في تقديرنا أنّ تَصاعُد الحَديث عن هذا الخِلاف مُبالغٌ فيه، وربّما تأتي تسريباتِه مُتعمَّدة، لعِدَّةِ أسبابٍ أبْرَزها أنّه من السَّابِق لأوانِه الحَديث عن هذهِ المَسألة، لأنٍ الحرب على الأراضي السُّوريّة ما زالت مُشتَعِلة، والظُّروف التي أدَّت إلى التَّواجُد العَسكريّ الإيرانيّ فيها ما زالت على حالها، ولم يَطرأ عليها أي تَغيير.
***
الإيرانيٍون ليست لديهم مُشكَلة لسَحب قُوَّاتِهم أو خُبرائِهم من الأراضي السُّوريّة لأنّهم لم يكونوا يتواجدون فيها من الأساس، ودُخولها وقُوّات “حزب الله” إليها لم يتم بإذنٍ "إسرائيليٍّ" أو روسيّ، وإنّما لحِمايَة حليفٍ استراتيجيٍّ كان يُواجِه خطر الهَزيمة وسقوط نظامه على أيدي جماعاتٍ مُسلَّحةٍ مَدعومةٍ أمريكيًّا وخليجيًّا نجحت في السَّيطرة على أكثر من 70 بالمئة من الأراضي السُّوريّة، وأقامت عليها إماراتٍ إسلاميّة مُتعَدِّدة الولاءات والانتماءات.
إذا عُدنا إلى قِصَّة الخِلافات الروسيّة الايرانيّة نَجِد لِزامًا علينا التَّذكير بأنّ هُناك شراكة استراتيجيّة بين الجانبين بدأت قبل الأزمة السوريّة بِسَنوات، وإذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أطلق الجَدل حول هذا الخِلاف بتَصريحاتٍ أدلى بها بعد لقائِه الأخير مع الرئيس بشار الأسد في سوتشي في 17 أيار (مايو) الماضي، فإنّه كان يَقصِد القُوّات الأمريكيّة، بمُطالَبته انسحاب جميع القُوٍات الأجنبيّة عن الأراضي السُّوريّة، ومن غَير المَنطقي أن يستثني القُوّات الإيرانيّة التي دخلتها بطَلبٍ من الحُكومة السوريّة مِثلها مِثل القُوّات الرُّوسيّة.
مُضافًا إلى ذلك أنّ الرئيس الروسي ربط بين هذا الانسحاب وانطلاق العَمليّة السياسيّة في سوريا، وهذه العمليّة لم تَنطلِق بعد، وحتى لو انطلقت، فإنّ أكثر من عشرين في المِئة من الأراضي السُّوريّة ما زالَت خارج سَيطَرة الجيش السوري.
يُخطِئ الكثيرون عندما ينظرون إلى ايران كخَصمٍ لروسيا في المِنطَقة، وربّما تَختلِف المصالح، وهذا أمْرٌ مَنطقيٌّ ومُتوقَّع بين الحُلفاء، ولكن لا تَصِل الأُمور إلى مَرحلة الصِّدام التي تُشَكِّل “أحلام يقظة”، أو تَمنيّات، بالنِّسبةِ للكثيرين الذين عَجِزوا عن تحقيق أهدافِهم في سوريا وخَسِروا المِليارات (أمريكا خسرت 70 مِليارًا باعتراف ترامب) في هذا الإطار.
***
الرئيس بوتين ما كان يُمكِن أن يُحَقِّق إنجازاته على الأراضي السُّوريّة بُدون التَّواجد الإيراني وأذرعه العَسكريّة الحَليفة، وعلى رأسِها قُوّات “حزب الله”، وعندما انتهت مُهِمَّة الحِزب، بادَر إلى سحب هذهِ القُوّات بقرارٍ ذاتيٍّ وليس استجابةً لضُغوط روسيا أو "إسرائيل"، وليس هُناك ما يَمنع عَودتها في أيِّ لحظة، وربّما بزَخَمٍ أكبر إذا كانت هُناك حاجةٌ طارِئةٌ لذلك.
الحَديث المُتزايِد عن سَحب قُوَّاتٍ إيرانيّة من الجَنوب السُّوري لتَجنُّب مُواجهةٍ مع "إسرائيل"، أو لنَزع الذَّرائِع التي تتذرَّع بِها، وتستخدمها ورقة ضَغط على الرُّوس، كون المنطقة الجنوبيّة مَشمولةً في اتفاقيّات تَخفيض حِدَّة التوتُّر الروسيّة الأمريكيّة لا يُعفِيها من تَقدُّم الجيش السوري لاستعادَتها، فمِنطَقة الغُوطة الشرقيّة كانت مَشمولةً بهذهِ الاتِّفاقيّات أيضًا، فمَن يُسيطِر على هذه الغُوطة حاليًّا، وما هُوَ مصير الفَصائِل التي كانت تُسيطِر عليها وأبرَزها “جيش الإسلام”؟
الروس بارِعون، بل دُهاة في اتِّباع سياسة المَراحِل، وإطلاق بالونات الاختبار والتَّسريبات، خاصَّةً على السَّاحِةِ السُّوريّة، وأبرَزها في رأيِنا خِلافاتهم مع إيران، والأشهر المُقبِلة ستُثبِت صِحَّة تَوقُّعاتِنا هَذهِ.. والرئيس بوتين أعْلَمْ.
بقلم:عبد الباري عطوان
المصدر: رأي اليوم