قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.
تصادف هذه الايام ذكرى شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)؛ هذا الاسم الذي ما إن نذكره، حتى ترتسم أمامنا كلّ الصّور التي تشير إلى عظمته والموقع الّذي بلغه عند الله وفي قلوب الناس. فقد ولد هذا الإمام في أوّل بيت وضع للناس في الكعبة المشرَّفة، ولم يحظَ بهذا الشرف أحد قبله، ولن يحظَى به أحد بعده.
أوَّل المسلمين
وقد نعم بتربية من أرسله الله رحمةً للعالمين، ومن قال عنه الله:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. فقد تكفَّله رسول الله(ص) منذ أن كان طفلاً، وربّاه على عينيه، فكان أوَّل من أسلم، وأوّل من صلّى بعد رسول الله ومعهما خديجة.
يقول عليّ(ع) عن ذلك: "وقد علمتم موضعي من رسول الله(ص)، بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة".. "ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به".. "ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري".. "ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرّسالة، وأشمُّ ريح النبوَّة".. ثم يقول: "اللّهمَّ إني أوّل من أناب وسمِعَ وأجابَ، لم يسبقني إلا رسول الله بالصّلاة".
وهو عندما دخل في الإسلام، لم يدخله بناءً على أنّ رسول الله(ص) تكفّله، بل لأنّه آمن به عن قناعة ويقين.. جاء إليه رسول الله وعرض عليه الإسلام، كما كان يعرضه على أيّ أحد، فآمن به. وعندما قيل له يومها: لم تستشر أباك في إيمانك بالإسلام؟! فقال: إنّ الله لم يستشر أبي عندما خلقني، فلا حاجة أن أستشيره حتى أعبد ربي.
وحمل عليّ(ع) همَّ هذا الدين مع رسول الله، وهو لم يتردّد في أيّ أمر يدعوه إليه رسول الله، فعندما نزلت الآية على رسول الله(ص) تدعوه إلى أن ينذر عشيرته:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، دعاهم لينذرهم، ولما انتهى، قال لهم يومها: "فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟"، فلم يقم إلا عليّ، وكان يعرف تبعات ذلك عليه، وكان الإسلام لا يزال في مهده يواجه التحدّيات.
ولم يتردّد عندما دعاه رسول الله(ص) إلى أن يبيت على فراشه، ليغطّي بذلك هجرته من مكّة إلى المدينة، لم يسأل شيئاً عن نفسه، واكتفى بالسؤال: "أوتسلم يا رسول الله؟"، وعندما قال له: "بلى"، قال: "إذاً اذهب راشداً مهديّاً".
بطل الحروب
ونزلت يومها الآية الكريمة الّتي تبيّن خيار عليّ(ع) في هذه الحياة:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ...}. لم يجد عليّ(ع) من يستحقّ أن يبيع نفسه له سوى الله خالقه وربّه.. وفي المدينة، كان عليّ(ع) في مقدَّم كلّ الحروب التي فرضت على المسلمين، وكان بطلها وفارسها. ففي بدر، قتل ثلث قتلى المشركين، وشارك المسلمين في الثّلثين الأخيرين.
وفي أُحد، كان الذابّ عن رسول الله، يوم تعرّض المسلمون لنكسة، وفرّ الكثيرون، حتى جاء النّداء من جبريل: "لا فتى إلا عليّ، ولا سيف إلا ذو الفقار".
وفي الأحزاب، يوم{زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}، لم يكن إلا عليّ(ع) ليقف في وجه أعتى فارس، وهو عمرو بن ودّ العامري، وقد قال يومها رسول الله(ص):"برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه"، وعندما صرعه عليّ(ع)، قال(ص): "ضـربـة عليّ يـوم الخندق تـعـادل عـبـادة الـثـّقـلـين".
وفي خيبر، كان الفتح على يديه، بعدما عجز عنه آخرون أرسلهم رسول الله، وقال حينها: "لأعطينَّ الراية غداً رجُلاً يحبّ الله ورسوله، ويُحبّه الله ورسوله، كرَّاراً غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه".
وفي فتح مكّة، كان حامل الراية التي بشرَّت بالنّصر، لكنّه ليس أيّ نصر؛ النصر الممزوج بالرحمة، فقد كان شعاره يومها شعار رسول الله(ص): "اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة".
علم عليّ(ع)
ولم يقتصر دور عليّ(ع) على القتال في الحروب التي لم تكن في نظره هدفاً وغايةً، بل كانت وسيلةً لإزاحة الباطل، فقد حمل علم رسول الله، كما قال(ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب".. وكما كان(ع) يقول: "علَّمني رسول الله(ص) ألف باب من العلم، في كلّ باب يفتح ألف باب". وكان البابَ إلى العدل والقرآن، كما قال عنه رسول الله(ص): "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ"، "عليّ مع الحقّ والقرآن، والحقّ والقرآن مع عليّ"، "عليّ مع العدل والعدل مع عليّ"... حتى وصل ليكون نفس رسول الله: "عليّ مني وأنا من عليّ".
الأمين على الحقّ
وقبل أن يغادر رسول الله(ص) الحياة، نزل جبريل إلى رسول الله(ص) ليبلّغ الأمانة إلى من بعده، ولم يكن هناك من هو قادر على حفظ هذه الأمانة وحملها غير عليّ(ع).
ولكن جاءت الأيّام، وتحوّلت الخلافة إلى غيره، فوقف ليدافع عن حقِّه، ولكنّه عندما رأى بوادر الفتنة الّتي كان يعدّ لها البعض بين المسلمين، قال: "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين"، وكان في قمّة الإيجابية لمصلحة الإسلام؛ يعين الذين أبعدوه عن حقّه ليبقى الإسلام على قوّته وعزّته. وحين تسلَّم الخلافة، واجهته الكثير من العقبات من الذين كانوا يريدونه أن يجاملهم على حساب العدالة والحقّ، لكنّ علياً الأمين على الإسلام والحامي له، لم يفعل ذلك.
ولذلك، عانى(ع)، وتحمّل كلّ الحروب التي شنَّت عليه؛ حرب الجمل وصفّين والنّهروان، وكان يكفيه أن يتنازل لحساب من ناوؤوه حتى تصفو له الأجواء، ولكنّه لم يفعل، فقد كان يريد أن يقدِّم تجربة صافية نقية عن هذا الدّين عندما يحكم، ولذلك قال للّذين طالبوه بأن يمنح المال أو المنصب لهذا أو ذاك حتى يحفظ حكمه: "أتأمروني أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولِّيت عليه؟".
كان عليّ(ع) يعرف كيف تؤكل الكتف، وكيف يكسب القلوب، ولكنه قالها: "قد يرى الحوَّل القلَّب وجه الحيلة، ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين..."، وكان يقول: "ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي!"، وكان يقول: "ما ترك لي الحقّ من صاحب". ما كان عليّ(ع) يريد أن يكتسب أحبّاء أو أصدقاء له على حساب الحقّ، فلأجل الحقّ، كان مستعدّاً لأن يتحمّل العداوات والضّغائن وردود الفعل.
لقد آلَ عليّ(ع) على نفسه أن يبقى مع الحقّ حتى مع قاتله ابن ملجم، حين قال: "أطعموا هذا الأسير من طعامي، واسقوه من شرابي، وأحسنوا إليه"، ثم قال لبني عبد المطَّلب: "لاَ ألْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي.. انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَة".
كيف نخلص لعليّ؟!
لكن يبقى السؤال: هل نكتفي في هذه المناسبة بأن نتحدّث عنه، أن نمجّده، أو نعظّمه؟! هو يستحقّ منا كلّ ذلك. نعم، يستحقّ ذلك وأكثر، يكفي من ذلك ما قاله عنه الشّافعي عندما سئل عن رأيه في عليّ:"ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حقداً وحسداً، وأولياؤه خوفاً، فظهر من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين".
ولكن لن يكتفي منّا عليّ(ع) بذلك، هو يريدنا أن نقترب من أفكاره ومواقفه وسلوكه.
نحن نستطيع ذلك عندما نعي سرّ عليّ(ع)؛ إنَّ سرّ عليّ(ع) هو هذا الحبّ الدفّاق لله. لقد أحبّ عليّ(ع) الله حبّاً لا يدانيه حبّ، حتّى بلغ حبّه له الحدّ الّذي قال فيه: "إلهي، ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنَّتك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".
وقد أشار إلى هذه العلاقة بالله عدي بن حاتم، عندما سأله معاوية: "صف لي عليّاً". حاول عدي أن يتنصَّل، لخوفه من بطش معاوية وتجبّره، ولكنه عند إصراره قال: "لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه، وأرخى اللّيل سرباله، وغارت نجومه، ودموعه تتحادر على لحيته، وهو يتململ تململ السّليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأنّي الآن أسمعه وهو يقول: "يا دنيا! إليَّ تعرَّضت؟ أم إليَّ أقبلت؟ غرِّي غيري، لا حان حينك، قد طلَّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعيشك حقير، وخطرك يسير. آه من قلّة الزاد، وبعد السّفر، وقلّة الأنيس!".
لذا كان عليّ إذا حضر وقت الصّلاة، يتلوّن ويتزلزل، وعندما يقال له: ما بك؟ يقول: "جاء وقت الصّلاة، وقت أمانة عرضها الله على السّموات والأرض، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها".
ويشير عروة بن الزبير، قال: "شهدت عليّاً وقد اعتزل في مكانٍ بعيدٍ عن الناس، فإذا أنا بصوت حزين ونغم شجيّ وهو يقول: "إلهي، كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك! إلهي، إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصّحف ذنبي، فما أنا مؤمّل غير غفرانك، ولا أنا براجٍ غير رضوانك".
وكان يقول: "طوبى لنفسٍ أدَّت إلى ربّها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في اللّيل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها، افترشت أرضها، وتوسَّدت كفّها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم جنوبهم".
وقد افتُقِد في ليلةٍ من ليالي معركة صفّين فوجدوه يصلّي، لأنّه لم يكن يحبّ أن يأتي وقت الصَّلاة ولا يصلّي. ولا يقف الأمر عند الواجب فقط، بل يتعدّاه إلى المستحبّ، فهو لم يترك صلاة اللّيل منذ أن نزل الأمر بها على رسول الله.
إنّ حبّنا لعليّ ينبغي أن يصل بنا إلى حبّ الله قولاً وعملاً، وإلى حبّ رسوله ورسالته، وبذلك نخلص لعليّ.. حبّ عليّ(ع) عبادة، حبّ عليّ جنّة من النار، حبّ علي هو أمان من النفاق وأمان من النّار وباب إلى دخول الجنة... ولكن علينا أن ننتبه كي لا يكون حبّنا له حبّ المغالين، ولا حبّ البطّالين والسّاكتين عن الحقّ وعن الظلم ولا العاملين به.
"ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمها بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهادٍ، وعفّة وسدادٍ".. وبذلك نخلص لله.
في ذكرى استشهاد عليّ، نستذكر ألم الجحود الّذي عاشه في حياته من أولئك الّذين وقفوا في وجهه من القاسطين والنّاكثين والمارقين، حتى أضحى بعد رسول الله وحيد الحقّ، حتى قال: "ما ترك لي الحقّ من صديق"..
اليوم نستذكر عليّاً بإيمانه، بيقينه، بإنسانيّته، بحواريّته، بصلابة جهاده، وبصبره وثباته على المحجّة البيضاء حتى الشّهادة، حتى يكون عنواناً لواقعنا.
رَحِمَكَ اللهُ يا أَبَا الْحَسَنِ، كُنْتَ أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلاماً، وَأَخْلَصَهُمْ إِيْماناً، وَأَشدَّهُم يَقِيناً، وَأَخْوَفَهُمْ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَعْظَمَهُمْ عَناءً، وَأَحْوَطَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ(ص)، وَآمَنَهُمْ عَلَى أَصْحابِهِ، وَأَفْضَلَهُمْ مَناقِبَ، وَأَكْرَمَهُمْ سَوابِقَ. فَجَزاكَ اللهُ عَنِ الإِسْلامِ وَعَنْ رسوله(ص) خيراً. فَوَاللهِ لَنْ يُصابَ الْمُسْلِمُونَ بِمِثْلِكَ أَبَداً.. فَأَلْحَقَكَ اللهُ بِنَبِيّهِ.. وإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ...
نسأل الله دوماً أن نكون من الذين نهتدي بسيرتك، ونحظى بشرف لقائك ونيل شفاعتك يوم الشّفاعة الكبرى..
يا سماءُ اشهَدِي و يَا ارضُ قَرِّي واخشَعِي إنّني ذَكَرتُ عَليّا
المصدر:موقع بينات بتصرف