التراجع واضح جداً في موقف نتنياهو من إمكان النجاح في «إخراج» إيران من سوريا، ولافت جداً أنه يأتي من على طاولة جلسة الحكومة، بعد سلسلة تصريحات ومواقف قطعية، أن إسرائيل لن ترضى بأقل من إخراج إيران وإنهاء الوجود الإيراني في كل الجغرافيا السورية من دون أي استثناءات. ما الجديد في الموقف الإسرائيلي؟ وما الدافع إلى التراجع؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى إفهام إسرائيل حدود وسقوف ما لديها من قوة والقدرة على استخدامها؟
بعد الاعتداء الإسرائيلي على مطار «تي فور» الذي استهدف ضباطاً وعناصر من الحرس الثوري الإيراني، والذي كان يفترض بحسب الرهان الإسرائيلي أن يدفع إيران أمام خيارين: إما التكيف والانكفاء أمام المعادلة التي تفرضها إسرائيل من خلال هذا الاستهداف، وبالتالي ستكون أمام مزيد من الضربات التصاعدية والأكثر جرأة باستهداف الوجود الإيراني بهدف استئصاله؛ وإما رد يعطي مبرراً لإسرائيل بتنفيذ تهديداتها باستهداف كامل الوجود الإيراني في سوريا. وضمن الخيارين، تكون إسرائيل قد حققت هدفها المعلن.
ما حصل في جبهة الجولان، في «ليلة الصواريخ»، كشف عن معادلات مغايرة لما كانت تخطط له إسرائيل. وربما أهم من النتائج العسكرية، لتلك الليلة، كانت الرسائل التي وصلت إلى تل أبيب وكشف عنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، والتي أكدتها ضمنياً التقارير الإعلامية الكاشفة عن أن المجلس الوزاري المصغر، بمن فيهم ممثلو الجيش الإسرائيلي، بحث ورفض طروحات تدعو إلى استغلال الضربة لضربات واسعة في سوريا، خشية أن يتدخل حزب الله وتتدهور الأمور إلى مواجهة واسعة، لن تصبّ في مصالح إسرائيل.
فشل رهان تل أبيب على إمكان تراجع دمشق أمام الضغوط
من ناحية ثانية ومتصلة، جاءت حصيلة الاتفاق الفاشل حول «المصالحة» في الجنوب و«فيتو» الدولة السورية على مضمونه، الأمر الذي كشف لتل أبيب أن رهاناتها على إمكان تراجع دمشق أمام الضغوط، رهانات متطرفة وبعيدة عن تقدير صحيح لثبات الموقف السوري أمام الضغوط، حتى وإن جاءت من الحلفاء. وهي حقيقة تلزم إسرائيل بإعادة دراسة جدوى «خياراتها الدبلوماسية» والإفراط بالرهان عليها.
خلال جولته الأخيرة إلى أوروبا، أعلن نتنياهو أن الأولوية المباشرة لإسرائيل هي إخراج إيران من سوريا، لكن بعد أقل من 48 ساعة على موقفه هذا، أقر بأن إخراج إيران هو مسار طويل. وهو بذلك يقرّ بأن الطريق غير ممهدة أمام تل أبيب لتحقيق هذا الهدف الذي تحول من هدف قطعي إلى هدف مشكوك في القدرة على تحقيقه.
موقف نتنياهو المعلن ليس موقفاً عابراً، وينطوي على دلالات وإقرار بمحدودية القدرات الإسرائيلية الذاتية، وأن هناك خطوطاً حمراً لا تستطيع تل أبيب تجاوزها لتحقيق هذا الهدف. المسار الطويل يعني وجود عقبات ومعادلات مفروضة تحول دون أن يكون «المسار قصيراً»، مع أنه في إقراره هو، وكل المسؤولين في إسرائيل، يحتل أولوية في هذه المرحلة التي يمر بها الصراع مع العدو.
معنى ذلك، أن إسرائيل بذاتها وقدراتها لا يمكنها أن تحقق الهدف، لكنها ستواصل المسعى عبر واشنطن وموسكو لتحقيقه، وفي الوقت نفسه لا يعني ذلك أن الإسرائيلي سيكفّ عن توجيه الضربات ما استطاع إليها سبيلاً، لكنها ضربات ستبقى دون الخطوط الحمر التي رسمها محور المقاومة في سوريا.
ينبغي الالتفات إلى أن موقف نتنياهو جاء بعد أقل من 24 ساعة من تشديد السيد نصر الله على أن الحرب الكبرى مقبلة في النهاية، ويمكن أن تنشب لأي سبب، وهو بالتأكيد، مع التشديد على التأكيد، حضر بقوة لدى المؤسستين العسكرية والسياسية في إسرائيل، ودلالاته أن ما تسعون إلى تحقيقه دونه عقبات حقيقية مانعة، ويمكن أن يؤدي إلى تدحرج ومواجهة عسكرية واسعة.
النتائج السياسية لليلة الصواريخ كانت أكبر بكثير من نتائجها العسكرية، وتنطوي على دلالات غير مسبوقة منذ سبعينيات القرن الماضي. وواضح أن الإقرار الإسرائيلي بالعجز، المعبّر عنه بـ«المسار الطويل» في مواجهة الوجود الإيراني في سوريا، جاء بعد دراسات وتقدير وضع لدى المؤسسة العسكرية وتبعاً لها السياسية، حول الخيارات والقيود والنتائج والكلفة والأثمان والجدوى، وبالتالي هو حصيلة مسار من الرسائل وتحديداً تلك التي حصلت في ليلة الصواريخ، وانتهاءً بإعلان السيد نصر الله أول من أمس.
* يحيى دبوق .. الأخبار