السيد عباس نورالدين
الإيمان الحقيقيّ هو الإدراك والشعور الذي يكون عاملًا أساسيًّا للتّفاعل القويّ مع حضور الله تعالى في الحياة؛ وفي غير هذه الحالة، فإنّ ما قد نسمّيه إيمانًا لن ينفع، ولن يفيد صاحبه من وجوده على هذه الأرض.
لوجودنا على هذه الأرض فلسفة وغاية؛ فإن لم ندرك هذه الغاية والحكمة، فهذا يعني أنّنا نتنكّر لأهم فعل إلهيّ وتجلٍّ ربّانيّ.. ينبغي أن نتذكّر دائمًا أنّ مشروع خلق الإنسان بدأ ليكون خليفة لله في الأرض.
لقد خضع الإيمان للكثير من التأويلات والتفسيرات، وما زال، كونه أعمق ظاهرة إنسانيّة أو تجربة بشرية. وقد هيمنت التفسيرات التشريعية أو الفقهية على معناه وتحديد ماهيّته نظرًا للسلطة التي حظيت بها، ولما امتلكته من سلاح فتّاك هو سلاح التكفير.
وفي أنقى التفسيرات الشرعية للإيمان، وجدنا أنّ البحث عن معناه لم يكن مرتبطًا بالغاية من وجود الإنسان على الأرض ولا من عمق ارتباطه بالله تعالى، وإنمّا نبع من ضرورة تحديد مجموعة من المسؤوليات الشرعية العامّة، كالطهارة والتزاوج وبعض الحقوق المالية. لهذا، كان التفسير الشرعيّ ناظرًا إلى الحد الأدنى، كون تلك الحقوق والالتزامات هي الحد الأدنى من الحياة الدنيا. في حين أنّه كان يُفترض لهذا التحديد أن يفسح المجال لتجربة معنويّة راقية، فيما لو تحرّر من المآرب السياسية والصراعات الفئوية.
لا بأس من تعيين الحد الأدنى للإيمان، فيما لو أضاء طريق الوصول إلى كماله. وبالرغم من أنّ تراثنا المعصوم يحفل بالتصريحات والإشارات الواضحة إلى قضية تكميل الإيمان وآثاره الأخروية وارتباطه بتفاعلنا مع الله تعالى، لكن، ولأسباب نعرض عن ذكرها هنا، لم تتحوّل قضية الإيمان الحقيقي وكمال الإيمان إلى ثقافة عامّة بعد مرور كل هذه القرون. وقد أدّى هذا النكوص والتساهل إلى تفشّي نزعة التكفير العشوائي أو الاعتباطي حتى في الأوساط العلمية الجادّة.
رغم تقديرنا لأهمية التحديدات الشرعية لموضوع الإيمان، إلّا أنّ التعامل مع هذه القضية الحسّاسة والعميقة، بعيدًا عن العمق المعرفي وعن فلسفة الوجود، سيحرمنا من الاستفادة من أعظم ثمار الدين والرسالة. فلا ننسَ أن قضية الإيمان هي قضية الله تعالى؛ ولا يوجد قضية أعذب وأجمل وأفيد وأعلى من قضية الله. فالكثير مما يربطنا بالله تعالى وبمعرفته يمكن فهمه انطلاقًا من فهم ما يجري في نفوسنا على صعيد الإيمان.
المشكلة الأخرى التي واجهت فهمنا للإيمان أتت من مكانٍ آخر وهو ظاهرة الإلحاد الحديثة. ولا شك بأنّ الإلحاد كان موجودًا عبر التاريخ. لكن بحسب ما أذكر، فإنّ الإلحاد المرتبط بالعلوم الحديثة أوهمنا أنّه يمكن للإنسان أن يعيش الإنكار التام لوجود الله تعالى! (أليس هذا هو التفسير الشائع للإلحاد اليوم؟).
وحين أصبح للإلحاد إعلامه القوي، ظنّ الكثير من الذين لم يتعرّفوا إلى عمق قضيّة الإيمان، أنّ الإيمان الواقعي يكمن في الاعتراف بوجود الله تعالى.. وقد أظهرت أدبيّات مواجهة الإلحاد الحديث، مدى تشرّب أصحابه مثل هذه الفكرة الخاطئة.
لقد ركّزت أدبيات المواجهة على مبدأ إثبات وجود الله تعالى إلى الحد الذي اختفت معه قضايا أخرى أكثر أهمية من الناحية العملية، مثل قضية العدل الذي يمكن أن يمثّل أفضل طريق لمعرفة الله والارتباط به.. وباختصار، لقد ابتلع هؤلاء المفكّرون الطعم الذي وضعه لهم الملحدون دون أن يدروا؛ وذلك حين تعاملوا مع قضية عظيمة عميقة بحجم قضية الله بردّة فعل. وأغلب الظن أنّ العديد من هؤلاء المفكّرين كانوا بعيدين عن ذلك التراث الغني المتكدّس بكنوز المعرفة الإلهية والناضح بأعظم التجارب الإيمانية.
حين تواجه ملحدًا يدّعي إمكانية إنكار الله مطلقًا، وحين تصبح مواجهتك للإلحاد معركتك الكبرى في الحياة، فمن المتوقّع أن ينحصر الإيمان بنظرك في الاعتقاد بوجود الله. وسوف يكون الاعتراف بهذا الوجود بالنسبة لك إنجازًا عظيمًا. وربما تتفاجأ إن علمت أنّ هذا الملحد كان يمارس نوعًا من الخداع أو يعمل وفق برنامجٍ ماكر ينطلق من عدائه لله تعالى!
أجل، فقد كان الإلحاد دومًا ظاهرة انطلقت من العداء. ولا معنى للعداء ما لم يكن هناك اعتراف بوجود العدوّ. لهذا، قيل أنّ الكافر ليس من ينكر أصل وجود الله بل من يتنكّر لأهم صفاته وأفعاله.
أجل إنّ هذا الكافر الذي يعترف في داخله بوجود الله، قد يعيش حياةً بعيدة كل البعد عن الله وذكره. لهذا، كان الكفر نمط عيشٍ أكثر منه فكرًا واعتقادًا.
وهكذا، تأتي قضية الإيمان الواقعي إلى الواجهة مرّة أخرى لتؤكّد لنا أنّ هناك نمطًا محدّدًا من العيش ينبغي أن ينسجم مع الإيمان لكي يثمر وينتج ويتكامل. فالقضية لم تكن يومًا في وجود إيمان في القلب أو لا، بل في مستواه ودرجته. والدرجة المطلوبة الصالحة للإنسان هي التي تجعله يتفاعل مع الله في الحياة وفي أحداثه الكبرى كما أراد الله تعالى.
وهكذا نعود إلى النقطة الأولى؛ إلى فلسفة وجودنا على هذه الأرض. فما لم نفهم هذه الحياة انطلاقًا من فعل الله وخلقه وحضوره وتدبيره وربوبيته، فلن نتمكن من تحقيق هذا التفاعل الإيماني المطلوب!
وفي الأرض بلاءات وحوادث مؤلمة ومصائب ومصاعب وفقر وكوارث وهزائم. وباختصار، في هذه الحياة الأرضية يواجه الإنسان جلال الرب المتعال ونقمته وإضلاله وقاهريّته التي تظهر في الموت والحرمان وإرسال شياطين الإنس والجن عليه وتغليب الأشرار وحكومات الفجّار. وما لم ندرك الجمال في هذا المشهد الجلالي، فلن نقدر على التفاعل المطلوب مع الله؛ أي أنّنا لن نتمكّن من الحفاظ على إيماننا وتقويته وتكميله.
ولا شك بأنّ الحد الأدنى للجمال الإلهيّ في حوادث الحياة يكمن في العدل الذي لا بدّ أن يتحقّق على الأرض. أمّا تأجيل العدل الإلهي كلّه إلى اليوم الآخر، فهو بمنزلة تأجيل معايشة التجربة الإيمانية إلى ذلك اليوم. ويا لها من مخاطرة! ويا له من حرمان!
ولكي ندرك العدل في الحياة الاجتماعية بالخصوص، نحتاج إلى ربط أحداثها وفهم أسبابها وإرجاعها إلى مناشئها وبداياتها. وهذا ما يُسمّى بالوعي السياسي. أو لنقل أنّ الوعي السياسي يقوم على ذلك الأساس المتين.
رأيتُ جماعات كثيرة من المسلمين تسقي إيمانها الأوّلي بماء الجهل السياسي والانخداع التاريخي. وحين واجه هؤلاء ما وعدهم الله من نقمته وبلائه سقطوا في فتنته، وخرجوا من الإيمان كما يخرج السهم من القوس.
رأيت هذه الجماعات تفسّر التاريخ كما يحلو لها أو انطلاقًا من عصبيّتها المجبولة عليها طينتها وطينة آبائها وأجدادها.
رأيتها تظن أنّ النصر والمجد والسؤدد كان حليفها منذ رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذا العالم.
رأيتها تظن أنّها فتحت العالم وأسقطت الامبراطوريات وحرّرت القدس واحتلّت الأندلس.
رأيتها تنخدع في فهم التاريخ وتظن أنّ عقيدتها الوهّابية هي التي كانت وراء كل تلك الأمجاد التي لن تحتاج إلى استرجاعها إلا ببضع غزوات هنا أو هناك!
رأيتها تظن أنّ تحرير القدس وفلسطين لن يأخذ أكثر من أربعين سنة بعد احتلالها من قِبل شذّاذ الآفاق، لأنّ الله أعز وأكرم من أن يهينها كما أهان بني إسرائيل حتى تاهوا أربعين سنة في الصحراء.
رأيتها تظن أنّ سقوط الخلافة العثمانية، قبل حوالي مئة سنة، هو بداية السقوط.
رأيتها تظن أنّ حكم بني أميّة كان حكمًا إسلاميًّا على سنّة الله ورسوله.
رأيتها تظن أنّ أمريكا واليهود هم أقرب من محبّي أهل البيت عليهم السلام إليها!!
لقد رأيتُ، وربما رأيتَ أنت معي، حجم الضلالة والجهالة بالتاريخ. والأدهى من ذلك هو أن تؤسّس هذه الجماعات إيمانها بالله تعالى على ذلك الجرف الهار من الحماقة والسذاجة التاريخية.
وما إن هُزمت تلك الجماعات، حتى حمّلت ربّها كل أشكال الظلم، ونسبت إليه كل أنواع العبث، فكانت كما قال الله تعالى بشأن المشركين: {وَقالَ الَّذينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبين} (سورة النحل/ 35)، وحين يجهل المؤمن معنى الإيمان وحقيقته ويفقد ظاهرة العدل من روحه وذهنه، فمن المتوقّع أن يبني إيمانه هذا على خدع الشيطان الذي يزيّنه له ليبقى ألعوبة بيده، فيرتحل من هذا العالم وهو يزعم أنّه مؤمن، يقول الله أكبر وهو لا يدري منه شيئًا.
إنّ إيماننا الواقعي يعتمد كثيرًا على فهمنا لحضور الله وتدبيره للحياة الاجتماعية التي هي أكبر اختباراتنا وبلاءاتنا. ولا يمكن لهذا الفهم أن ينمو ويتعمّق إلا من خلال وعينا لما يجري انطلاقًا مما جرى.
الوعي السياسي لا ينحصر في إرجاع الحوادث إلى عللها وأسبابها القريبة؛ بل يكمن في إدراك الأسباب البعيدة التي تشكّل أفضل فرصة لمعرفة الله وإدراك حضوره.
وقد كانت البعثة الشريفة للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) إحدى أعظم تجلّيات حضور الله في العالم، لأنّها أصبحت عاملًا رئيسيًّا في صياغة الحياة الاجتماعية، ليس للمسلمين فحسب، وإنّما لكلّ البشرية.
ومنذ أن صدع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالدعوة إلى الله، حتى بدأ العالم يتشكّل وفق محاور مواجهة الرسالة الإلهية. ولم يكن المشركون والكفّار الوحيدين الذين وقفوا بوجه هذا النبيّ العظيم وأسّسوا الجبهات والدول والحكومات والحضارات للحدّ من انتشار نوره، بل كان هناك معسكرٌ آخر لا يقلّ خطورة عنهم؛ وهو معسكر النفاق الذي أسّس لكل هذه التفسيرات الاعتباطية والخاطئة المرتبطة بظاهرة الإيمان الكبرى التي ما زلنا نواجهها ونواجه تبعاتها إلى يومنا هذا.
إقرأ أيضا: أشرف المهن...العمل للآخرة!