كان الأمير الشاب قد بدأ بالتخطيط لها منذ أن تم تدشين الحقبة «السلمانية» في المملكة. ومع مرور عام على تسلّمه منصبه الأهم، تبدو طموحات ابن سلمان وأحلامه بعيدة من التحقق، في ظلّ إخفاقات داخلية وخارجية تلاحقه على المستويات كافة، وتناقضات متفاقمة تنذر بأخطار كيانية على السعودية، التي لطالما شكّل التفسّخ البيولوجي أحد أكبر هواجسها.
عامٌ مرّ على عبور محمد بن سلمان العتبة الأخيرة نحو العرش، إثر إطاحته غريمه اللدود محمد بن نايف. كل ما عدا ذلك وتلاه من عمليات إطاحة كان حتمياً، بعدما ضمن ابن سلمان التأهل إلى مباراة العرش النهائية. ضربات متسلسلة وممنهجة سدّدها الأمير الشاب ضد الخصوم المباشرين والكامنين عن طريق ركلات الأوامر الملكية القاضية التي غيّرت المشهد السياسي للمملكة ونقلتها إلى سكة تاريخية جديدة، بما يتطلّب قراءة بالغة الجدّة. إذ إن ثمة تمزّقاً واسعاً لشبكة علائقية في أنسجة الدولة والمجتمع، سواء على مستوى العائلة المالكة، أو المؤسستين السياسية والدينية، أو القوى الاجتماعية التقليدية، أو الأنماط الاقتصادية، أو الأنسقة الثقافية والأدبية... بكلمة واحدة: هي مملكة جديدة.
ما حصل في الفترة الواقعة ما بين 23 كانون الثاني/ يناير 2015 و4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، من عمليات إزاحة ممنهجة لبيوتات ملكية، أفضى ختاماً إلى تمركزٍ نُواتيٍ للسلطة؛ إذ بات ابن سلمان أوتوقراطياً فريداً في تاريخ الدولة السعودية، لا شبيه له سوى الملك عبد العزيز، مؤسس المملكة، على رغم أن الأخير كان يحكم دولة بدائية في تكوينها المؤسسي قياساً إلى المنظومة البيروقراطية المعقدة حالياً. إعادة تشكيل السلطة في عهد الملك سلمان آل إلى تقويض إرث عائلي وبيروقراطي موغل في القدم، لحساب آخر يعتصم بمبدأ تركيز السلطة في بيت سلمان. في النتائج، ألغت فرامانات الأخير السلطانية تقليداً راسخاً في تقاسم السلطة يقوم على مبدأ التراتبية داخل العائلة المالكة. لم تعد هناك أجنحة بخصائص متمايزة، بل معادلة حكم جديدة هي: سلمان والآخرون. لا تُحدث التغييرات التجميلية أدنى تغيير في المعادلة تلك، فالمناصب التي يمنحها سلمان في هيئة ترضيات لأبناء الخاسرين في معادلة العرش لا تندرج في سياق توزيع أو بالأحرى تقاسم السلطة، بل هي إعادة بناء شبكة تحالفات جديدة مصمّمة لترسيخ معادلة الحكم المستحدثة.
ثمة جدل يدور حول مفكّرة النوايا لدى ابن سلمان بعد اعتلائه العرش، لا سيما في ما يتعلق بمبدأ التوريث الذي قد يجعله امتيازاً حصرياً لأبنائه بدلاً من إخوته، خصوصاً أنه يتطلع إلى أن يحكم البلاد خمسين عاماً، بما يمنحه وقتاً كافياً لتشكيل السلطة على هواه. لا ريب أننا هنا أمام أحلام ساذجة، ولكن من حسن حظ المتضررين منها إفصاح أصحابها عنها، فابن سلمان يفترض التعامل مع تاريخ ساكن لا يحتمل ارتقاء وعي الرعايا، ولا تبدل أحوال البلاد والعباد، ولا حتى أحوال الحلفاء والأعداء. أمضى ابن سلمان، منذ إطاحة محمد بن نايف وحتى «حملة الريتز» في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، تسعة شهور - لم يغادر خلالها البلاد - في متابعة حملات الاعتقال الواسعة التي شملت الفئات الاجتماعية كافة. تحوّلت المملكة السعودية إلى سجن كبير، وقابل الانفتاحَ الاجتماعي الذي أثار صخباً في الإعلام قمعٌ شديد وغير مسبوق للحريات السياسية، حتى فاق عدد معتقلي الرأي في المملكة 20 ألفاً، في حملات متصاعدة تعيد إلى الأذهان سيرة الملك فيصل في ستينيات وسعبينيات القرن الماضي، حيث مُلئت السجون بدعاة الإصلاح، وأمضى بعضهم سنوات طويلة تجاوزت العشرين عاماً، فيما فارق آخرون الحياة تحت التعذيب.
في ملف العلاقات السعودية - الأميركية، ثمة وظيفية بطابع وجودي وكياني تظهر من خلال نوع الصفقات التي أبرمها ابن سلمان مع إدارة دونالد ترامب. لم تعد معادلة «النفط مقابل الحماية» هي عنوان التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن. مكوّن النفط ليس حاسماً بعد الآن، لا سيما عقب تصدّر الولايات المتحدة قائمة الدولة المنتجة للنفط على مستوى العالم مُتقدِّمةً على روسيا والسعودية. صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال تتصدر الدول الأكثر استهلاكاً لهذه السلعة الحيوية بمعدل 19.396 مليون برميل يومياً، ولكن مستقبل إنتاج النفط الصخري سوف يطيح ثوابت سوقية، ومن المرشح وصول الولايات المتحدة إلى الاكتفاء الذاتي من النفط في غضون سنوات قليلة. بالنتيجة، ما كان يمثل أساس التحالف الحيوي بين واشنطن والرياض لم يعد راسخاً بدرجة كافية، وهذا ما يفسر الهبّة الاستثمارية التي قادها ابن سلمان في جولته الخارجية في آذار/ مارس الماضي، في سياق إعادة الروح إلى نظام الحماية الأميركية للسعودية. ومن سوء حظ ابن سلمان أن يتوقف العمل بنظام الحماية القديم في ظل رئيس لم يمرّ نظير له في تاريخ الرئاسات الأميركية من حيث الفصاحة في الجشع والابتزاز. وإلى جانب جشع الإدارة الأميركية الحالية، والذي يحيل النظام السعودي رهينة - بالمعنى الحرفي للكلمة - بيد ترامب، يأتي تزايد التناقضات الداخلية على مستوى العائلة المالكة، وبين ابن سلمان والمؤسسة الدينية، والقوى الإصلاحية، والفئات الاجتماعية المتضررة من التدابير الضريبية والبطالة والاختناق المعيشي، والتناقضات الخارجية على مستوى الحروب (اليمن، سوريا)، والتوترات (إيران، قطر)، والخسائر السياسية (العراق، لبنان)، ناهيك عن العلاقات المأزومة مع بلدان عربية وإسلامية بفعل عبثية الفريق الدبلوماسي السعودي (تركي آل الشيخ، سعود القحطاني، ثامر السبهان).
المصدر: الاخبار