السيد حسن النمر الموسوي
في خضم هذه المواجهة الشرسة بين المقاومة الإسلامية و«إسرائيل» أرى ثلاثة فرقاء، ولعلها النماذج السائدة في كل مواجهة عبر تاريخ البشرية منذ الأزل.
الفريق الأول: التقاة، وهم الشعب اللبناني «المقاومة الإسلامية» والشعب الفلسطيني، ولست بصدد الدخول في تفاصيل المواجهة، أين بدأت ومتى؟ ومن قبل من؟ فرأي البصير والشريف فيها واضح، بدأت في اليوم الذي مهد فيه الصهاينة بمعونة البريطانيين لاحتلال فلسطين، نحو تحقيق غرضين أساسيين، الأول: تأمين «وطن» لليهود يقوم على الأيديولوجية الصهيونية، للتخلص من عبء اليهود ومشكلاتهم، وللفكاك من تأنيب الضمير الذي آلم الأوروبيين تجاه المشكلة اليهودية، وتصديراً للمشكلة نحو الوطن الإسلامي. أما الغرض الثاني: فهو تفتيت الوطن الإسلامي والعربي خصوصاً، وتمزيق الوحدة الإسلامية والعربية، والحيلولة دون إمكان قيام مشروع الوحدة نحو استرداد الحقوق السليبة والنهوض بالأمة والتنمية الشاملة فيها.
وكان قدر أرض الشام المباركة أن تكون مكان هذا الصراع الذي أريد له أن يكون شرساً في مختلف مراحله. وشاءت الأقدار أن تجرب شعوب المنطقة أشكالاً من الأيديولوجيات لإدارة الصراع لتتقوض جميعها من دون فائدة، لتحط رحال تفكيرها بعد الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني «قدس سره» إلى «الإيديولوجية الإسلامية» التي حرص الأعداء على إبعادها، كما حرص البسطاء على استبعادها بقصد أو بغير قصد.
وتجلت هذه الإيديولوجية في حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، وهي الحركات المقاومة التي أبدت من ضروب الشجاعة والنبل ما شهد به الأعداء. الأمر الذي أقضا مضاجع كثيرين ممن قامت عروشهم وبنيت مصالحهم على التفريط بالقضية المركزية «القضية الفلسطينية».
كان لهذه الحركات المقاومة قراءتها للمشكلة وعلاجها المختلف عما هو كان سائداً لدى الأوساط الرسمية والشبه رسمية، بل وبعض الأوساط الشعبية التي أذعنت واستسلمت لوقائع فرضت بقوة السلاح وقرارات ما يسمى بـ «الشرعية الدولية»، والتي صنعت لحفظ مصالح المنتصرين ورواج لها على أساس أنها تحافظ على مصالح الأمم سواء بسواء.
فكان من المصلحة في دوام الصراع بين المشروعين كشف هذا الزيف وفضح الأكذوبة الكبرى، لتنجلي الغبرة عن أن القرارات الدولية ليست ملزمة للأقوياء الذين يتمكنون من تعطيل صدور القرارات عبر ما يعرف بـ «الفيتو»، وبالالتفاف عليها، ولمصلحة «إسرائيل» طبعاً.
نعم، القرارات ملزمة للضعفاء، الذين أراد الأقوياء لهم أن يبقوا ضعفاء، فالقرارات الدولية تنتظر أي دولة تخرج وتتمرد على هذه الغطرسة، لتوسم بالدولة الـ «مارقة» على «الشرعية الدولية»، وستكون من «محور الشر»، كإيران، وسورية، وكوريا، وفنزويلا على الطريق.
أي فصيل مقاوم لهذه الهيمنة هو «إرهابي» يجب محاربته وتطويقه ومحاصرته، وإن صار حزباً سياسياً له نوابه في المجلس النيابي بطريقة ديمقراطية (حزب الله في لبنان) أو صار «حكومة منتخبة» من قبل الشعب برقابة دولية(حركة حماس) أو بقي خارج منظومة العملية الديمقراطية، كحركة الجهاد الإسلامي.
الاستراتيجية والتكتيك:
هذه القراءة فرضت على فريق التقاة عدة التزامات، أولاً: أن يتوجسوا الخيفة، وبشكل مشروع، من أي أطروحة أو مشروع يراد تسويقه من قبل الأقوياء، لإدراكهم أن الأقوياء (الإدارة الأميركية خصوصاً ) ليسوا قوة «صالحة»، ولا «إصلاحية»، بقدر ما يمثلون تجسيداً للهيمنة والسيطرة الاستكبارية.
وثانياً: أن يتحلوا بالقوة اللازمة في حدود المعقول والمستطاع درءاً لأي محاولة تجديد أو تطوير للعدوان، واسترداداً للحقوق المسلوبة، والتي لا يبدو في الأفق بصيص أمل باسترجاعها.
وثالثاً: أن يتحلوا بالواقعية التي تفرض أن يدار الصراع بالطريقة التي لا ينفرد فيها فريق بالقرار، إلا أن يختار الآخرون التفريط بالحقوق في أصلها أو تفاصيلها.
ورابعاً: أن يتحلوا بالسمو الأخلاقي في إدارة الصراع، فمهما وقع العدو في ممارساته الهمجية بقتل الأطفال الرضع والنساء والشيوخ، فإن المقاومة الإسلامية الحقيقية لا يمكن أن تختار وسائل غير أخلاقية في صراعها.
لذلك حظيت هذه المقاومة باحترام العالم الحر والشريف، عدا قوى الشر وأذنابه الذي سعوا بكل ما يملكون إلى تشويه سمعة المجاهدين عبر قلب الحقائق، أو عبر استغلال أطراف صنفوا أنفسهم «مجاهدين» إلا أنهم صنائع الغرب أو مستَغلون «بالفتح» من قبل الغرب، والقاعدة نموذج ذلك بلا شك.
وأخيراً: أن يتحلوا بالصلابة الإيمانية التي تتحطم على صمودها أمواج العدوان. وما حصل في عملية الوعد الصادق التي لا نزال نعيش تداعياتها أثبت صواب منطق المقاومة وأنه الخيار الأفضل لتحقيق المشروع الإسلامي والعربي الكبير «الاستقلال والتنمية».
فقد جسدت المقاومة الإسلامية في لبنان قول الله تعالى: ﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله ﴾ «البقرة:249». لإيمانها بمبدأ ﴿ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ﴾ «آل عمران: 126» وتسليمها المطلق بأن الله صادق في وعده ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم ﴾ «محمد:7».
إنجازات ومعطيات المقاومة:
أعادت المقاومة للأمة شعورها بالعزة والكرامة التي سحقت عبر الإدارة السيئة للصراع ممن سبق ورفع شعارها وتبناها. ووحدت الأمة على القضية الرئيسية والمركزية، وحققت نموذجاً مقاوماً تمثل في بلد صغير ( لبنان في جغرافيته)، كبير جدا في إنسانيته ومسئوليته، ما يعني أن الشعب المصري أولى في أن يعيد حقوقه، وكذلك الأردن وفلسطين.
كما كشفت المقاومة أقنعة مزيفة طالما حاول أصحابها ستر وجوههم القبيحة تحتها، فإذا بها أشد قبحاً مما كانت تسعى إلى تسويقه وترويجه، فمهما بذلت من إغراءات، فإنه يعود للدين نصاعته، وللمواقف الأصيلة وقعها، وللرجال الصلحاء منازلهم. وبينت المقاومة هشاشة النظام العربي الحاكم وعجزه عن إعادة الحقوق المسلوبة، ما سيحرك الأوساط الشعبية تجاه المطالبة بحقوقها مباشرة من خلال تشكيل مؤسسات المجتمع المدني، لأن حكامه وحكوماته «عاجزة»، أما الشعوب فهي «قادرة». وأخشى أن يتصور بعضهم أن الحل يكمن في القبضة الأمنية، والتي تعمق الهوة بين الحاكم والمحكوم، الأمر الذي قد تكون له عواقب كارثية غير محمودة النتائج ولا يتوقع إلى أين سيؤول الحال بالحاكم والمحكوم معاً. ووجهت المقاومة رسالة للداخل الصهيوني أن عليه أن يكتشف عوراته التي سعى أفاقوه إلى سترها بالدجل والتزييف، الجيش الذي لا يقهر.
فقد قُهر أمام ثلة من الشباب الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبوسائل متواضعة جداً، لا تساوي عشر ما يملكه أصغر جيش عربي رسمي مما أنفق قادته عليه من المليارات.لذلك أقول: بورك «حزب الله» وبوركت «المقاومة الإسلامية»، وحفظ الله ونصر بعزته هؤلاء التقاة فهم سادة الأمة وقادتها، وقبلة حارة على جباههم بل على أرجلهم، ابتداءً بقائدهم المسدد سماحة السيد حسن نصر الله، مروراً بإخوانه قادة المقاومة، وانتهاء بالأبطال المرابطين على الثغور.
وانحناءة إجلال وإكبار إلى شعب لبنان الأبي خصوصاً أبناء الجنوب، الذين حطم صمودهم كبرياء الصهاينة ومرغ أنوفهم فأعادهم من حيث أتوا صاغرين. والدعاء الحار للشهداء بالدرجات العالية وللجرحى بالشفاء العاجل.
الفريق الثاني :الجناة
وفيهم «الصهاينة» وهنا أقول لقد نال الصهاينة ما يستحقون، تكشف زيفهم حين صدقوا الأكذوبة التي روجوها، وإذا بهم يعجزون عن التوغل كيلومترات قليلة داخل التراب اللبناني لما واجههم رجال الله، فاستعاضوا عن ذلك بصنوف الجرائم البشعة التي تدربوا عليها جيداً. وقد أوقعهم فيها صلفهم وكبرياؤهم واستكبارهم، فلما أن واجههم مقاومون ملئت عقولهم بالحكمة، وقلوبهم بالإيمان، وجوانحهم بالعبودية لله، إذا بهم، يبدون الجبن والحرص على الحياة.
كشف الصهاينة عن استعدادهم لارتكاب أشد الجرائم وحشية عن سبق إصرار وتعمد، قانا الثانية نموذجاً. بما يتأكد معه ضرورة أن تكون الأمة على أتم الاستعداد لردع هذا الوحش الكاسر بسواعد أبنائها، من دون أن ينتظروا شرعية دولية لأنها تنام وتموت حينما تضرب، وتهيج وتستعر حينما تتطلب المصلحة الاستكبارية ذلك.
ثاني الجناة هي «الإدارة الأميركية» ذات السجل الحافل بالسلبية التي حكمتها وتحكمت فيها، فلا تكاد بقعة من بقاع الأرض إلا وهي تضج جراء ما لحق بها من ظلم مباشر من قبلهم. ولفلسطين ولبنان في ذلك نصيب الأسد. ستون عاماً والإدارة الأميركية تمعن في الظلم، وفي دعم الصهاينة بالمال والعتاد، وبالحماية القانونية في مجلس الأمن والمحافل الدولية. فليس المشروع الصهيوني سوى ثكنة عسكرية متقدمة للمحافظة على المصالح الغربية والأميركية خصوصاً. فتدعم لـ «إسرائيل» قانون التفوق. ومراجعة سريعة لاتفاقات السلام المعقودة تؤكد ذلك.
أما «العملاء» فهم آخر أصناف الجناة، فإذا ما تعددت وجهات النظر في المسائل المطروحة للنقاش. وكانت القضايا كبيرة وخطيرة، وتعددت الخلفيات الإيديولوجية كما نجده في لبنان خصوصاً كان الالتقاء صعباً، إلا أنه بالضرورة يبقى للاتفاق هامش مهما بلغت الاختلافات، إذ من المستحيل أن يكون التفاوت والاختلاف هو المحكّم حينما يكون المصير المشترك على المحك. وعليه يبرز البحث عن «عملاء» يؤمنون للمحارب مصالح لا يمكنه أن يباشر تحقيقها لبعده عن الساحة المحلية. وهل كان جيش إنطوان لحد اللبناني غير ذلك.
فريق العراة:
أخيراً، يبرز الفريق الثالث «العراة» الناس العاجزون عن اتخاذ الموقف المناسب، عجزاً أو كسلاً أو جهلاً، ويحافظ هذا الفريق على كرامته بين الناس بالبحث عن «مبررات موقفه» بالحكمة، والخبرة، والأناة. فإذا كان العدو على درجة عالية من الحماقة وكان لابد لهذا الفريق أن يكون على قدر من المسئولية ولم يقم بواجبه، ودفع به الحياد إلى التصدي لما تمليه عليه المسئولية الأخلاقية والدينية والقانونية. فسيكون ضمن من أسميهم بـ «العراة».
وعطفا على مفرزات الساحة، فإن النظام العربي، والذي يهمل اتفاقات «الدفاع العربي المشترك»، هو عار بامتياز. أخجل النظام العربي كل عربي، أسقط ورقة التوت الأخيرة التي تستر عورته، فلا «قمة عربية» ولا غيرها. فقد «النظام العربي» إحساسه إلى الدرجة التي لا تقوى حتى على «التضامن» بـ «بيان». أفهل يسوغ لنا أن نعتب على «مجلس الأمن» عجزه وهو الغريب، إذا كان «القريب» عاجزاً أو يبدي العجز ؟
تشمل فئة العراة «منظمة المؤتمر الإسلامي» لقد «عرّيت» هذه المنظمة، فأصبحت «عورة» يجب سترها. اما الأمم المتحدة فلا قيمة لها ولا وزن، وما وزن قرارات محكمة العدل الدولية المجرمة لـ «إسرائيل». القرارات تجاه أي دولة تصنفها القوى الكبرى بـ «المارقة» جاهزة.
إن ما حدث في لبنان أخيراً «عرّى» هذه المنظمة ومجلس أمنها المشؤوم من كل ستر، ليتأكد للقاصي والداني أن هذه المنظمة ومجلس الأمن ليسا سوى ألعوبة يتحكم بها السفير الأميركي.
لعل الحل وإن كان عسيراً وقد يكون خطوة غير محسوبة، أن يتنادى العالم العربي والإسلامي إلى:
أولاً: حل الجامعة العربية، وإعادة بنائها على أسس سليمة تكفل للأمة العربية حقوقها في الداخل والخارج، وأن يختار ممثلو الدول فيها بالانتخاب الشعبي النزيه.
ثانياً: حل منظمة المؤتمر الإسلامي، وإعادة بنائها على أساس فلسفة أن الأمة واحدة تفرض التخطيط لمصالحها.
ثالثاً: «الانسحاب» من هيئة الأمم المتحدة وإعلان رفض جميع قراراتها المجحفة بمصالح الأمة، وأن يصر على التنادي إلى تأسيس هيئة دولية جديدة ليس في مجلس الأمن التابع لها حق النقض لأي دولة مهما بلغت وأيا كانت.
إقرأ أيضا: كيف يدرس حزب الله في إحدى أهم جامعات العالم؟
إقرأ أيضا : الوهابية...بين آل سعود و الإسلام الحقيقي