لماذا تكون الشياطين مغلولة في شهر رمضان؟

الخميس 31 مايو 2018 - 10:29 بتوقيت مكة
لماذا تكون الشياطين مغلولة في شهر رمضان؟

ولا شكّ أيضًا بأنّه لو لم تظهر هذه البواطن، لما عرف الإنسان عن نفسه أهم ما ينبغي أن يعرفه من عجزٍ وضعف وجهل. فهذه أمور يجب عليه أن يعمل على إزالتها والتخلّص منها ليسلك طريق الكمال...

السيد عباس نورالدين

ربما لا يوجد أي مبالغة إذا قيل بأنّ الشياطين هي السّبب الأساسيّ في صدور المعاصي من البشر. لقد أشار الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة العجيبة حين قال في دعائه: "فَلَولاَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْتَدِعُهُمْ عَنْ طَاعَتِكَ مَا عَصَاكَ عَاصٍ، ولَولاَ أَنَّهُ صَورَ لَهُمُ الْبَاطِلَ فِي مِثَالِ الْحَقِّ مَا ضَلَّ عَنْ طَرِيقِكَ ضَالٌّ"(1) فلولا هذه الكائنات الخبيثة لما ظهرت مكامن النّفوس وما تخفيه من سوء!
فالشيطان يزيّن المعاصي ويحثّ عليها، ويخوّف الإنسان من عدم الإقدام عليها، ويسدّ عليه كل أبواب التوبة والإنابة لكي يستمر في عصيانه. وهكذا تتحقّق كل عوامل ظهور البواطن والسرائر الناقصة بصورة الذّنوب والمعاصي.
ولا شكّ أيضًا بأنّه لو لم تظهر هذه البواطن، لما عرف الإنسان عن نفسه أهم ما ينبغي أن يعرفه من عجزٍ وضعف وجهل. فهذه أمور يجب عليه أن يعمل على إزالتها والتخلّص منها ليسلك طريق الكمال. ففي هذا الظهور انكشاف لحقائق يعجز الإنسان عن إدراكها لوحده أو يصعب عليه ذلك كثيرًا؛ ولعلّه من أجل ذلك ورد في الحديث أنّه لو لم تذنبوا أيها الناس لذهب الله بكم وخلق قومًا آخرين غيركم يذنبون؛(2) في إشارة واضحة إلى ضرورة انكشاف البواطن في هذا العالم الأرضي.
ولا شك أيضًا بأنّ هذه الحقيقة المرّة ليست ممّا ينبغي أن يتفاخر به الإنسان، بل المقصود من وراء ذلك الرجوع إلى الله والإنابة إليه. فلو كان الإنسان يريد الخير لنفسه لفرّ إلى الملجأ الحامي والحصن الحصين ولم يصرّ على ما فعل وهو نادم. خصوصًا إذا علم أنّ باب التوبة مفتوحٌ وأنّ الله يحبّ من ينيب إليه ويستعيذ به.
وفي شهر رمضان يمسك الله الشياطين ويكبّلها بالأغلال، فتتوقّف وساوسها وتضعف إلقاءاتها. وهو أمرٌ يستشعره الصائم الذي يريد التقوى. فهل هذا أمرٌ مفيد للإنسان، طالما أنّ انكشاف باطنه أمرٌ مهمٌّ وضروريّ له؟ أم أنّ انكشاف السّرائر يصبح أمرًا ميسّرًا في هذا الشهر، فتنعدم الحاجة إلى الاستفزازات الخارجيّة؟
إنّ شهر رمضان هو فرصة لكي يجرّب الإنسان العيش بعيدًا عن الشيطان، عسى أن يكتشف حقيقة الإعاذة الإلهيّة، فيتّخذها منهجًا لحياته فيما بعد. وكأنّ الله تعالى يعطي الإنسان وقتًا مستقطعًا لا يعيش فيه أي نوع من المحفّزات الخارجيّة تجاه المعصية، لكي يدرك أهمّية هذه الحالة المعنويّة الرائعة ويسعى لتحقيقها في بقيّة أوقاته.
فإذا شعرنا بالإعاذة الإلهية، بقي علينا أن نستعيذ بها حقًّا وصدقًا.. فكيف تحصل الاستعاذة الحقيقيّة؟
لسيد العرفاء والسالكين الإمام الخميني (قدسّ سرّه) رأيٌ مهمّ في هذا المجال يرشدنا فيه إلى أنّ الاستعاذة الحقيقية بالله لا تتم إلا بشرطٍ واحد وهو أن نسلك طريق الله. فهو يقول: أنّ الإنسان ما دام مقيمًا في بيت النّفس والطّبيعة، ولم يشتغل بالسّفر الرّوحانيّ والسّلوك إلى الله، ويقبع تحت السّلطنة الشّيطانيّة بجميع الشؤون والمراتب، فهو لم يتلبّس بحقيقة الاستعاذة، ولقلقة لسانه تكون بلا فائدة، بل هي تثبيت وتحكيم للسّلطنة الشّيطانيّة، إلّا بالتّفضّل والعناية الإلهيّة.(1)
ويقول أيضًا: "فالإنسان لا يكون مستعيذًا في مقامين: أحدهما قبل السّلوك، وهو حالة الاحتجاب المحض تحت تصرّف الشّيطان وسلطنته، والآخر بعد ختم السّلوك وحصول الفناء المطلق."(4)
فلا يمكن ـ على أساس هذه الكلام ـ الخروج من تحت سلطة الشيطان وتأثير وساوسه إلّا بأن نشرع بالسّير والسلوك إلى الله تعالى. وسرّ ذلك هو أنّ أساس وجود الشيطان يتمثّل في كونه يصدّ عن سبيل الله ويقطع الطريق على الإنسان لكيلا يصل إلى مقام القرب الإلهيّ. فإن لم يسعَ الإنسان للوصول إلى هذا المقام، فهو واقعٌ حكمًا تحت سلطة إبليس وقد حقّق له ما يبتغيه.
فإذا عرفنا الحكمة من وجودنا في هذا العالم وأدركنا سرّ وجود مثل هذا العدوّ المبين، نعلم أنّ الأمر الوحيد الذي ينجينا من السقوط في شراكه وأفخاخه هو أن نتحرّك على طريق الله، انطلاقًا من وعيٍ تامّ بضرورة السّير إليه.
لقد تعاملت البيئة الفكرية العامّة للمسلمين مع قضيّة السير والسلوك من موقع المخاصمة والنزاع الفئويّ. ولمّا كان هذا المصطلح كثير الدور في كلمات الصوفيّة، ولأنّ لبعض النافذين مآخذ عديدة على هذه الفئة، فقد أدرجوه ضمن بِدَعهم واختراعاتهم.
لكنّنا لو تأمّلنا فيما يعنيه هذا المصطلح، وجلنا في العديد من النصوص الإسلامية الأصيلة ـ كتاب الله وأحاديث أهل بيت العصمة والطهارة ـ لعلمنا أنّ الإسلام دين السعي والسير إلى الله، وأنّ جوهر تعاليمه يصبّ في تحقيق هذه الحركة المعنويّة الهادفة التي تبدأ من أسفل سافلين لتصل إلى أعلى علّيين.
ليس السير والسلوك بدعة من بدع الصوفية، وليس أمرًا اختصاصيًّا منحصرًا بجماعة من المتفرّغين لعبادة الله، بل هو نمط حياة بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة. فمن أراد أن تكون حياته لله، أو أراد الخضوع لهذه الحقيقة الكبرى التي تتجلّى في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتي‏ وَ نُسُكي‏ وَ مَحْيايَ وَ مَماتي‏ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمين}‏،(5) فهو طالبٌ للسّلوك ومؤمنٌ بالسير.
فلا ينبغي أن نجتنب هذه الحقيقة الكبرى لأنّ جماعة من أهل البدع أو الفاشلين قد تحدّثوا عنها أو تبجّحوا بها في كلماتهم وأشعارهم، فالله تعالى يقول:{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيه}.لا معنى ولا قيمة لخلق الإنسان سوى أن يكون مظهرًا لأسماء الله وصفاته؛ ولا يتحقّق مثل هذا المقام العظيم إلّا بسعي الإنسان إليه؛ فليس للإنسان إلّا ما سعى(7).
ولا همّ للشيطان ولا غاية أكبر من أن يمنع الإنسان من تحقيق هذا الهدف. وما كل الحثّ على المعاصي والإغراء بالذنوب إلّا لإدخال اليأس في قلوب البشر من إمكانية الوصول إلى ذلك المقام العظيم. فأمنية الشيطان الكبرى هي الصدّ عن السير والسلوك إلى الله. والمؤمن العاقل هو الذي يعمل خلاف هذه الأمنية، ولا يسمح لليأس من هذه الرحمة الواسعة أن يدخل إلى قلبه.
شهر رمضان هو شهر إدراك سعة هذه الرحمة، عسى أن نجعل رجاء الوصول إليها غاية حياتنا ومنتهى سعينا.
يقول الإمام الخميني قدس سره:
"وبالجملة، ما منعك عن الحقّ وحجبك عن جمال المحبوب الجميل فهو شيطانك، سواء أكان في صورة الإنسان أم الجنّ، وكلّ ما يمنعك ويصدك عن هذا المقصد والمقصود فهو من الأفخاخ الشّيطانية، سواء كان من سنخ المقامات والمدارج أو العلوم والكمالات أو الحرف والصّنائع أو العيش والرّاحة أو المشقّة والذلّة أو غيرها. وكل هذه عبارة عن الدّنيا المذمومة. وبعبارة أخرى، تعلّقُ القلب بغير الحقّ هو دنياه، وهو المذموم ومن حبائل الشّيطان، ولا بدّ مِنْ الاستعاذة منها."(8)

الهوامش:

(1)الصحيفة السجادية، دعاؤه في الاعتراف بالتقصير عن تأدية الشكر.

(2). "لو لم تذنب لجاء اللَّه بقوم يذنبون فيغفر لهم ويدخلهم الجنّة". [نهج الفصاحة، ص651] و "لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ". [مجمع البحرين، ج٢، ص 60].

(3)معراج السالكين، 237.

(4)معراج السلاكين، ص 238.

(5) سورة الأنعام، الآية 162.

(6)سورة الانشقاق، الآية 6.

 (7){وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى}، [سورة النجم، الآية ٣٩].

(8)معراج السالكين، ص240.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الخميس 31 مايو 2018 - 10:29 بتوقيت مكة