الشيخ محمد زراقط
يصرّح القرآن في أكثر من آية بأنّه كتابٌ عربيّ(1). وقد تساءل بعض الناس عن أسباب اختيار اللغة العربية لغةً للوحي النازل على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم. وطُرِحت أجوبةٌ عدّة في هذا المجال، منها أنّ اللغة العربيّة أقدم من سائر اللّغات المرشّحة كالعبريّة مثلاً، على حدّ قول بعض الباحثين؛ ومنها أنّ اللّغة العربيّة أغنى من سائر اللّغات من ناحية الجذور والموادّ التي تشتقّ منها الكلمات، ومنها ما فيها من الجمال وخاصّيّة الاشتقاق التي تسمح بتنويع المعاني من الكلمة الواحدة، ومنها وجود ظاهرة الترادف والاشتراك، وغير ذلك من الخصائص التي يذكرها علماء الألسنيّات للّغة العربية بالمقارنة بغيرها(2).
هذا، ولكن يمكن القول إنّ نزول القرآن باللّغة العربيّة هو أمرٌ وقع على مقتضى طبع الأمور، وذلك أنّ الله لم يختر نبيّه الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم من بين عدد من المرشّحين لهذه المهمّة؛ بل إنّه اصطفاه لهذه المهمّة التي لم يكن غيره لينجزها. وما دام المرشّح لهذه المهمّة واحداً بعينه ليس له من ينافسه، فقد كان من الطبيعيّ أن ينزل الوحي عليه بهذه اللغة، وَفق القاعدة التي أسّسها عزّ وجلّ في إرسال الأنبياء، وكشف عنها بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (إبراهيم: 4)، ولا مبرّر لاستثناء الرسالة الخاتمة من هذه القاعدة المنطقيّة المبرّرة. يُضاف إلى هذا أنّ عربيّة القرآن لم تكن عائقاً أمام انتشار الإسلام في أرجاء المعمورة، كما تؤكّد التجربة التاريخيّة لانتشار الإسلام، بعد أن توفّرت البيئة الحاضنة للدعوة، بخلاف العكس. وهذا ما يسمح بالحديث عن عالمية الرسالة الإسلاميّة على الرغم من عربية لغة القرآن.
* عربية القرآن وعالمية الدعوة
وعلى الرغم من عربية القرآن، فإنّ الناظر فيه يلاحظ مجموعة من الخصائص التي تحول دون صبغ هذا القرآن بصبغة قوميّة، وتحديده بحدود العرب وأهل اللّغة العربيّة. والمؤشّرات في هذا المجال كثيرةٌ نكتفي بذكر بعضها:
أ- عموم الدعوة لجميع الناس
من السمات البارزة في القرآن الكريم أنّه يتوجّه بخطابه إلى البشريّة كلّها، بعبارة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ التي وردت في القرآن عشرين مرّة على الأقلّ. وفي موارد أخرى حدّثنا تعالى عن الإنسان عموماً، وقدّم هدايته للإنسان بغضّ النظر عن لغته وعرقه وانتمائه المناطقيّ. وفي الموارد التي خصّ الله تعالى بها بعض الناس بالخطاب كالمؤمنين، نجده تعالى يعمّم الخطاب للمؤمنين بغضّ النظر عن انتماءاتهم الأخرى. كما أنّه تعالى يخاطب أهل الكتاب في عددٍ من الآيات، وأهل الكتاب هم المسيحيّون واليهود، الذين كانوا يعيشون في الجزيرة العربية أو على أطرافها، وكانوا بشكلٍ أو بآخر مختلفين عن البيئة العربيّة التي نزل فيها القرآن، ولكنّ هذا الاختلاف لم يكن حاجزاً دون توجيه الخطاب إليهم.
ب- تجنّب الإشارات القوميّة
من ينظر في القرآن الكريم يلاحظ أنّه يتجنّب الإشارة إلى قومية خاصّة وجِّهت إليها الدعوة الإسلاميّة أو اختصّت بها. ولم يرد ما يوحي بمثل هذا الاختصاص إلّا في عدد قليلٍ من الآيات التي لها ظروفها ويمكن أن تُفهم في سياقها الخاصّ بها بطريقة لا تتعارض مع عالميّة الدعوة الإسلامية. وأكتفي بالإشارة إلى آيتين ولعلّهما الوحيدتان في هذا المجال، وهاتان الآيتان هما قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214)، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف: 44). وهاتان الآيتان لا تتنافيان مع عالميّة الإسلام ولا تجعلان منه ديناً قوميّاً، فإنّ الآية الأولى منهما تؤرّخ لمرحلة من مسار الدعوة الإسلاميّة كان من الطبيعيّ أن يبدأ فيها بدعوة أقاربه في مجتمع قبليٍّ يقتضي مراعاة القرابة وصلة الدم، ويتّضح الأمر أكثر بعد أن نعرف أنّ هذه الآية نزلت بعد انتهاء مرحلة الدعوة السرّيّة التي آمن فيها عددٌ من الأشخاص من خارج دائرة القرابة مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. والآية الثانية كلّ ما فيها هو وصف القرآن بأنّه ذكرٌ للنبيّ وذكرٌ لقومه، وهذا لا يتنافى مع كونه ذكراً وتذكرةً لغيرهم من الأمم والشعوب. وأمّا في الموارد التي حدّثنا فيها عن العرب فنجده ذمّ بعضهم، وانتقد بعض عاداتهم، ولم يكن في أيّ سورة من سوره بصدد التأريخ لهم أو الحديث عنهم من ناحية هويّتهم القومية. ومن هنا يمكن القول إنّ القرآن يختلف من هذه الناحية عن العهد القديم الذي هو بشكلٍ أو بآخر تاريخ للشعب اليهوديّ.
الهوامش:
(1) من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (سورة يوسف: الآية 2)
(2) وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا البحث تخصّصيٌّ يحتاج إلى مزيد من النقاش ولكن ما نحن فيه لا يتوقّف على التفصيل في هذه النقطة.
المصدر: مجلة بقية الله