مع وفور ظهور آثاره كمنكر وجود الشمس إذا غيبها السحاب عن الأبصار.
الرابع : إن الشمس قد تكون غيبتها في السحاب أصلح للعباد ، من ظهورها لهم بغير حجاب ، فكذلك غيبته عليهالسلام أصلح لهم في تلك الأزمان ؛ فلذا غاب عنهم.
الخامس : إن الناظر إلى الشمس لا يمكنه النظر إليها بارزة عن السحاب ، وربّما عمي بالنظر إليها لضعف الباصرة عن الاحاطة بها ، فكذلك شمس ذاته المقدّسة ربّما يكون ظهوره أضرّ لبضائرهم ، ويكون سببا لعماهم عن الحق ، وتحتمل بصائرهم الإيمان به في غيبته ، كما ينظر الإنسان إلى الشمس تحت السحاب ولا يتضرر بذلك.
السادس : إن الشمس قد تخرج من السحاب وينظر إليها واحد دون واحد ، فكذلك يمكن أن يظهر عليهالسلام في أيام غيبته لبعض الخلق دون بعض.
السابع : إنهم عليهمالسلام كالشمس في عموم النفع ، وإنما لا ينتفع بهم من كان أعمى كما فسّر به في الأخبار قوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً }(الإسراء/72).
الثامن : إن الشمس كما أن شعاعها يدخل البيوت ، بقدر ما فيها من الروازن والشبابيك ، وبقدر ما يرتفع عنها من الموانع ، فكذلك الخلق إنما ينتفعون بأنوار هدايتهم بقدر ما يرفعون الموانع عن حواسهم ومشاعرهم التي هي روزان قلوبهم من الشهوات النفسانية ، والعلائق الجسمانية ، وبقدر ما يدفعون عن قلوبهم من الغواشي الكثيفة الهيولانية إلى أن ينتهي الأمر إلى حيث يكون بمنزلة من هو تحت السماء يحيط به شعاع الشمس من جميع جوانبه بغير حجاب » (بحار الأنوار / العلاّمة المجلسي ٥٢ : ٩٣ ـ ٩٤ ذيل الحديث الثامن ، باب علّة الغيبة وكيفية انتفاع الناس به عليهالسلام.)
المصدر:كتاب غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق(ع)