أشرف المهن...العمل للآخرة!

الإثنين 28 مايو 2018 - 14:27 بتوقيت مكة
أشرف المهن...العمل للآخرة!

نّ الإيمان تابعٌ للحضور، ومن الصّعب أن يتفاعل الإيمان في وجودنا، فيزداد ويقوى، دون إدراك ذلك الحضور. فمن أراد أن يكون من أهل الإيمان الثابت، عليه أن يضع نفسه على طريق ملاحقة وملاحظة التجلّيات الإلهية...

السيد عباس نورالدين

الإيمان الذي نتحدّث عنه هنا هو الإيمان بحقيقة كبرى هي أصل كل حقيقة في هذا العالم. أمّا الإيمان بأي حقيقة فهو موجود عند أكثر الناس. إنّه عبارة عن حالة نفسية يذعن معها الإنسان بشيء ما، ويشعر به، ويتعامل معه بمقتضاه. وهذه الميزة الأخيرة هي التي تميّز الإيمان عن العلم. لذلك قيل أنّ الإيمان كلّه عمل، ولا إيمان بلا عمل.

فما هو أهم عمل يعبّر عن إيماننا بالله تعالى؟
إنّ الإيمان بالله تعالى يعني الإيمان بحضوره في حياتنا كما هو، لا كما يحلو لنا أو نتصوّر.. لو كان الله مجرّد فكرة تنسجها خيالاتنا، لأمكن القول بأنّه تابع لتوارد خواطرنا وتذكراتنا. لكنّ الله حقيقة أكبر وأعظم من أن يقدر أي فكر على استحضاره، فما بالك بأن يكون حضوره صنيعة أفكارنا.
حضور الله أمرٌ لا خيار لنا فيه، وإن كان البعض يظن أنّنا نفعل ذلك بواسطة ما يُسمّى بالذكر. نداؤك لأي موجود قد ينفع في توجّهه إليك، حين يكون هذا الموجود غافلًا أو ضعيف الحضور، فيحتاج إلى عاملٍ مؤثّر يحرّكه نحوك؛ لكنّ الله تعالى خالق كلّ شيء، وهو محيط بكلّ الأشياء، ومن هذه الأشياء السرائر والعقول والأفكار.
أمّا حقيقة الذكر أو الذكر الحقيقيّ فهو الذي يجعل النفس مستعدّة لإدراك هذا الحضور؛ ولهذا، كان الذكر القويّ، ذلك الأمر الذي يجعلنا نتفاعل مع نوعيّة حضور الله وطبيعته! فقد يكون حضور الله عند البعض بواسطة آيات اللطف والجمال، وقد يكون بواسطة آيات القهر والجلال.
إنّ الله هو الذي يصنع حضوره في قلوبنا وفق حكمة التربية. فبعض القلوب لا ينفع معها سوى الحضور الجماليّ، والبعض الآخر لا ينتفع إلّا بالحضور الجلاليّ. ومن أدرك ما ينفعه فقد حضر الله عنده!
أجل، إنّ الإيمان تابعٌ للحضور، ومن الصّعب أن يتفاعل الإيمان في وجودنا، فيزداد ويقوى، دون إدراك ذلك الحضور. فمن أراد أن يكون من أهل الإيمان الثابت، عليه أن يضع نفسه على طريق ملاحقة وملاحظة التجلّيات الإلهية.
قيل أنّ لكلّ تجلٍّ وحضورٍ إلهيّ لوازم عمليّة. فإن كان جلاليًّا وجب على العبد أن يفرّ أو ينقبض، وإن كان جماليًّا وجب عليه أن يُقبل وينبسط. وبهذه الطريقة يترجم إيمانه ويكشف عن حقيقته.
تجلّيات الله في حياتنا كثيرة جدًّا، وربما هي بعدد أنفاسنا؛ لكن منها ما هو كبيرٌ وشاسع بحيث يمكن أن يملأ حياتنا كلّها. فإهباطنا إلى هذا العالم الأرضيّ كان فعلًا إلهيًّا، ووجب أن نستجيب له بحسب مقتضاه؛ وهو ما أخبرنا الله عنه في العديد من المناسبات، كما في قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}(1)
هذه الدنيا هي بمنزلة السجن الذي يحبسنا ويكبّلنا إن نحن ركنّا إليه؛ وبذلك يمنعنا من التفاعل الصحيح مع الله. ولهذا يجب أن نسعى جهدنا للخلاص من قيود هذه الدنيا، كما فعل أولياء الله حين أسرتهم الدنيا ففدوا أنفسهم منها، مثلما وصفهم سيدهم ومقتداهم (عليه السلام).
ليس هذا الفرار والسعي للانعتاق مجرّد فكرة جميلة نعتنقها، بل هو برنامج حياة؛ لأنّنا ما دمنا في هذه الدنيا فنحن في السجن، وإذا خرجنا فنحن عرضة للسقوط مجدّدًا. ولهذا، يجب أن يستمر الفرار ما دامت الحياة.
والفرار ليس حركة عشوائية بلا هوادة، بل هو توجّهٌ واعٍ وسيرٌ إلى الله تعالى ينتهي بلقائه. ولأجل تسهيل هذا الأمر على الناس، خلق الله الجنة، لترغيبهم بما يمكن أن يكون عليه هذا اللقاء.
لهذا كان الإيمان الواقعيّ متمثّلًا في هذه الحركة الحثيثة من الدنيا إلى الآخرة، أي كما ورد في الحديث الشريف: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ الْقَلْبُ وَاتَّسَعَ، قُلْتُ: فَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (ص) الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِه"(2)‏.. ولا شيء يمكن أن يعبّر عن استقرار الإيمان في القلب مثل هذا السعي الصادق.
إنّ صبرنا على المصائب وشكرنا على النعم وتوكّلنا على الله، وغير ذلك من الحالات النفسية المعنوية الطيبة، كلّه من لوازم الإيمان وتجلّياته؛ إلّا أنّ هذه الأمور أشبه بمحطّات السفر إذا ما قورنت بالسفر. وينبغي أوّلًا أن نحدّد ما إذا كنّا مسافرين حقًا. فلا فائدة حقيقية من دراسة وتحليل المحطّات، إن لم نكن من أهل ذلك السير والسفر.
إنّ التعمّق في معرفة مدى صبرنا وشكرنا يفيد حتمًا في دراسة مستوى إيماننا، لكن ذلك سيكون كمن يتمكّن من وصف محطّة على الطريق بدقّة وحذاقة. فالأساس هو أن نعرف إن كنّا مسافرين حقًّا أو لا.
لأجل ذلك ينبغي أوّلًا أن نطرح على أنفسنا هذه الأسئلة ونتعمّق في البحث عن إجاباتها داخل نفوسنا. هل أنا مسافر حقًّا بحيث أنظر إلى حياتي الدنيا كمعبر؟ وهل إنّني أسعى إلى الآخرة بحيث أراها نهاية كلّ شيء؟
مسافرو رحلة الآخرة يعلمون جيّدًا أنّه لا معنى لأن تتعلّق قلوبهم بكل ما هو زائل وفانٍ؛ ولهذا، فإنّهم لا يأسفون على ما يفوتهم ولا يفرحون بما يأتيهم من هذه الدنيا. وأهم ما يميّزهم شدّة حضور الآخرة الذي ينسيهم آلام الدنيا ومصائبها، إلى الدرجة التي يبدو ذلك كالجنون والخلط. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة المتقين: "وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ، يَنْظُرُ إِلَيْهمُ الْنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض، وَيَقُولُ: قَدْ خُولِطُوا! وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيم"؛(3)‏ومع ذلك، فلم أجد ما يحكي عن مدى صدقنا فيما يتعلّق بسفرنا هذا، مثل العمل الذي نمتهنه في حياتنا ونبذل فيه زهرة شبابنا والقدر الأكبر من طاقاتنا.
كلّ شيء قد يبدو وهمًا أمام هذه الحقيقة الساطعة. فلو كنت ما كنت في معنويّاتك وسلوكك، وكان الغالب عليك العمل لدنياك، ولو بفارق ساعة واحدة عن العمل لآخرتك، فهذا يعني أنّك لم تكتشف طريق الآخرة بعد.
إنّ الله تعالى، ومنذ أن بعث حبيبه محمّد (صلى الله عليه وآله)، قد فتح أبواب الآخرة، ويسّر سبل الوصول إليها، إلى الدرجة التي لا يمكن أن يجهلها إلّا الشقيّ المغرور. فلم يعد العمل للآخرة مجرّد خيار بين عشرات الخيارات الأخرى، التي يمكن أن تعمي على الإنسان الحقيقة؛ بل صار بفضل هذه البعثة الشريفة كالجادة العريضة، التي تتّسع لعشرات السبل التي تقف مقابل تلك الطرق الدنيوية الوعرة الشائكة.
أجل، من كان له شرف الاهتداء إلى رسالة النبيّ الخاتم (صلوات الله عليه وآله) يعلم جيّدًا كيف أصبح العمل للآخرة من أفضل وأشرف المهن وأيسر الأعمال والحِرف. ولا يعرض عن ذلك إلّا من ضعف إيمانه بالله، فساء ظنّه به وتوهم أنّه عليه العمل والكد لدنياه فيما إذا أراد البقاء والحياة!
عن أبي عبد الله: "فِي التَّوراةِ مَكْتوبٌ يَا بْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعبَاَدتِي أملأُ قَلْبَكَ غِنىً، وَلاَ أكِلُكَ إلى طَلَبكَ، وَعَلَيَّ أَنْ أَسُدَّ فَاقَتَكَ وَأمْلأَ قَلْبَكَ خَوْفاً منِّي. وَإِنْ لا تَفَرَّغْ لِعِبادَتِي أَمْلأ قَلْبَكَ شُغْلاً بِالدُّنْيَا ثُمَّ لا أسُدُّ فَاقَتَكَ وَأَكِلُكَ إِلَى طَلَبِكَ".(4)
وإلى أولي الألباب أترك المجال ليتفكّروا في حياتهم ويعلموا حقيقة إيمانهم.

الهوامش:

(1)سورة الذاريات، الآية 50.

(2)مكارم الأخلاق، ص 464.

(3)نهج البلاغة، ص 480.

(4)أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العبادة، ح1.

المصدر:مركز باء للدراسات

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الإثنين 28 مايو 2018 - 14:08 بتوقيت مكة