الشيخ علي دعموش
لم تبرز على طول التاريخ شخصية مثل شخصية النبي محمد بن عبد الله (ص) الذي استطاع أن يغير التاريخ الإنساني وأن يحدث انقلاباً حقيقياً وجذرياً في المفاهيم والمبادئ والقيم والسلوك والأخلاق.. وأن ينقل هذه الأمة من البؤس والجهل والفقر والشقاء والعداوات وانعدام القيم إلى نور العلم والمعرفة والثقافة والاخاء والسلام والأمن والالتزام بالقيم والأخلاق الإنسانية.
وقد اعتبر أحد الكتاب الغربيين في كتاب ذكر فيه أهم وأعظم مئة شخصية عالمية في التاريخ وسماه (الخالدون المئة) اعتبر الرسول في المرتبة الأولى من عظماء التاريخ البشري، كما اعتبره أعظم شخصية في تاريخ العالم لما حققه من نجاح عظيم في إبلاغ رسالته وتأسيسه لدولة إسلامية كبيرة وحضارة عريقة بقيت مصدراً أساسياً لحضارات العالم تغذيهم وتمدهم بالعلم والمعرفة والعطاء لقرون عديدة.
يقول الدكتور مايكل هارث أستاذ الرياضيات والفلك والفيزياء في الجامعات الأمريكية وخبير هيئة الفضاء الأمريكية:
(لقد اخترت محمداً في أول هذه القائمة.. ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار ومعهم حق في ذلك، ولكن محمداً هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي، وهو دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، وبعد ثلاثة عشر قرناً من وفاته فإن أثر محمد لا يزال قوياً متجدداً).
إن عظمة رسول الله(ص) تظهر من خلال أفعاله وسلوكه وأخلاقه واسلوب تعامله الرحيم مع الآخرين، فمن سماته الأخلاقية البارزة في شخصيته وفي سيرته ومواقفه:
1ـ العفو عن الآخرين، والصفح عن المسيئين والمخطئين وحتى عن الأعداء مع القدرة على معاقبتهم، وقد أدبه الله على ذلك فقال تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).
2ـ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وليس بالتهديد والوعيد والقوة: (ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين). النمل/ 125.
3ـ القول الحسن الذي يقرب الناس الى الله والى الرسالة، ويعبر عن احترام الناس وتقديرهم، لا القول الذي يخدش كرامة الناس أو يسقط حرمتهم، قال تعالى: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن). الإسراء/ 53. وقال تعالى: (وقولوا للناس حُسناً). البقرة / 88.
4ـ اللين والتسامح والرأفة والرحمة والعطف والحنان والابتعاد عن القسوة والغلظة والشدة:
يقول تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك).
ويقول تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
5ـ الدفع بالتي هي أحسن، فهو(ص) كان يحسن إلى من يسيء إليه، وكان يحسن إلى من آذاه:
يقول تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). فصلت/ 34.
يروى أن رجلاً معادياً للنبي (ص) كان يرمي الأوساخ والقاذورات على باب داره يومياً وذات يوم مرض ذلك الرجل، فلم يجد النبي (ص) تلك القاذورات اليومية على بابه، فعلم النبي (ص) أنه مريض، فذهب إليه وزاره في مرضه فلما رأى ذلك الرجل هذا السلوك من النبي (ص) أسلم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقاً.
6ـ الصبر والثبات والصمود في مواجهة كل أشكال الأذى والضغوط والتحديات:
قال تعالى: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم). الأحقاف/ 35.
(واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين). يونس/ 109.
(واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون). النحل/ 127.
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). الكهف/ 28.
هذه جوانب من عظمة سلوك وأخلاق رسول الله (ص) التي أبهرت العالم والغربيين ودفعتهم للحديث عن عظمة محمد (ص) وسمو رسالته ودينه.
يقول الكاتب الروسي البير تولستوي:
(ومما لا ريب فيه أن النبي محمد كان من عظماء الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق وجعلها تجنح إلى السكينة والسلام، وتؤثرعيشه الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهذا عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أُوتي قوة، ورجل مثل هذا لجدير بالاحترام والتقدير).
ويقول الكاتب الكبير برناردشو:
(إني أكنُّ كل تقدير لدين محمد لحيويته العجيبة، فهو الدين الوحيد الذي يبدو لي أن له طاقة هائلة لملاءمة أوجه الحياة المتغيرة، وصالح لكل العصور، لقد درست حياة هذا الرجل العجيب وفي رأي أنه يجب أن يسمى منقذ البشرية).
اليوم أمام هذه الصورة المشرقة والناصعة التي قدمها النبي (ص) عن مشروعه وسلوكه وأخلاقه وتواضعه وتعامله الإنساني وإنجازاته الحضارية، أمام هذه الصورة التي كونها لدى العالم كله، لدى الشرق والغرب، يأتي الفكر الوهابي ليشوه هذه الصورة ويمارس نفس الدور الذي مارسه بنو أمية والخوارج في تشويه الإسلام وتحريفه وتقديم صورة سيئة عنه ، وفي بث الكراهية والبغضاء والتحريض على القتل والإرهاب.
الوهابية اليوم فكراً وحركة تمثل أعظم خطر على الإسلام والمسلمين والعالم الإسلامي بل والعالم كله لا تقل سوءاً عن الخطر الذي تمثله التيارات التكفيرية والجماعات التكفيرية الإرهابية.. ما تنشره من أفكار وسلوكيات تحض على الكراهية والحقد والبغضاء والعداوات والعنف والإرهاب وسهولة التكفير ضد كل من يخالفهم الرأي.
بل إن الوهابية هي مصدر الحركات التكفيرية في العالم.. وكل التيارات التكفيرية تستند إلى الفكر الوهابي وتستلهم من الوهابية، وهي تدرس كتبهم وتعلم مبادئهم وأفكارهم..
هذه الوهابية تقوم على نبذ الآخر وتكفيره، وهي باتت تهدد الأمن والسلم في كافة دول العالم، لما تبثه من أفكار إرهابية وإجرامية، أفكار تدفع الشباب المسلم إلى تكفير وترهيب المجتمعات والشعوب، وإلى التحاق الشباب المسلم بالتيارات التكفيرية التي تقتل وتذبح وتفجر وتعتدي في كل مكان..
لم يعان العالم من تنظيم أو مليشيا أو دعوة أو تيار أو حركة مثلما يعاني اليوم من الوهابية ومن الفكر الوهابي المقيت، سواء تمثلت بالقاعدة أو بالنصرة أو بداعش أو ببقية التنظيمات التكفيرية التي تدعي أنها إسلامية.
ولولا المال السعودي لما انتشرت الوهابية، مليارات الدولارات السعودية أنفقت من أجل بناء المساجد والمراكز الدعوية حول العالم لبث الكراهية والحقد، وللتحريض على رفض الآخر واستباحة دمه وعرضه وماله، ولإسكات كل الأصوات المخالفة ومنع انتشار القيم الصحيحة عن الإسلام، وإسكات كل صوت يفضح زيف الوهابية ويدعم المقاومة وفلسطين كما حصل مع قناة المنار وقبل ذلك مع قناة الميادين.
ووفق بعض التقديرات فإن السعودية أنفقت 87 مليار دولار خلال العقدين الماضيين لنشر الوهابية في العالم، ولولا النفاق الأمريكي والغربي ومسايرتهما للسعودية نتيجة مصالح مشتركة لأمكن مقاومة هذا الفكر ومنع انتشاره وانتشار خطره في العالم، ولكن أمريكا والسعودية ومعهما الغرب يستفيدون من هذا الشذوذ الفكري المنتسب كذباً وزوراً إلى الإسلام والمسمى بالوهابية، وذلك لإرهاب العالم تارة وابتزازه تارة أخرى.
اليوم العالم الغربي بدأ يستفيق على حجم الخطر الذي تشكله الوهابية ومؤسساتها ودعاتها ومساجدها المنتشرة في أوروبا وفي غير أوروبا، وهناك جدل كبير اليوم في أوروبا في فرنسا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا حول المساجد والمؤسسات الممولة من السعودية، وهناك إجراءات اتخذت في بعض الدول ضد هذه المؤسسات.
اليوم أوروبا تدفع ثمن سياساتها الخاطئة في المنطقة وسياساتها الداعمة للمملكة العربية السعودية راعية الوهابية والفكر التكفيري في العالم، وهي تصحو متأخرة لأن كل ما يحصل في المنطقة وفي أوروبا من هجمات إرهابية إنما كان بسبب دعمكم للجماعات التكفيرية الإرهابية، وبسبب غضكم النظر عن انتشار الوهابية في بلدانكم بأيدٍ سعودية وعبر موافقات قدمتها دولكم وحكوماتكم مقابل المصالح الاقتصادية والمالية المشتركة مع السعودية..
لذلك الأوروبيون يدفعون اليوم ثمن سياساتهم ونفاقهم، وسيدفعون الثمن بشكل أكبر في المستقبل إن هم بقيوا يمالؤون آل سعود، ويراعون خواطر السعودية، ويغضون النظر عن سياساتها وجرائمها بحق شعوب المنطقة، وخاصة بحق الشعبين السوري واليمني الذي ترتكب فيهما السعودية مجازر يومية في ظل صمت العالم وسكوته.
إذا أرادت أوروبا أن تواجه الإرهاب كما تقول فيجب أن تكون جادة وأن تعمل على تعديل سياساتها في المنطقة، وتمنع انتشار الوهابية، وتجفف منابع المال للجماعات المسلحة، وتوقف الدعم والتسليح والتدريب والرعاية للجماعات التكفيرية، هذا هو الطريق الوحيد للقضاء على هذه الجماعات واستئصالها.