السيد هاشم معروف الحسني
إنَّ التشيّع في الإسلام كان جزءاً من الدعوة التي دعا إليها القرآن، وبلّغه الرسول إلى الأُمّة في جملة ما بلّغه من تشريعات وأنظمة، وهو بمفهومه الشائع بين المسلمين في هذا العصر وقبله، كانت بذرته الأُولى في عصر الرسول وبعد وفاته، والذين تابعوه منذ اللحظة الأُولى عند صدور البلاغ الأول من الرسول (صلّى الله عليه وآله)، كانوا يؤمنون بأنّه منصوص عليه من الله وحده، ولم يكن الرسول إلا مبلّغاً عن ربّه هذا الأمر كغيره من التكاليف والتشريعات.
أمّا ما ذهب إليه أكثر الكتّاب العرب والمستشرقين، من أنّ التشيّع حدَث بعد مقتل عثمان، كما يذهب إلى ذلك الشيخ محمّد أبو زهرة، أو بعد واقعة صِفّين كما يدّعي آخرون، كما ذهبت فئة منهم إلى أنّه حدَث بعد انتشار الموالي الذين دخلوا الإسلام من الفُرس وغيرهم، وفئة أُخرى تدّعي أنّ القول بالوصاية أوّل مَن أحدثه عبد الله بن سبأ اليهودي، إلى غير ذلك من الآراء الشاذّة التي تردّدت على ألسنة الكتاب العرب والأجانب، كلّها لا تمتّ إلى الواقع بأيّ صلة، وتنفيها النصوص الإسلامية، وكتب التاريخ.
ولا بدّ لنا من وقفة مع الأُستاذ (البير نصر)، أُستاذ الفلسفة الإسلامية في الجامعة اللبنانية، قال في كتابه "أهمّ الفِرَق الإسلامية حول عقيدة الشيعة في الخلافة": "إنّ هذه الفكرة التي تجعل من الإمامة حقّاً إلهيّاً، ليست من خصائص التفكير البدوي، حتى ولا من خصائص عرب الجزيرة، حيث تسود بينهم روح المساواة.
إنّ هذه الفكرة دخلت عليهم من جهة الفُرس الذين كانوا ينظرون إلى ملوكهم بعين الاحترام الزائد، ويعتبرونهم أسمى من باقي البشر؛ وهذا ما يعلّل لنا لماذا تستعمل اللغة الفارسية في الأوساط الشيعية في العراق، لا سيّما الأوساط العلمية، مثل النجف وكربلاء والكاظمية".
لقد تابع الدكتور غيره من المستشرقين في هذه النظرية، ولم يعتمد على النصوص الإسلامية، ولا على الوقائع التي رافقت تاريخ المسلمين قبل الفتح العربي لبلاد الفُرس، ولو رجع إلى ذلك، لوجد أنّ فكرة الوصاية قد رافقت تاريخ الإسلام، وقد آمن بها جماعة من المسلمين من نصوص الرسول التي كان يتلوها على المسلمين بين حين وآخر، ولأجل تلك النصوص، وقَف جماعة من المسلمين إلى جانبه بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وذلك قبل اتّصال الفُرس بالعرب بعشرين عاماً تقريباً، وقبل إسلام ابن سبأ الذي يَنسب الكتاب إليه أنّه لعب دوراً هامّاً في هذه الناحية، وكان من أعظم العناصر الأجنبية عناءً في ذلك.
ومِن المؤسف أنْ يكتب الدكتور أُستاذ الفلسفة عن الشيعة ما يُبرّئهم منه الواقع والتاريخ، وتُدرّس آراؤه وكتبه في الجامعات اللبنانية، مع أنّه يعيش معهم في بلدٍ واحد، ذلك البلد الذي يعيش فيه الشيعة مع غيرهم من الطوائف الأخرى، ويشكّلون أكثر من ثلُث سكّانه، ومن السهل عليه أنْ يتّصل بعلماء الشيعة وكتبهم المنتشرة في أكثر المكاتب، وعلى الأخصّ فيما يرجع لهذه المواضيع، ولو فعل ذلك، لسلِم من هذه الأخطاء، ولكنّه شاء أنْ يكون مقلّداً لغيره، فأرسل أحكامه بدون تمحيص وتحقيق، وجعل من آثار هذه الحقيقة على حدّ زعمه، انتشار اللغة الفارسية في بلاد الشيعة من العراق، ولا سيّما الأوساط العلمية، كالنجف وكربلاء والكاظمية، وظنّ أنّه قد اهتدى إلى حقيقة ضاعَت على غيره من الباحثين، مع أنّه لايزال بعيداً عن الواقع في تعليل هذه الظاهرة التي يدّعيها في الأوساط الشيعية؛ لأنّ بلاد العراق أكثر سكّانها من العرَب، والعربية هي اللغة الشائعة في أكثر المدن والقرى، وفي جميع الأوساط العلمية وغيرها، وأكثر المواطنين لا يحسنون غيرها، أمّا المدن الثلاث؛ النجف وكربلاء والكاظمية، هذه المدن يهاجر إليها الشيعة من مختلف البلاد للدراسة والزيارة على اختلاف أصنافهم، وهؤلاء في شؤونهم الخاصّة يتكلّمون بلغاتهم المختلفة، أمّا لغة الدرس وكتب الدراسة وغير ذلك من الشؤون العامّة، فهي اللغة العربية، ولا أثَر لغيرها في جميع الشؤون. ولكنّ الدكتور، بعد أنْ عزا فكرة التشيّع إلى الفُرس، وتخطّى التاريخ الإسلامي الصحيح الذي ينصّ على أنّ التشيّع نشأ في بلاد العرب، ومِن العرب أنفسهم، قبل أنْ يعرف العرب الفُرس بأكثر من عشرين عاماً، بعد هذه النسبة، جعل من آثارها انتشار اللغة الفارسية بين شيعة العراق، وعلى الأخصّ الأوساط العلمية، فأضاف إلى خطئه الأوّل خطيئة أُخرى لا مبرّر لها، وقد اشتمل كتابه (نصوص ودروس في أهم الفِرق الإسلامية)، على بعض الآراء السطحية والأخطاء التاريخية، وربّما نتعرّض لبيانها حسب المناسبات في الفصول الآتية.
ومهما كان الحال، لقد كانت مشكلة الخلافة الإسلاميّة أُولى المشاكل التي اصطدم بها الركْب الإسلامي، وعلى حسابها، انقسم المسلمون إلى فئتين: فئة وقفت إلى جانب عليّ (عليه السلام)، معتمدةً على النصوص التي وردت في القرآن والسنّة، والفئة الثانية، رأت أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فارق الدنيا وترَك للمسلمين حقّ اختيار الحاكم الذي يرونه صالحاً لهم، وقد وقَفت هذه الفئة من النصوص موقفاً سلبيّاً في واقع الأمر، فأنكروا بعضها، وتأوّلوا البعض الآخر، حيث لم يتمكّنوا من إنكاره.
واختار المسلمون أبا بكر، وهو بدوره قد اختار لها عمر بن الخطّاب من بعده، وانتهت بعده لعثمان بن عفّان، بعد أنْ رفَض عليّ العروض التي عرَضها عليه أحد الستّة (عبد الرّحمن بن عوف)، وآثر العمل باجتهاده فيما لا نصّ عليه من كتابٍ أو سنّة، على انتهاج سيرة الشيخين أبي بكر وعمر والتقيّد بآرائهما.
لقد انتهت لعثمان بعد أنْ تقبّل العروض بلهْفة ورحابة صدر، مؤثراً سيرة الشيخين وكلّ ما يفرض عليه على رأيه واجتهاده، في سبيل الوصول إلى الخلافة مهما كلّفه ذلك من ثمن. هاتان الفئتان هما مصدر الفِرق الإسلاميّة والنزاع القائم بين المسلمين طيلة هذه القرون المتوالية، وقد اتخذ بعد الفترة الأُولى من تاريخه طابعاً سياسياً أدّى إلى النزاع المسلّح أُريقت فيه دماء المسلمين، وتطوّر البحث بينهم في الخلافة، وظهرت فيه أطوار من الجدَل مبنية على التسلسل المنطقي وعلم الكلام، الذي يمتّ بأوثَق الأسباب إلى الفلسفة وقواعدها. ومع أنّ الخلافات التي ظهرت في الإمامة لم تبقَ على بساطتها الأُولى، وتطوّرت بشكلٍ علميّ، لم تخرج بجوهرها عن النزاع الذي نشأ فيها منذ اليوم الأوّل لوفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وتعود في النهاية إلى أنّ الخلافة، هل يجب أنْ تكون بنصٍّ من الله يقوم الرّسول بتنفيذه، أم تكون باختيار الأُمّة؟ وهل يستمد الخليفة سلطته من الله سبحانه، أم يستمدّها من المؤمنين؟ إلى غير ذلك من النواحي التي برزت في أبحاثهم ومناظراتهم.
المصدر: الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة