علي...من يكون علي يا ترى؟

الثلاثاء 5 يونيو 2018 - 15:01 بتوقيت مكة
علي...من يكون علي يا ترى؟

منذ فترة منذ قرون متطاولة، وعلي هذا الرجل المثال، حبة الخال في خد هذا الزمن الشاحب، وغير اللائق، مغموراً، مقهوراً.

الشيخ محمد قبيسي

خمسة وعشرون عاماً، كانت لعلي عليه السلام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، في غربة وقحط، مطموراً في سكون متوثب كرماد تحته جمر، أو قل كجمر يتوجع ويتضاءل تحت الرماد.
لست أدري لماذا وأنّى لمثل هذا العملاق المتمرد، الذي لم يغادر في حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الساحة قط، أن ينعزل؟!! كيف تكون لمثل هذا الرجل الفريد والعظيم في ولادته وحياته وشهادته، في حسبه ونسبه، المستجمع لكل سجايا الفضيلة، تلك لنهاية؟ فينتقل عائداً إلى بيته بعد كل هذه المسافة التي قطعها، علماً وجهاداً، وانتصارات.
غريب أن يصبح رجلاً كعلي عليه السلام في لحظة واحدة، بعد رحيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم عالماً مهجوراً، فعلاً، وإلى جانبه كتاب اللَّه، الذي هجر بهجرته أيضاً!!
واستدراكاً نقول: نعم السبب بسيط.
لقد كان علي عليه السلام حينذاك عالماً بين جهّال، ومن الطبيعي لمثله أن يضيع بين أمثالهم.

ولكن هذا بمفرده لا ينهي التساؤل، إذ لماذا يحصل كل هذا طوال تلك السنين، ألم تكن الساحة الإسلامية آنذاك قريبة من نبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما كانت تسمعه وهو يردد الكثير من كلمات الإطراء بحق علي عليه السلام، ألم تر؟ ألم تشعر بتلك المودة، وتلك المؤاخاة بينهما؟!. ألم تتساءل؟ كيف زوّجه ابنته التي هي سيدة نساء العالمين!! ألم يثر التفاتها الكثير من آيات القرآن الكريم بحقه؟!! وليس أقلها آيتا المودة والتطهير في أهل البيت
"وهو منهم".
إني أتعجب، كيف وتحت أي تأثير، خرجت كل تلك الإمارات الكثيرة، والحجج الواضحة في حقه، من ذاكرة الأمة؟؟
وإني أتصور لو أن الأمة استجابت له في تلك الفترة، لكان من الممكن جداً أن يكون الإسلام الواصل إلينا إسلاماً بلا مذاهب، مع قرآن حكيم، وقيادة حكيمة وروايات أقل ضياعاً وتشتتاً.
والآن لنطو عن هذا الجانب كشحاً..
لكن شيئاً ما، يعيدنا إلى التساؤل من جديد: ذلك هو التشيع في حركته المستمرة، إذ من المعلوم أن علياً صاحب جيلاً كاملاً من الخلصاء والأوفياء، من الذين قتلهم معاوية، واحداً بعد آخر، أمثال حجر بن عدي، محمد بن أبي بكر، مالك الأشتر، وأبي ذر الغفاري وغيرهم، كرهاً بعلي.
واستمرت راية التشيُّع بأمثال هؤلاء إلى يومنا هذا، وأمة التابعين مجتمعة على حب علي والأئمة من ولده عليهم السلام.

ومع هذا، فعلي المحبوب مجهول، لماذا؟

وأبادر إلى الجواب بالقول:
باعتقادي أن مثل علي عندما يُفقد كأسوةٍ فإن الأمة تقع في مأساة، لا سيما وهو يمثل راية الحق بالنسبة إليها، في بقاء واستمرار إسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصيلاً نقياً.
لذلك نحن في مأساة، إذ نحن اليوم، نعيش غربة عن علي، بالإضافة لتلك التي مع علي، مع أن شخصية علي عموماً معروفة، كانت ولا تزال شخصية العابد، الزاهد المتأوّه في ظلم الليل وبين النخيل، وبين القبور، أليس ما في نهج البلاغة، كافياً للتعرف، إلى المعروف والمجهول من علي؟ أليس موقفه من الدنيا جلياً في سخطه على الدنيا وعلى نفسه؟ ألم يقل قوله المشهور في رسالته إلى ابن حنين عامله على البصرة: "لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها".
وأريد هنا أن أذكر بعض الروايات التي تظهر هم علي وهم أصحابه، وأين يلتقون وكيف يتناجون، في صورة مثيرة في التلقين والتأسي:

روى المجلسي عن فلاح المسائل عن حبة العرفي قال: بينما أنا ونوف نائمان في رحبة القصر إذا نحن بأمير المؤمنين عليه السلام في بقية من الليل واضعاً يده على الحائط شبيه الواله وهو يقول: ﴿إن في خلق السموات والأرض﴾ إلى آخر الآية، قال: جعل يقرأ هذه الآيات ويمر شبه الطائر عقله، فقال لي: أراقد أنت يا حبة أم رامق؟ قال: قلت: رامق، هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟ قال: فأرخى عينيه فبكى ثم قال لي: يا حبة إن للَّه موقفاً ولنا بين يديه موقف لا يخفى عليه شيء من أعمالنا، إن اللَّه أقرب إليّ وإليك من حبل الوريد، يا حبة أنه لن يحجبني ولا إياك عن اللَّه شيء، قال: ثم قال: أراقد أنت يا نوف؟ قال: لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد، ولقد أطلت بكائي هذه الليلة، فقال: يا نوف، إن طال بكاؤك في هذه الليلة مخافة من اللَّه عز وجل قرّت عيناك غداً بين يدي اللَّه عز وجل، يا نوف، إنه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية اللَّه إلا أطفأت بحاراً من النيران، يا نوف إنه ليس من رجل أعظم منزلة عند اللَّه من رجل بكى من خشية اللَّه، وأحب في اللَّه وأبغض في اللَّه، يا نوف أنه من أحب في اللَّه لم يستأثر على محبته، ومن أبغض في اللَّه لم ينل مبغضيه خير، عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان، ثم وعظهما وذكّرهما وقال في أواخره: فكونا من اللَّه على حذر فقد أنذرتكما، ثم جعل يمر وهو يقول: "ليت شعري في غفلاتي أمعرض أنت عني أم ناظر إليّ؟ وليت شعري في طول منامي وقل شكري في نعمتك علي ما حالي؟" قال: فواللَّه ما زال في هذه الحالة حتى طلع الفجر.
إن مشكلتنا في حبنا لعلي هذا الحب الخاوي. إذ ماذا يعني لنا مثل هذا الحب إن لم يمثل شعاراً للولاية بين الإمام والمأموم؟ وفي الحقيقة فإن الحب والتأسي قرينان.
إن الأمة التي لا تتأسى بعلي فهي إذاً تجهله، وإن كانت تحبه، إن مشكلة من غالوا في بغض علي، ومن غالوا في حبه واحدة في أنهم لم يعرفوه، وفي الحقيقة فإن المعرفة والتأسي قريبان، بل هما واحد.
إن الشيعة في حب علي عليه السلام غالباً صنفان:
إن الحب والتأسي قرينان أما الحب الخاوي، الحب الذي لا يمثل شعاراً للولاية بين الإمام والمأموم فلا معنى له صنف محب مقدس لسماته، وليس بالضرورة ضالته.
وصنف آخر هي ضالته وليس بالضرورة يعرفها. فالبعض ينظر إليه من زاوية كونه عابداً، وآخر من جهة كونه عادلاً، وثالث ينظر إليه من جهة كونه حاكماً قائداً سياسياً ومجاهداً.
وسيبقى السؤال يسترجع نفسه، من يكون علي عليه السلام هذا الذي أغرى العدو والصديق للتعرف إليه؟
عليّ، من يكون عليّ يا ترى؟
أيكون غير ذاك الحاكم الفقير الذي باع سيفه، قائلاً لو ملكت غيره لما بعته، أوليس هو من بقي ذات يوم طوال الليل يسقي ليهودي بسنانه مقبل ثلاثة دراهم ليشتري بها قميصاً، من مثله من الحكام يكنس بيت المال ثم يصلي شكراً للَّه على أنه انفق مال اللَّه لمستحقيه، وهو القائل: ".. واللَّه ما كنزت من دنياكم تبراً، وما ادخرت من غنائمها وفراً، وما أعددت ليالي ثوبي طمراً".
أين مثل هذا الحاكم الذي يأتيه أخوه عقيل يطلب منه زيادة على حصته من بيت المال، وعقيل وما أدراك من عقيل إنه رجل فقير أعمى وأولاده غير شعث حفاة، فيذهب علي عليه السلام ثم يعود بحديدة محمّاة فيقربها بها من يد أخيه، فيئن عقيل، فيقول له: أتئن من حديدة أحماها لك إنسان للعبه ولا تئن من نار سجّرها جبار لغضبه.
إنه هو من دون مثيل

خمس وعشرون سنة لم يدنّ من العصبية ولم تثره الجاهلية، إنه من الإسلام مخالط اللحم والدم، بقي مع الأمة نصيحاً حين يلزم النصح، ويلم شعثها حين يدهمها الكره، صابراً على الشجى المقرح والقذى المترح، حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد.
خمسة وعشرون عاماً لم يطمع بإمرة ولا مال. كان همه كيف يبعد عن إسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم عظيم السوء، إلا وهو ربقة لجالية قدر الإمكان، ريثما تشمئز الأمة من الباطل، فتطلب الحق وإن بعد فساد حكم، وظلم محض.
خمسة وعشرون عاماً، وخمسة بعد..

ثلاثون عاماً عاشها بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان في آخر يوم منها كما في أول يوم منها فقيراً، لم يكسب من حطام الدنيا شيئاً.
إنه يوم كانت الصفراء والبيضاء بين يديه ما استهواه بناء ولا ثراء. ويوم الخندق ما رضي حين تقل بوجهه عمرو بن ود أن يقتله بحرارة الدم والقبيلة، حتى تراجع وتمهل ثم أقبل عليه وقله، فكانت ضربة للَّه.
وإنه يوماً علم أن ضيفاً عنده له خصيم، فأبى علي عليه السلام عليه البقاء أو يأتي بخصيمه معه.

روحي فداه في ملحمة حبه، يوم ودع الحياة فائزاً بالشهادة، بقي ثلاثة أيام ينزف، وما نزف من العدل والرحمة، وليس أروع من هذا الموقف في آخر لحظات حياته حيث قال للحسن والحسين عليه السلام: احبسوا هذا الأسير وأطعموه واسقوه وأحسنوا إساره، فإن عشت فأنا أولى بما صنع فيّ.. وإذا مت فذلك إليكم فإن بدا لكم أن تقتلوا فلا تمثلوا به.
إننا لكي نتعرف إلى علي عليه السلام علينا أن نكون معه في فكره، في حزام قلبه العاشق للَّه، في زهده، في جهاده وتأوهاته وصبر وفي حمل الأمانة، فنكون كما هو لا نقل على كظمة ظالم ولا سغب مظلوم، إذ هنا هذا مبرر علاقة علي عليه السلام بالدنيا، وإلا فهذا المرعي الوبيل أزهد عنده من عفطة عنزة.

أما حق المعرفة لعلي فذاك للَّه تبارك وتعالى وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم فحسب وكفى بذلك شأناً ومقاماً "وما عرفك يا علي إلا اللَّه وأنا".

المصدر: مجلة بقية الله

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 5 يونيو 2018 - 14:57 بتوقيت مكة