مناقشة... في التوسل بالأنبياء والأولياء

السبت 23 يونيو 2018 - 10:45 بتوقيت مكة
مناقشة... في التوسل بالأنبياء والأولياء

فقد اعتبر السلفيون – وفي مقدّمهم الوهابيون – أنّ هذه الأمور تمثّل ألواناً من العبادة لغير الله، وذلك من خلال ما تمثّله من الخضوع لهؤلاء...

يمكن لنا الإطلالة على الخلاف الدّائر بين التيار الوهابي السلفي وبين المذاهب الإسلامية الكلامية الأخرى في مسألة التوسّل بالأنبياء وبالأئمة والأولياء، والاستشفاع بهم إلى الله، والتبرُّك بقبورهم، وما إلى ذلك من المفردات الطقوسية المتمثّلة في السلوك الإسلامي العام. فقد اعتبر السلفيون – وفي مقدّمهم الوهابيون – أنّ هذه الأمور تمثّل ألواناً من العبادة لغير الله، وذلك من خلال ما تمثّله من الخضوع لهؤلاء، الذي هو مظهرٌ من مظاهر العبادة، ولذلك كفّروا المسلمين الذين يمارسون هذه الأعمال ونسبوا إليهم الشّرك بالله.

لكنّ جمهرة المسلمين من السنّة والشيعة خالفتهم في ذلك – من حيث المبدأ – لأنّ مثل هذه الأمور لا تمثّل معنى العبادة في طبيعتها، إذا لم ينضم إليها الاستغراق الذي يحمل معنى التألُّه، فيما توحي به كلمة الشرك في العبادة، الذي يرتبط بالفكرة التي ترى في الذات أو الصنم سرّ الألوهية بدرجةٍ معيّنةٍ، قد تزيد وقد تنقص، تبعاً لما يمثّله الأشخاص الصنميّون في ذلك.

وإذا كان بعض السلفيّين يوردون بعض الأحاديث الناهية عن زيارة القبور، أو يفلسفون مسألة التوسُّل والشفاعة من خلال بعض العناوين والمفردات العقيدية أو الشرعية، فإنّ المسألة تتحوّل إلى التوفّر على دراسة هذه الأحاديث، أو تلك التحليلات على أساس الحوار العلمي الكلامي أو الفقهي، الخاضع للدراسة المعمّقة التي تضع الأمور في نصابها الصحيح. ولا بدّ لمثل هذا الحوار من أن يخضع للمنهج الإسلامي في مفرداته وأساليبه وروحيّته القائمة على الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، لا في تسجيل النقاط في هذه الدائرة أو تلك على الطريقة الجدلية، لأنّنا لاحظنا في أكثر المطارحات الدائرة في هذه القضايا، أنّها كانت تتحرّك من روحيةٍ متشنّجةٍ، لا من ذهنيةٍ منفتحة.

وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نتجاوز ذلك كلّه إلى النتائج العلمية الإسلامية القائمة على الأصول الثابتة من الكتاب والسنّة الصحيحة.

وهذا هو الذي لاحظناه فيما نُسِبَ- زوراً- إلى الشيعة الإماميّة من الغلوّ في الأئمة، ومن السجود لغير الله، فيما يأخذونه من تراب قبر الإمام الحسين(ع) للسجود عليه في الصلاة، بحجّة أنّه يمثّل السجود للإمام الحسين(ع)، ومن التحريف للقرآن، وغير ذلك من الأمور التي قد يلتقي المسلمون على معرفتها بدقّةٍ – من خلال الحوار – لتصفو النظرة، وتستقيم الفكرة، وتتأكّد الثقة.

وخلاصة الفكرة في مسألة العبادة، أنّها تمثّل غاية الخضوع للمعبود من حيث الشّكل، فيما يعبّر عنه من وسائل التعبير القوليّة والفعليّة بالمستوى الذي يوحي بالانسحاق أمامه، ومن حيث المضمون، فيما ينطلق به العبد من الخضوع الدّاخلي للمعبود، بحيث يستغرق في ذاته، فيما هي عبادة الذات، أو في موقعه، فيما هي عبادة الموقع – الرمز.

أمّا الشرك في عبادة الله، فإنّه ينطلق من الاستغراق في عبادة غيره من موقع التألُّه، أو من موقع الإيحاء بالأسرار الإلهيّة الكامن في ذاته، كما هو في قوله تعالى في الحديث عن منطق العابدين للأصنام: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزمر: 3].

فقد كان الوثنيون يتوجّهون إليهم بالعبادة، فيطلبون منهم حوائجهم، ويبتهلون إليهم على أساس أنّهم يتقرّبون إليهم بذلك ليقرّبوهم إلى الله، من خلال الخطوة الذاتية لديهم، الناشئة عن هذه المواقف العبادية المنفتحة عليهم.

أمّا ما يفعله المسلمون، فإنّهم يؤكّدون شرعيّة الشفاعة والتوسُّل بالأنبياء والأولياء، باعتبار أنّ المسلمين يفعلون ذلك من موقع التوجُّه إلى الله بأنْ يجعلهم الشفعاء لهم، وأن يقضي حاجاتهم بحقِّ هؤلاء فيما جعله لهم من الحقّ، مع الوعي الدّقيق للمسألة الفكرية في ذلك كلّه، وهو الاعتراف بأنّهم عباد الله المكرمون، المطيعون له، الخاضعون لألوهيّته، الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وأنّهم البشر الذين منحهم الله رسالته فيما ألقاه إليهم من وحيه، ومنحهم ولايته فيما قرّبهم إليه في خطّهم العمليّ... فكيف يُقاس هذا بذاك؟!

وإذا كانوا يعتقدون أنّهم الشفعاء، فلأنّ الله أكرمهم بذلك، وحدَّد لهم حدوداً فيمن يشفعون له {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 28]، فليست القضية قضية أسرارٍ ذاتيةٍ في خصائص الألوهيّة تتيح لهم هذا الموقع، تماماً كما هي قضية العلاقات المميّزة الخاضعة للأوضاع العاطفية أو نحوها، بل القضية قضية كرامةٍ من الله لهم، من خلال حكمته البالغة في ألطافه بأوليائه.

وهكذا نرى أنّ الذهنية العقيدية لا تحمل أيّ لون من ألوان الشرك بالمعنى العباديّ، كما لا يحملون ذلك بالمعنى الفكريّ، بل يختزنون، في دائرة التعظيم للأنبياء وللأولياء، الشعورَ العميقَ بأنّ الله هو خالق الكون ومدبّره، وأنّ هؤلاء لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلّا بالله، وأنّ كلّ ما لديهم ممّا يعتقد الناس أنّهم يملكون التّأثير فيه بشكلٍ وآخر، هو من آثار لطف الله بهم في تمكّنهم من ذلك بإذنه وإرادته، تماماً كما هو الإيحاء فيما تحدّث به القرآن عن عيسى(ع) في حديثه عن مواقع قدرة الله في ذاته، وذلك قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ...}[آل عمران: 49].

وإذا كان الله قادراً على أن يحقِّق ذلك – من خلالهم – في حياتهم، فهو القادر على أن يحقّق ذلك بعد مماتهم- باسمهم – لأنّ القدرة، في الحالين، واحدة فيما يريد الله له أن يكون في ساحة قدرته في حركة خلقه. فليس في ذلك شيء من الشرك بالمعنى الدّقيق لهذا المفهوم...

... في الواقع، نحن نتوسّل بأهل البيت توسّل استشفاع، فنقول: "اللّهمّ واجعل توسّلي به شافعاً يوم القيامة نافعاً". فنحن نطلب من الله قضاء حوائجنا، ولا نطلبها من أهل البيت(ع). إننا نتشفّع بهم إليه، أي نجعلهم شفعاءنا إلى الله في قضاء الله سبحانه وتعالى حوائجنا، على أساس أنّ الله أراد أن يكرّم أنبياءه ورسله وأولياءه، بأن يشفِّعهم في قضاء حوائج عباده، وأن يشفِّعهم في غفرانه وعفوه لعباده، فيمنحهم ذلك الموقع وتلك الكرامة، وليس معنى ذلك أنَّ الشفاعة صُوَريّة، بل هي حقيقية، ولكن ضمن البرنامج الإلهيّ فيما يأخذون به في فعلية الشفاعة لهذا أو ذاك، وفيما يُترك، على هدى قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 28]. ولذلك، نحن نقول إنّنا إذ نتوسَّل، فنرفع الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، نتوسّل بالله في ذاته، وبحقّهم، أي ممّا جعل الله لهم من حقّ في هذا المجال، وليس شركاً بالله، بل هو مظهر لتوحيد الله، فأنت عندما تطلب حاجتك، إنّما تطلبها من الله سبحانه وتعالى، وتجعل رسول الله ووليّه باباً من الأبواب التي يمكن أن يفتحها الله لك بما جعله الله له من ذلك، وهذا لا مانع منه.

المصدر: من كتيب عقائد العلامة السيّد محمد حسين فضل الله.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 23 يونيو 2018 - 10:45 بتوقيت مكة