السيد هاشم معروف الحسني
لقد استقبل رسول الله(ص) سبطه الحسن سيد شباب أهل الجنة في ليلة النصف من رمضان المبارك، الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان في السنة الثالثة من هجرته. ولما بلغه نبأ ولادته، غمرته الفرحة، وبدا عليه الارتياح، وقام من ساعته إلى بيت الصدّيقة فاطمة الزهراء، ونادى: يا أسماء، أين ولدي؟ فأسرعت أسماء إلى الوليد المبارك، وهو ملفوف بخرقة صفراء، فتناوله منها وقال: ألم أعهد إليكم أن لا تلفوا المولود في خرقة صفراء؟ وأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، فكان أول صوت مرّ على سمع السبط الكريم، وتغلغل في أعماق نفسه وقلبه، صوت جدّه العظيم: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر. هذه الكلمات القصار بمحتوياتها الكثيرة، كانت أنشودة الإمام أبي محمد الحسن في كلّ مراحل حياته، يحاول بكل ما لديه من جهد أن يغرسها في أعماق النفوس، لتكون أنشودة الحياة جيلاً بعد جيل.
والتفت إلى الإمام بعد أن كبّر في أذنيه، وسأله: هل سميت وليدك الميمون يا عليّ؟ فأجابه الإمام على الفور: ما كنت لأسبقك يا رسول الله، فتوقّف النبيّ(ص) عن الكلام لحظات، وكأنه ينتظر أمر السماء في ذلك، وفيما هو يفكر، وإذا بالوحي يناجيه بالاسم المبارك من عند الله سبحانه، ويقول له: سمّه حسناً يا رسول الله، كما جاء في بعض المرويات.
جاء عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)، أنّ رسول الله عقّ عنه بكبش، وقال: اللّهم عظمها بعظمه، ودمها بدمه، ولحمها بلحمه، وشعرها بشعره. اللّهمّ اجعلها وفاءً لمحمد وآل محمد.
وفي رواية ثانية، أنه عقّ عنه بكبشين، وأمر فاطمة(ع) أن تحلق رأسه وتتصدّق بوزنه فضةً على الفقراء، وأمر بختانه في اليوم السابع لولادته، وقال: "طهروا أولادكم يوم السابع، فإنه أطيب وأطهر وأسرع لنبات اللّحم".
وروي في "أسد الغابة" عن أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، أنها قالت للنبيّ: "يا رسول الله، رأيت كأن عضواً من اعضائك في بيتي"، وفي رواية ثانية "في حجري". فقال لها: خيراً رأيت، إن ابنتي فاطمة تلد غلاماً، فترضعيه بلبن ولدك قثم. وكان الأمر كما قال(ص)، فلقد أرضعته بلبن قثم، كما جاء في بعض الروايات.
والظاهر أن هذه الرواية من صنع الرواة، لأن قثم بن العباس أكبر من الحسن سناً، وحين ولادة الحسن، كان العباس في مكة، ولم يهاجر إلى المدينة إلا في السنة السابعة أو الثامنة، وقد بقي في مكة مع عائلته برأي النبيّ (ص)، يراقب تحركات قريش، ويخبره بها، وقد خرج مع المشركين إلى بدر مكرهاً ووقع أسيراً، وفدى نفسه وابني أخويه عقيل والحارث بن الحرث، كما تؤكد ذلك أكثر المصادر، ورجع إلى مكة بعد أن دفع الفداء المطلوب منه، وبقي بها مع عائلته وأولاده إلى أن التحق بالنبيّ بعد الفتح.
ومهما كان الحال، فلقد كان الحسن بن عليّ(ع) يلقب بالطيب والتقي والزكي والولي والسبط والمجتبى، ويكنى بأبي محمد، وهو سيد شباب أهل الجنة بإجماع المحدثين، وأحد اثنين انحصرت بهما ذرية رسول الله(ص)، وأحد الأربعة الذين باهى بهم رسول الله نصارى نجران، ومن أصحاب الطهر الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
ومن القربى الذين أمر الله بمودتهم، وجعلها أجراً لرسالته، كما نصت على ذلك الآية: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}.
وأحد الثقلين اللّذين من تمسّك بهما نجا، ومن تخلف عنهما ضلّ وغوى، كما اتفق على ذلك أكثر الرواة، ومن أهل البيت الذين شبههم الله بسفينة نوح، وقد قال فيه وفي أخيه الحسين: "اللّهمّ أني أحبهما، فأحبهما وأحبّ من أحبّهما"، وقال فيهما: "كلّ بني بنت ينتمون وينتسبون إلى آبائهم، إلا ولد فاطمة، فإني أنا أبوهم وإليّ ينتسبون"، إلى غير ذلك مما صحّ من أقواله فيه وفي أخيه الحسين (عليهما السلام).
وقال واصفوه إنه كان أشبه الناس برسول الله خَلقاً وخُلقاً وسؤدداً وهدياً، وقال الغزالي في "إحياء العلوم": إنّ النبيّ(ص) قال له: لقد أشبهت خلقي وخلقي، ولم يكن أحد أشبه برسول الله منه، كما جاء عن مالك بن أنس.
وروى محمد بن مسلم البخاري في صحيحه عن أبي بكرة، أنه قال: رأيت النبيّ(ص) على المنبر، والحسن بن عليّ معه، وهو يقبل على الناس مرة، وينظر إليه مرة ويقول: "إنّ ابني هذا سيّد".
لقد نشأ أبو محمد الحسن بن علي في أحضان جده رسول الله، وغذاه برسالته وتعاليم الإسلام وأخلاقه ويسره وسماحته، وظل معه وفي رعايته، إلى أن اختاره الله إليه، حتى أصبح مفطوراً على أخلاقه وآدابه وتعاليمه.
وروت زينب بنت أبي رافع، أن فاطمة الزهراء(ع) أتت بالحسن والحسين إلى أبيها في شكواه التي توفي فيها، فقالت له: "هذا ابناي فورّثهما شيئاً"، فقال" :أما الحسن، فله هيبتي وسؤددي، وأما الحسين، فله جرأتي وجودي."
وروى الطبرسي في "أعلام الورى" عن محمد بن إسحاق أنه قال: ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله ما بلغه الحسن بن علي، فلقد كان يبسط له فراش على باب داره، فإذا خرج وجلس عليه، انقطع الطريق، فما يمرّ أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم بذلك، قام ودخل بيته فيمرّ الناس. ومضى الراوي يقول: ولقد رأيته في طريق مكّة ينزل عن راحلته ويمشي على قدميه، فما من خلق الله أحد إلّا وينزل عن راحلته، وكان مع القافلة سعد بن عبادة، فنزل ومشى إلى جانبه.
وجاء في رواية البخاري والترمذي ومسلم في صحاحهم وابن كثير في "البداية والنهاية" عن البراء بن عازب أنّه قال: رأيت النبيّ(ص) والحسن على عاتقه، وهو يقول: "اللّهمّ إني أحبه فأحبّه".
كما روت عائشة عن النبيّ(ص) أنه كان يأخذه فيضمه إليه ويقول: "اللّهم إن هذا ابني، وأنا أحبّه وأحبّ من يحبّه"، وكان يحمله على رقبته، فلقيه رجل وهو على هذه الحالة، فقال: نعم المركب ركبت يا غلام، فقال رسول الله: ونعم الراكب هو. وكان يأتيه أحياناً وهو ساجد، فيركب ظهره، فيطيل السجود والحسن على ظهره، فإذا فرغ، يسأله المسلمون عن سبب ذلك، فيجيب: "لقد ترحلني ابني فكرهت أن أعجله".
وقال فيه وفي أخيه الحسين عشرات المرات: "هذان ريحانتاي من الدنيا، من أحبني فليحبّهما، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله وأدخله النّار"، وأنهما "سيّدا شباب أهل الجنّة".
وأحياناً، كان يعقب على ذلك بقوله: إن أباهما خير منهما.
وحدّث أبو هريرة كما جاء في "البداية والنهاية" لابن كثير، أنّ النبيّ(ص) نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، وقال: أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم. ويروي الرواة أن أبا هريرة التقى بالحسن ابن عليّ يوماً، فقال له: يابن رسول الله، أرني جسدك حتى أقبّل منه ما كان يقبّل رسول الله. فكشف له قميصه، فقبّله في سرته، وكان ابن عباس مع جلالته، إذا ركب الحسن والحسين، أخذ في ركابهما، ويعدّ ذلك من نعم الله عليه، وكانا إذا طافا في البيت، يكاد الناس يحطمونها من الازدحام عليهما.
وكان ابن الزبير مع حقده على أهل البيت وحسده لهم يقول: والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن عليّ(ع).
وقال عنه واصل بن عطاء: كان الحسن بن عليّ عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك، وكان كما في رواية ابن كثير، إذا صلى الغداة في مسجد النبيّ(ص)، يجلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس، فيجلس إليه سادة الناس يسألونه عن أمور دينهم، ويتحدثون بين يديه، وكان إذا توضّأ للصلاة تغير لونه، وإذا وقف لها ارتعدت فرائصه، وإذا ذكر الموت أو القبر أو البعث والصراط يبكي حتى يغشى عليه، وإذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل الله الجنة وتعوّذ من النار. وقد قاسم الله ماله ثلاث مرات، وخرج من ماله كلّه مرّتين، وحجّ خمساً وعشرين حجّة، وأن النجائب لتقاد بين يديه وهو ماش على قدميه يقول: إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، وإذا رآه الناس ماشياً، ترجلوا إكراماً له، فإذا أعياهم المشي، جاؤوا إليه وقالوا: يابن رسول الله، إن الناس قد أعياهم المشي على أقدامهم، فإما أن تركب بعض نجائبك ليركب الناس، أو تتنكّب الطريق، فإن أحداً لا تطاوعه نفسه أن يركب وأنت تسير على قدميك. فينحرف بمن معه عن الجادة، فإذا ابتعد عن الناس، ركبوا رواحلهم.
لقد اجتمع في الإمام أبي محمد الحسن، بالاضافة إلى شرف النسب، ما ورثه من جدّه النبي وأبيه الوصي من العلم وكريم الصفات ما لم يجتمع في أحد من الناس، ووجد فيه المسلمون ما وجدوه في جده الرسول من أخلاق ومزايا وصلابة في الحقّ وتضحية في سبيل الله وخير الإنسانية، لقد جسد الإمام الحسن أخلاق جده ومزايا جده وتعاليم الإسلام، وكان يذكرهم به من جميع نواحيه، فأحبوه وعظموه، وكان مرجعهم الأول بعد أبيه في كل ما كان يعترضهم من المشاكل، وما يستعصي حله عليهم من أمور الدين، ولا سيما وقد أطل المسلمون في عصره على فجر جديد وحياة جديدة حافلة بالأحداث التي لم يعرف المسلمون لها نظيراً من قبل.
لقد روى المؤرخون عن تواضعه وكرمه عشرات الروايات، فمن ذلك، أنه اجتاز على جماعة من الفقراء، وقد جلسوا على التراب يأكلون خبزاً كان معهم، فدعوه إلى مشاركتهم، فجلس معهم وقال: إن الله لا يحبّ المتكبرين. ولما فرغوا من الأكل دعاهم إلى ضيافته، فأطعمهم وكساهم وأغدق عليهم من عطائه، ومرّة أخرى، مر على فقراء يأكلون، فدعوه إلى مشاركتهم، فنزل عن راحلته وأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله، فأطعمهم وأعطاهم، وقال: اليد لهم، لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني، ونحن نجد ما أعطيناهم.
وروى المحدثون عنه أنّه أتاه رجل في حاجة، فقال له: اكتب حاجتك في رقعة وارفعها إلينا. فكتبها ورفعها إليه، فضاعفها له، فقال له بعض جلسائه: ما كان أعظم بركة هذه الرقعة عليه يابن رسول الله! فقال: "بركتها علينا أعظم، حيث جعلنا للمعروف أهلاً، أما علمتم أنّ المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأما إذا أعطيته بعد مسألة، فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه، وعسى أن يكون بات ليلته متململاً أرقاً، يميل بين اليأس والرجاء، لا يعلم بما يرجع من حاجته؛ أبكآبة الردّ أم بسرور النجح، فيأتيك وفرائصه ترعد، وقلبه خائف يخفق، فإن قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه، فإن ذلك أعظم مما نال من معروفك".
وأعطى شاعراً مبلغاً كبيراً من المال، فقال له رجل من جلسائه: سبحان الله، أتعطي شاعراً يعصي الرحمن ويقول البهتان؟ فقال: "يا عبد الله، إن خير ما بذلت من المال، ما وقيت به عرضك، وإن من ابتغاء الخير اتقاء الشرّ".
المصدر: كتاب سيرة الأئمة الإثني عشر(ع)