الشيخ جعفر الهادي
معنى "القدر"
القَدْر والقَدَر والتقدير والمقدَّر والمقدار ألفاظٌ وصِيَغٌ من مادّة لُغَويّة واحدة تتضمّن الإشارة إلى الحجم والكميّة. وبهذه المعاني قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ (الحجر: 21). وقوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ..﴾(الرعد: 17). وقوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِين﴾ (الواقعة: 60). من هنا يُكون معنى ليلة القدر هو الليلة التي يُقدَّر فيها للإنسان أمورٌ تتصل بحياته وحاجاته، وبحاضره ومستقبله، كالرّزق والعمر والأولاد، والتقدّم وغيرها.
الحكمة من ليلة القدر
الحكمة من ليلة القدر هي على حدّ علمنا أنّ اللَّه تعالى أراد أن يترك للإنسان فرصةً لمراجعة حساباته، وإصلاح مستقبله على ضوء ماضيه، ورسم خريطة حياته ومصيره بإرادته، وهي كما نرى حكمةٌ عُليا، وعنايةٌ كبرى من اللَّه عزَّ وجلَّ بالإنسان. وأهمّ معاني هذه المسألة هي بطلانُ مقولة الجبر التي معناها أن مصير الإنسان يرسم من قبل اللَّه، دون أن يكون له خيارٌ فيه مطلقاً. عن الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام قال: "يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل، من خيرٍ أو شر، أو طاعة أو معصية، أو مولودٍ أو أجلٍ أو رزقٍ فما قُدِّر في تلك الليلة فهو من المحتوم وللَّه فيه المشيئةُ" أي للَّه تعالى مع ذلك أن يغيّر بعض التقديرات.
خصوصيات ليلة القدر
الأحاديث النبويّة عن أهل البيت صلوات اللَّه عليهم أجمعين، تتناول هذه الليلة من جهات مختلفة. ومن الأحاديث في بيان منزلتها وخصوصياتها: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ عدَّة الشهور عند اللَّه إثنا عشر شهراً في كتاب اللَّه يوم خلق السماوات والأرض فغرة الشهور شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر". وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أيضاً أنه قال:"إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها، ولا يستطيع فيها (أيّ الشيطان) على أحدٍ بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر".
معرفة ليلة القدر على وجه التحديد ومواصفاتها
أولاً: إن ليلة القدر معروفةٌ ومعلومة عند أهلها ومن أُوتي علمها، وهم الأئمة المعصومون عليهم السلام المنصوص عليهم من قبل النبي صلى الله عليه وآله، حسب رواياتٍ صحيحة ومتواترةٍ ومن الأحاديث الصادعة بهذه الحقيقة:
قيل لأبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام: تعرفون ليلة القدر؟ فقال: "وكيف لا نعرف، والملائكة تطوف بنا بها (أي فيها)". وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه قال لأصحابه: "آمنوا بليلة القدر، إنها تكون لعليّ بن أبي طالب عليه السلام وولده الأحد عشر من بعدي".
كيف نعرف نحن ليلة القدر؟ وما هي علائمها؟
وردت نصوصٌ تذكر بعض العلائم لليلة القدر نذكر منها:
قال الإمام الباقر عليه السلام: "علامة ليلة القدر أن تهبَّ ريحٌ فإن كانت في بردٍ دفئت، وإن كانت في حرٍ بردت". وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه قال: "ومن أماراتها أنها ليلة بلجةٌ صافيةٌ ساكنةٌ ساجيةٌ لا حارة ولا باردة كأن فيها قمراً ساطعاً ولا يحل لنجم أن يُرمى به تلك الليلة حتى الصبّاح. ومن أماراتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها مسبوتة كأنّها القمر ليلة البدر".
وأما مواصفات هذه الليلة فيُستفاد من مجموعة الآيات والروايات التي سلطت الضوء على هذه الليلة أنها:
1-سلام: كتب العلامة الطباطبائي: السلام والسلامة هي التعرِّي من الآفات الظاهرة والباطنة، فيكون قوله تعالى: "سلامٌ هي" إشارة إلى العناية الإلهيّة بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه، وسدّ باب نقمةٍ جديدة تختص بالليلة (هذه).
2- أمن للمؤمنين من الشياطين فهي ممنوعةٌ عنهم.
3-ثواب الأعمال مضاعفٌ أكثر من ألفٍ من الشهور.
4-حسب بعض الروايات والأقوال تنزل الملائكة وتسلّم على المتعبّدين وتبارك أعمالهم، إلاّ مدمن الخمر، وآكل لحم الخنزير، والمتَضمِّخ بالزعفران (أي المتعطِّر به).
5- وأعظم مواصفاتها أنها ليلة نزل فيها القرآن الكريم، وتعطّرت أجواءها بعطر الكلام الإلهي.
إخفاء ليلة القدر
الواقع أن ليلة القدر هي ليلة واحدة، فقد قيل ليلة القدر ولم يقل ليالي القدر. وهنا يطرح سؤالان هما:
1-لماذا خفيت ليلة القدر أو أخفيت عنا مع أنها كما أسلفنا غير مخفية عن النبي وأهل بيته صلوات اللَّه عليهم أجمعين؟
2-لماذا نحيي ثلاث ليالٍ باسم ليلة القدر إذا كانت هي في الواقع ليلة واحدة؟
أئمة أهل البيت عليهم السلام في عصرهم وقد أجابوا عن ذلك. ونحن نرجِّح أن نسمع الجواب منهم. عن ابن عرادة قال: قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: أخبرنا عن ليلة القدر؟ فقال: "ما أخلو من أن أكون أعلمها، ولست أشك أن اللَّه إنما يسترها عنكم نظراً لكم، لأنكم لو أعلمكموها عملتم فيها وتركتم غيرها وأرجو أن لا تخطئكم إن شاء اللَّه". يبيّن الإمام فلسفة عدم التعريف بليلة القدر وهي أن اللَّه يريد أن لا نكتفي بليلة واحدة من التضرّع إلى اللَّه ودعائه وعبادته ومناجاته، لتحصل النتيجة المرجوة، ويحاول زرع الأمل في النفوس حتى لا يبتلى الناس بالإحباط لأنّهم قد لا يصادفون ليلة القدر. وقد ذكر العلامة الطباطبائي رحمه اللَّه وجهاً آخر لعلة الترديد في ليلة القدر إذ قال: وإنما لم تعين (ولم تحدد ليلة القدر)تعظيماً لأمرها وأن لا يستهان فيها بارتكاب المعاصي.
سبب أنها خيرٌ من ألف شهر
إن ليلة القدر ليلةٌ اختارها اللَّه تعالى لأعظم عملية إفاضية ربانية وعناية رحمانية وهي إنزال أعظم كتبه وهو القرآن الكريم على أعظم أنبيائه وخاتمهم وآخرهم وهو المصطفى محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وآله فكانت هذه الليلة ليلةً مباركةً قال تعالى: ﴿إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ﴾. ولمَّا كانت ليلة القدر ليلةً مباركة فقد اختارها اللَّه أيضاً لتكون ليلة التقدير، معطياً للإنسان فرصة المشاركة في هذه التقديرات بإحيائها بالدعاء والمناجاة وذلك تكريساً لحرية الإنسان، وتكريماً لمنزلته. وقد حدثت في هذه الليلة العظيمة حوادث كبرى أضافت إلى عظمتها وأهميتها المزيد. قال الإمام الحسن عليه السلام في خطبة خطبها بعد وفاة أبيه عليه السلام: "أيّها الناس في هذه الليلة نزل القرآن وفي هذه الليلة رفع عيسى بن مريم وفي هذه الليلة قتل يوشع بن نون وفي هذه الليلة مات أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام".
المقصود من نزول الملائكة، وعلى من تتنزل؟
تنزُّل الروح والملائكة وهي موجودات عاقلة وشاعرة ومأمورة من قبل اللَّه ، كل "ليلة قدر" حقيقة صرّح بها القرآن الكريم في سورة القدر.
ما هو الهدف من نزول الروح وهو أعظم ملك، مع جمع عظيم من الملائكة تضيق بهم أماكن الأرض كما في الأحاديث؟
القرآن في سورة القدر يصرّح بأنّ الملائكة تتنزّل من أجل إبلاغ ما قدَّره اللَّه تعالى وأذِن بوقوعه من المقدَّرات الشاملة لكل مناحي الحياة للسنة القابلة ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر: 4)قد صرحت الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام بأن هذا التقرير الشامل عن المقدرات يرفع في حياة النبي صلى الله عليه وآله إليه. وإلى الأوصياء الأئمة عليهم السلام من بعده كما مرّ في بعض الأحاديث وعلى حجة اللَّه في كل زمان.
إرتباط ليلة القدر بأهل البيت عليهم السلام
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها" قال: صدق اللَّه، وبلغت رسله. وكتابه في السماء علمه بها، وكتابه في الأرض إعلامنا في ليلة القدر وفي غيرها "إن ذلك على اللَّه يسير".
وعن ابن نباتة عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: "قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: يا علي أتدري ما معنى ليلة القدر"؟ فقلت: "لا يا رسول اللَّه"؟ فقال: "إن اللَّه تبارك وتعالى قدر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة فكان فيما قدَّر عزَّ وجلَّ ولايتك وولاية الأئمة من ولدك، إلى يوم القيامة". وفي حديث شريف عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام "من عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر". وبهذا يتجلى الارتباط بين ليلة القدر وبين أهل البيت عليهم السلام.
إحياء النبي صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام لليلة القدر
هناك ثلاث نقاط يجدر ذكرها:
أولاً: أنّنا سنبدأ بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: عن علي عليه السلام أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كان يطوي فراشه، ويشدّ مئزره في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وكان يرشّ وجوه النّيام بالماء في تلك الليلة.
وأمّا ثانياً: ما كان يفعله أهل البيت عليهم السلام: وكانت فاطمة عليها السلام لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة وتداويهم بقلّة الطعام وتتأهّب لها من النهار وتقول: محرومٌ من حرم خيرها.
1- كان أبو جعفر الباقر عليه السلام إذا كان ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين أخذ في الدّعاء حتى يزول الليل فإذا زال الليل صلّى.
2-كان أبو عبد اللَّه الصادق عليه السلام مريضاً مدنفاً فأمر فأُخرج إلى مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فكان فيه حتى أصبح ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان.
وأما ثالثاً: فإنّنا نرى أن أهل البيت عليهم السلام يؤكّدون في أحاديث كثيرة على الاهتمام بليلة القدر والإكثار من قراءة القرآن الكريم وقراءة سورة الدخان والعنكبوت والروم على وجه الخصوص، والدعاء، والتضرّع والاغتسال فيها وإحيائها إلى الفجر. وهم كانوا السبّاقين إلى ما يأمرون به ويؤكّدون عليه.
المصدر: مجلة بقية الله