السيد عباس نورالدين
جعل الله تعالى السعادة في الطمأنينة والروح، وجعل الكون كلّه في خدمة هذه السعادة. فمن أدرك قوانين العالم، وعمل بها ضمن لنفسه هذه السعادة الأبدية.
أجل، لا ينبغي أن يساورنا أدنى شك بأنّ نظام العالم قائمٌ على أساس الرحمة التي تشتمل على كل خير وجمال. فالعالم ظلّ الله، وظلّ الجميل جميل. وعلى هذا الأساس، فإنّ أصل كل شقاء وتعاسة يرجع إلى مخالفة هذا النظام الحتميّ، الذي يجري وفق مشيئة الله الغالبة. والعاقل الذكيّ، هو الذي يعمل وفق قوانين الكون والخلقة. والجاهل المتعنّت هو الذي يخالفها ويسير بعكسها.
لقد خلق الله تعالى كل هذه العوالم بما فيها من أجل أن تكون مظهر جماله وكماله. وجعل للإنسان الدور المحوريّ في تحقيق هذا التغيير والتكامل. ولم يكن هذا الدور إلا في إطار حياة اجتماعية يتكافل فيها الناس ويتفاعلون فيما بينهم. فلا يقدر الإنسان على السير نحو هذا الهدف، إلّا إذا كان يعمل على بناء المجتمع الصالح وتأسيس المدينة الفاضلة. إنّ هذا السعي والتحرّك هو الانسجام مع نظام الخلقة. وفي ظلّ هذا الانسجام تصبح الأشياء كلّها في خدمة هذا العامل الساعي وسعادته وكماله.
لو تأمّلنا في عمق هذا الكلام لعرفنا سرّ السعادة الأعظم.. ولا يبقى بعدها سوى السعي والتحرّك، الذي سيغني معرفتنا وتجربتنا بهذه الحقيقة. فالذي يجعل حياته وقفًا لهذا الهدف، فيعمل ليل نهار على إصلاح مجتمعه، سوف يسخّر الله له كل ما يورثه الروح والطمأنينة والحياة الطيبة.
إنّها النظرة المسؤولة تجاه البشرية، والتي تبدأ من الأسرة الصغيرة لتتوسّع وتشمل كل من يمكن أن يكون تحت حيطة تأثيرنا. وتقضي هذه النظرة أن نعمل على إقناع من حولنا للانضمام إلى هذا المشروع الإلهيّ الكبير، وذلك طبعًا بالاستفادة من التراث الإلهيّ العظيم، الذي أسّس له الأنبياء ورسّخه الأئمّة الأولياء عليهم السلام. فلدينا الكثير من المعارف والحكم والمعنويات والتجارب والآثار التي يمكن تسخيرها لأجل استقطاب الناس من حولنا وإقناعهم ليسلكوا هذا الطريق ويبتعدوا عن حياة العبث والضياع.
إنّ الذي يعمل على هداية إخوانه وأقاربه وزملائه، وإخراجهم من الضياع والضلالة والعبثية، لهو الجدير بأن يكون وارث الأرض وصاحب السماء. وهذه هي الأسوة الحسنة لرسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله) التي يشقى كل من يغفل عنها. وما أشدّ ضلالة من لم يتعرّف إلى هذه الأسوة، وما أبعده عن الحقّ والسعادة. فكيف لنا أن ندرك الحياة الطيّبة بعيدًا عن هذا النموذج، الذي جعله الله تعالى كالشمس الساطعة التي أضاءت كلّ الظلمات؟ وكيف لنا أن نستشعر السعادة والطمأنينة ونحن غافلون عن النهج القويم في التعامل مع الحياة الاجتماعية؟
إن سنّة الله الكبرى، التي لا تغلبها أي سنّة أو قانون، هي التي تكون مظهرًا تامًّا لمشيئته المطلقة. ولا يريد الله شيئًا من هذا العالم ـ بمخلوقاته وكائناته ـ سوى أن يتحقّق بهذا الهدف ويصل إليه ليكون مظهرًا تامًّا لأسماء الله وصفاته.. وها نحن نريد السعادة ونريد للكون أن يطيعنا ويحقّق لنا أمانينا، ولا نعمل على هدايته وقيادته نحو ذلك الهدف.
حاشا وكلا، فليس للسعادة سوى طريق واحد. فالسعادة الحقيقية ليست سوى نتاج السير على هذا الطريق. أمّا التعاسة التي تقضّ مضاجعنا، وذاك الشقاء الذي يهلكنا، فهما بسبب تنكّبنا عن هذا الصراط.
أمّا إذا نظرنا إلى الناس من حولنا ورأيناهم أبناء هذا المشروع الكبير وعملنا على هدايتهم ليكونوا كذلك، فإنّ أي أذى نلاقيه منهم ـ مهما كان شديدًا ـ لن يؤثّر على ذلك الشعور الرائع الذي سيستولي على قلوبنا جرّاء تلك النظرة الرحيمة؛ بل ربما يزيد سرورنا وسعادتنا أضعافًا كثيرة!
حين يصبح الناس بالنّسبة لنا مجرّد وسائل وأدوات لتحقيق رغباتنا، بدل أن نراهم وسيلة لتغيير العالم وإصلاحه، وحين ننظر إلى الآخرين بعين الأنانية والمصلحة الذاتية، وحين نعيش التوقّعات الدائمة بأن يكون الأهل والأقارب والزملاء مصدر فرحنا، نكون قد ضللنا الطريق. فلا شيء يسكّن أفئدتنا المضطربة سوى أن نعمل على هدايتهم ومساعدتهم وإصلاحهم دون أجر أو مقابل. وإن كنّا سننال الكثير على هذا الطريق.
إنّ سعينا للإصلاح الجاد يجرّنا حتمًا إلى بيئة الصالحين. فالصالحون يجتمعون مثلما يجمع المغناطيس ذرّات الحديد. وهكذا، سرعان ما يتشكّل المجتمع الصالح الذي يتعرّف فيه الإنسان على طيب الناس وطهارتهم وحسنهم. فإذا كنت تعاني من قلّة الصحبة الطيّبة، فقد يكون ذلك بسبب أنّك لا تتحرّك على هذا الطريق.
إنّ الأشرار متباغضون متعادون، وإن الأخيار متحابّون متآلفون. فالأشرار يتنازعون متاع الدنيا القليل وتشحّ أنفسهم عليه. والأخيار يتبادلون منافع الحياة وخيراتها فتسخو أنفسهم بها. وقد قال الله تعالى بشأن الأشرار: {إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}.[1] وقال بشأن الأخيار: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}.
إنّني لم أجد بعد كل هذا العمر طريقًا للسعادة في العلاقات والحياة الاجتماعية سوى هذا الطريق الذي نعمل فيه من أجل هداية الآخرين وخدمتهم وإقناعهم لنتشارك ونتعاضد ونعمل معًا من أجل هدفٍ إلهيّ واحد وهو إصلاح العالم.
المصدر: مركز باء للدراسات