تثار بين الحين والآخر مجموعة من التساؤلات أو الشبهات في وجه نظرية ولاية الفقيه، سواء من قبل أعداء أو خصوم أو حتى أتباع هذه النظرية. وقد ارتأينا في أن نجيب عن بعضها، وذلك بالرجوع إلى ما كتبه بعض الباحثين والعلماء حول هذه المسألة:
1- كيف يكون الردّ على الوليّ الفقيه ردّاً على الله تعالى؟!
ورد هذا التعبير في الروايات التي استدلّ بها الفقهاء على ولاية الفقيه وبعض أحكام القضاء، وهي الرواية المعروفة بمقبولة عمر بن حنظلة، حيث جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضَوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً. فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّه استخفّ بحكم الله، وعلينا ردَّ، والرادّ علينا الرادّ على الله..."(1).
فولاية الفقيه امتداد لولاية المعصوم، وطاعته واجبة كطاعته، وإلا فما معنى كونه نائباً عنه في الأمور العامّة؟ وقد ورد في التوقيع الشريف الصادر عن الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف وهو من الأدلة التي استُدِلّ بها على ولاية الفقيه أيضاً، قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله (عليهم)"(2).
وفي الحقيقة، إن الفارق التطبيقيّ بين نظام ولاية الفقيه وبين غيره من الأنظمة، هو أن القوانين في الحكومة الإسلامية تكتسب اعتبارها وشرعيتها بإذن وإمضاء الوليّ الفقيه، وتصبح واجبة شرعاً، ومخالفتها إثم يوجب العقاب الإلهيّ. وهذا بخلافه في النظام الديمقراطيّ الذي ليس فيه أي إلزام شرعيّ، لكونه يستمد مشروعيته من تعهّد الناس الإرادي أمام القوانين، وبوسعهم التمرّد عليها وإعادة النظر فيها، وتغيير مواد القانون حسب رغباتهم(3).
2- الشيخ الأنصاري ونظرية ولاية الفقيه
يُنسب إلى الشيخ الأنصاري رحمه الله أنه ينكر القول بولاية الفقيه. وقد استغل بعضهم ذلك للطعن بهذه النظرية بدعوى أن كباراً من العلماء أمثال الشيخ الأعظم ينكرون ولاية الفقيه، فما هو رأي الشيخ في المسألة؟
الجواب: إنّ الشيخ الأنصاري ذكر في كتاب المكاسب معنيين للولاية، وبعد مناقشة أدلة المعنى الأول، وهو القول بولاية الفقيه العامة المطلقة، رفضه ولم يرتضه، ولكنّه قبِل المعنى الثاني، وهو القول بثبوت الولاية للفقيه، بمعنى اشتراط إذنه في التصرف في الموارد التي:
1- يُعلم إرادة الشارع ضرورة وجودها في الخارج.
2- واحتمل اشتراط إذن الفقيه ونظره فيها.
3- ولم يعلم كونها وظيفة شخص خاص، كنظر الأب في ولده مثلاً.
4- ولم يحتمل كونها من مختصات الإمام المعصوم عليه السلام.
ففي مثل هذه الموارد يرى الشيخ الأنصاري ثبوت الولاية للفقيه فيها، وأنّه لا يجوز تعطيلها في زمان الغيبة، بحيث لو فرض عدم الفقيه لوجب على الناس القيام بها، وهذا ما يسمّى في كلمات الفقهاء بدليل الحسبة(4).
وطبقاً لما تقدم، يمكن القول إنّ الضرورة الداعية إلى تشكيل الحكومة الإسلامية لم تسقط في زمان الغيبة، فيجوز للفقيه تولّي الحكومة، بل يتعيّن عليه ذلك، لاحتمال اشتراطها بالفقيه، وعدم وجود دليل على جواز تولّي غيره لها. وهذا يعني أن الشيخ لا ينكر ولاية الفقيه بالمطلق، ولكنه يقول بثبوتها بمقدار معين، وهو ليس بالقليل(5).
- كلام الشيخ الأعظم في كتاب "القضاء والشهادات":
ويؤيّد هذه الاستفادة من كلام الشيخ الأنصاري قدس سره ما ذكره في كتاب "القضاء والشهادات" عند الحديث عن الفقيه وولايته، يقول فيه بعد استعراض عدد من الروايات: "ثم إنّ الظاهر من الروايات المتقدمة: نفوذ حكم الفقيه في جميع خصوصيات الأحكام الشرعية، وفي موضوعاتها الخاصة، بالنسبة إلى ترتب الأحكام عليها؛ لأنّ المتبادر عرفاً من لفظ "الحاكم" هو المتسلّط على الإطلاق، فهو نظير قول السلطان لأهل بلدة: جعلت فلاناً حاكماً عليكم، حيث يفهم منه تسلّطه على الرعية في جميع ما له دخل في أوامر السلطان جزئيّاً أو كليّاً.
ويؤيّده: العدول عن لفظ "الحَكَم" إلى "الحاكم"، مع أنّ الأنسب للسياق -حيث قال: "فارضوا به حكماً"- أن يقول: "فإني قد جعلته عليكم حَكَمَاً..." إلى أن يقول: "وإن شئت تقريب الاستدلال بالتوقيع وبالمقبولة بوجه أوضح، فنقول: لا نزاع في نفوذ حكم الحاكم في الموضوعات الخاصة إذا كانت محلّاً للتخاصم، فحينئذٍ نقول: إنّ تعليل الإمام عليه السلام وجوب الرضى بحكومته في الخصومات بجعله حاكماً على الإطلاق وحجة كذلك، يدلّ على أنّ حكمه في الخصومات والوقائع من فروع حكومته المطلقة وحجيته العامة، فلا يختص بصورة التخاصم، إلخ.."(6).
3- ما معنى شعار "الموت لمن هو ضدّ ولاية الفقيه"؟
ربّما يعترض على القائلين بولاية الفقيه، أنه: لماذا يُنادى في الجمهورية الإسلامية بالموت لمن هو ضد ولاية الفقيه؟
والجواب: إنّ هذا الشعار ليس ضدّ من أنكرها اجتهاداً أو تقليداً أو لشبهة، بل هو موجّه ضد فئة ظهرت بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة، عملت على محاربة نظام ولاية الفقيه، عرفت في ما بعد باسم "منافقي الشعب"، وضد بعض الشخصيات التي كان أبرزها "بني صدر"، أو ضد الفئة التي رفضت فكرة ولاية الفقيه على خلفيّة رفض الإسلام أو خلفيّة الحقد والحسد والانتقام. وإنكار ولاية الفقيه لا يبرر بأي حال من الأحوال محاربة الحكومة الإسلامية المبنية على هذه النظرية، مهما كان نوع المحاربة(7).
4- هل يلزم الديكتاتورية من نظام ولاية الفقيه؟
قد أثير هذا الموضوع في بدايات انتصار الثورة من قِبَل جمع قليل أبدوا رفضهم باعتراضات أثاروها. وكان من جملة ما أوردوه دعوى أنه يلزم من نظرية ولاية الفقيه "الديكتاتورية"، وأن يكون الحكم المبنيّ على أساسها نظاماً ديكتاتوريّاً.
وقد تصدّى الإمام الخمينيّ قدس سره بنفسه لهذه الدعوى، ولم يكن يسمح بأي تهاون معها، حتى إنّه دعا جميع خطباء الجمعة في ذلك الوقت إلى بيان مسألة ولاية الفقيه بشكل واضح، حتى لا يقع الناس في شباك أولئك الذين أرادوا زعزعة ثقتهم بهذا المبدأ المقدس.
وسنكتفي في الرد على هذه الشبهة بما يفهم من كلمات الإمام الخميني قدس سره في هذا الصدد:
أولاً: ليس من الديكتاتورية في شيء أن يكون النظام المعتمد في إيران قد أيّده أكثريّة الشعب دون ضغط أو إكراه.
ثانياً: الديكتاتورية متجسّدة في كلمات المعترضين؛ إذ يحاولون، وهم القلّة، أن ينصّبوا أنفسهم في موقع يحسبون أنفسهم أوصياء على الشعب والأمّة. وهؤلاء عندما ينصّبون أنفسهم في هذا الموقع يسعون إلى فرض رأيهم وزعزعة ثقة الشعب والمسلمين بهذه الجمهوريّة والثورة، وهذا نحو من أنحاء الديكتاتورية.
ثالثاً: إنّ من يدعي أنّ مبدأ ولاية الفقيه يستلزم ديكتاتوريّة، فلا ريب في أنّه جاهل بهذا المبدأ وأهميّته وقدسيّته، بل العكس هو الصحيح؛ فإن الحامي للحريات وفق المبادئ الإسلامية، والحامي لإرادة الشعب وحقوقه والمدافع عنه هو مبدأ ولاية الفقيه، الذي يقوم بمهمة الإشراف على أمور البلد، حتى لا ينحرف أحد ممن يمكن أن يتسلّم مقدّرات البلد. وعند التدقيق نجد أنّ أقوى ضمانة يمكن أن يقدّمها الإسلام للمنتسبين إليه في عصر الغيبة هي مبدأ ولاية الفقيه. وإنما يكون الحكم ديكتاتورياً إذا استند إلى الرأي الشخصيّ، بعيداً عن أيّ اعتبارات صحيحة، وكان الحاكم قادراً على أن ينفّذ جميع رغباته بدون أن يتجرأ أحد على معارضته.
رابعاً: في دستور الجمهورية قد حُدّدت للفقيه صلاحيات هي أقصر دائرةً من صلاحياته الأساسية، وإنّما وافق عليها الإمام الخميني قدس سره وتلاميذه من مؤسسي الجمهورية المباركة؛ لأن الإمام مؤمن بإعطاء دور للأمة.
خامساً: إنّ الفقيه يمارس الشورى بأفضل طرقها، وهو ملزم شرعاً وعقلاً بالاستشارات في مواضع كثيرة. وها نحن نجد أن الإمام الخميني قدس سره، وهو الولي الفقيه الذي كان بإمكانه أن ينفرد بالحكم ولم يكن ليعترض عليه أحد في ذلك الوقت، نظراً إلى عمق المحبّة له في قلب الشعب المسلم في الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، بل وخارجها وجميع المستضعفين في الأرض، نجده قد أسس لعمل جماعيّ يخرج فيه الحكم عن حكم الرجل الواحد، ليكون المستقبل أكثر ضماناً للأمة والمجتمع من خلال تشكيل المؤسّسات التي شرعت في الدستور وأعطيت صلاحيات، وتجسدت بذلك أرقى مظاهر الشورى إن على مستوى التشريع أو على مستوى القضاء أو على مستوى الحكم عامة(8).
الهوامش:
1.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 1، ص34.
2.وسائل الشيعة، (م.س)، ج 27، ص 140.
3.يراجع: النظرية السياسية في الإسلام، اليزدي، ج 1، ص 374.
4.الأمور الحسبية هي: التي علم بعدم رضى الشارع الأقدس بتركها. (الإمام الخميني، كتاب البيع، ج 2، ص 665). أو: الأمور التي لا بد من حصولها في الخارج، ولم يعيَّن من يتوجَّه إليه التكليف بالخصوص. (صراط النجاة، الميرزا جواد التبريزي، ج 3، ص 358).
5.يراجع: الفقيه والسلطة والأمّة، مالك وهبي، ص288-290 (بتصرّف).
6.القضاء والشهادات، الأنصاري، ص 48- 49.
7.الفقيه والسلطة والأمّة، (م.س)، ص462.
8.(م.ن)، ص339.
المصدر: مجلة بقية الله