آية الله الشهيد الشيخ نمر باقر النمر
الحمد لله الذي كتب الصيام على المؤمنين رحمة ويسراً، والحمد لله الذي أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى، والحمد لله الذي فتح لعباده باب التوبة مغفرة للذنوب وتطهيراً من العيوب، والصلاة والسلام على سيد خلقه محمد وآله بعدد من صلى عليه من بدء الخليقة إلى يوم الدين.
قال الله العظيم في محكم كتابه الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}البقرة: 183-185.
سأل أمير المؤمنين (ع) رسول الله (ص): "ما أفضل الأعمال في هذا الشهر" فقال: "أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله".
وقال أمير المؤمنين (ع): "الصوم اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب."
وقال الإمام الصادق (ع): "وأدنى ما يتم به فرض صومه العزيمة من قبل المؤمن على صومه بنية صادقة وترك الأكل والشرب والنكاح نهاراً وأما يحفظ في صومه جميع جوارحه كلها عن محارم الله متقرباً بذلك كله إليه فإذا فعل ذلك كان مؤدياً لفرضه".
وقال: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وفرجك ولسانك، وتغض بصرك عما لا يحل النظر إليه، والسمع عما لا يحل سماعه، واللسان من الكذب والفحش."
وقال : "الصوم جنة من آفات الدنيا وحجاب من عذاب الآخرة، فإذا صمت فأنو بصومك كف النفس عن الشهوات، وقطع الهمة عن خطوات الشياطين، وأنزل نفسك منزلة المرضى، وتوقع في كل ألحظه شفاؤك من مرض الذنوب، وطهر باطنك من كل كدر وغفلة وظلمة يقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله."
وقال الإمام الرضا (ع): "واعلم يرحمك الله أن الصوم حجاب ضربه الله عز وجل على الألسن والأسماع والأبصار وسائر الجوارح، لما له من عادة من سترة وطهارة تلك الحقيقة، حتى يستر به من النار، وقد جعل الله على كل جارحة حقاً للصيام، فمن أدى حقها كان صائماً ومن ترك شيئاً منها نقص من فضل صومه بحسب ما ترك منها".
وقال الرسول (ص): "من دخل عليه شهر رمضان فصام نهاره وأقام ورداً في ليله خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه".
وقال : "الصوم جنة ما لم يخرقها".
وقالت فاطمة (ع):"ما يصنع الصائم بصيامه ؟ إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه".
إن تشريع الصيام نعمة إلهية كبرى لإيقاف الإنسان عن الاسترسال في تيه الجهل وتخبط الضلالة، ولإخراجه من مستنقعات الفحش والرذيلة، ووحل العادات والتقاليد والأعراف البالية، وظلمات العصبية والحزبية والفئوية والإقليمية، ولإيصال الإنسان إلى رحاب التقوى، وبلوغ الأشد والاستواء، وارتقاء الرشد والعروج إلى ملكوت الله سبحانه وتعالى.
وشهر رمضان محطة تأمل، واستراحة تفكير، يتأمل الإنسان فيه ما مضى وما نتج، ويفكر في القادم والمستقبل.
وهو شهر التحول النوعي لغرس الصبر وبناء الإرادة، والإصلاح الجذري لترويض النفس وتطهير الروح، والتغيير الشامل للتفكير السليم والسلوك القويم، والتوبة النصوح لتجاوز الماضي والانطلاق للمستقبل.
وهو شهر صياغة شخصية الإنسان والمجتمع والأمة صياغة تتجاوز الماضي وترسباته، وتواكب الحاضر وحاجياته، وتعدّ للمستقبل ومتطلباته.
إخواني وأبنائي المؤمنين.. أخواتي وبناتي المؤمنات.. تعالوا جميعاً إلى ضيافة الله في شهره الفضيل، نسبح في نهره الزلال لكي نتطهر من أدران الحياة التي أحاطتنا بالذنوب والمعاصي، ولوثتنا بالفواحش والمنكرات.
تعالوا نخرج من الغفلة والافتخار، من التيه والاستكبار، من العناد والاستهتار، من الفوضى والضلال.
تعالوا نزكي نفوسنا ونروضها، ونجلي قلوبنا ونطهرها، لتتسامى أرواحنا وترتقي إلى معالي الدرجات، وتصطبغ بفعل الخيرات.
إخواني وأبنائي الصالحين.. أخواتي وبناتي الصالحات.. تعالوا جميعاً نحلق في هذا الشهر الفضيل حول مائدة السماء، نستطعم القيم الرسالية، ونستلهم المعارف الإلهية، ونرتشف المبادئ السماوية، ونستوحي الأفكار الربانية، ونستخلص الرؤى الثاقبة، ونتخذ المواقف الرشيدة.
تعالوا نستضيء بنور العقل، ونسترشد بهدى الوحي، ونتجنب خداع الهوى وإغراء الشهوات، ونفك إصر الجبت وأغلال الطاغوت ونتخلص من وساوس شياطين الجن والإنس، ونتحرر من عبودية الأهواء والشهوات.
إخواني وأبنائي الصادقين.. أخواتي وبناتي الصادقات.. تعالوا جميعاً ندون أسماءنا في ديوان السعداء الذين غفرت ذنوبهم، وأعتقوا من النار، عبر البرنامج التالي:
• أولاً: قراءة الآيات والروايات التي توجت بها بياني قراءة متأنية، نتأمل كلماتها ونتدبر معانيها ونفهم مغازيها لكي نسمو إلى مدارج المعرفة.
• ثانياً: الثقة بالنفس والقدرات الذاتية التي أنعم الله بها علينا من إرادة وعزيمة للسعي والعمل والتطبيق، وصبر وتجلد واستقامة في الطريق.
• ثالثاً: الالتزام والعمل بما جاء فيها لنتجنب المنكرات والمحارم، ونتورع عن كل محرم، وذلك من خلال السيطرة على الجوارح، وحفظها من كل دنس.
فحفظ اليد بترك البطش أو الضرب أو العمل الحرام.
وحفظ اللسان بترك الغيبة والنميمة وكلام الفحش والسباب والشتائم والألفاظ النابية التي تعبر عن جهالة الإنسان وتخلفه وانحطاطه.
وحفظ البطن بعفة عن الأكل أو الشرب الحرام.
وحفظ السمع بترك ملا يحل الاستماع إليه كالغيبة والأغاني وما يردده أهل الباطل والمجون من كلمات فحش وإغواء.
وحفظ العين بترك ما لا يحل النظر إليه كعورات الناس وأعراضهم.
إن النظر المحرم سهم من سهام إبليس يصطاد به فريسته التي استسلمت لشهوة العين فيصيب قلب الفريسة ويطرحها أرضاً للفساد.
كل ذلك لأن العين هي اقل الجوارح شكراً لربها كما قال أمير المؤمنين:"ليس في البدن شيء أقل شكراً على ضرورة حفظ من العين فلا تعطوها سؤلها فتشغلكم عن ذكر الله» ولذلك يؤكد الله العين والفرج {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا * فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} النور: 30-31.
إن صوم القلب والجوارح هو الذي يحقق جميع أهداف الصيام ويصون الإنسان في الدنيا، ويقيه في الآخرة. وهذا الصوم الحقيقي يحتاج إلى شجاعة وإرادة وعزيمة للقيام بالتالي:
أولاً: الإعراض عن الجاهلين الذين يلاحقونا عبر شاشة الفضائيات الماجنة الضالة والمضلة التي تستعرض الأجساد واللحوم البشرية، وتغيب العقول بمسلسلاتها وتمثيلياتها التي لا توجد أدنى شبهة في حرمتها وحرمة مشاهدتها.
إن إغلاق التلفاز، وفصل شبكة الإخطبوط- الانترنت- وترك مجالس البطالين واللهو لهي الخطوة الأولى لعدم إتباع خطوات الشيطان، وبالتالي العودة إلى الله ورحمته ورضوانه.
ثانياً: التواجد في مجالس الذكر مثل القراءات الحسينية والندوات الرسالية والجلسات القرآنية والدروس الدينية والمحاضرات الربانية.
ثالثاً: الالتزام بصلاة الجمعة والجماعة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
رابعاً: الاستيقاظ نهاراً والنوم ليلاً مع التهجد في آخر الليل.
خامساً: ملازمة العلماء الربانيين الصادقين وحضور مجالسهم.
هذا شطرٌ مما أكد عليه دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام لأبي حمزة الثمالي حيث يقول :"مالي كلما صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي... لعلك رأيتني مستخفاً بحقك فأقصيتني... أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني... أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني".
وآخر دعوانا دعاء الإمام زين العابدين: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَ أَلْهِمْنَا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ -شهر رمضان- وَإِجْلَالَ حُرْمَتِهِ، وَالتَّحَفُّظَ مِمَّا حَظَرْتَ فِيهِ، وَأَعِنَّا عَلَى صِيَامِهِ بِكَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيكَ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ بِمَا يُرْضِيكَ حَتَّى لَا نُصْغِيَ بِأَسْمَاعِنَا إِلَى لَغْوٍ، وَلَا نُسْرِعَ بِأَبْصَارِنَا إِلَى لَهْوٍ وَحَتَّى لَا نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إِلَى مَحْظُورٍ، وَلَا نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إِلَى مَحْجُورٍ، وَحَتَّى لَا تَعِيَ بُطُونُنَا إِلَّا مَا أَحْلَلْتَ، وَلَا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنَا إِلَّا بِمَا مَثَّلْتَ، وَلَا نَتَكَلَّفَ إِلَّا مَا يُدْنِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَلَا نَتَعَاطَى إِلَّا الَّذِي يَقِي مِنْ عِقَابِكَ، ثُمَّ خَلِّصْ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِئَاءِ الْمُرَاءِينَ، وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعِينَ، لَا نُشْرِكُ فِيهِ أَحَداً دُونَكَ، وَلَا نَبْتَغِي فِيهِ مُرَاداً سِوَاكَ".
"إِلَهِي إِنْ كَانَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ تَوْبَةٌ فَإِنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ النَّادِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِغْفَارُ مِنَ الْخَطِيئَةِ حِطَّةً فَإِنِّي لَكَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ... إِلَهِي أَنْتَ الَّذِي فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَاباً إِلَى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، فَقُلْتَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، فَمَا عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ الْبَابِ بَعْدَ فَتْحِهِ ... إِلَهِي مَا أَنَا بِأَوَّلِ مَنْ عَصَاكَ فَتُبْتَ عَلَيْهِ، وَتَعَرَّضَ لِمَعْرُوفِكَ فَجُدْتَ عَلَيْهِ ... فَاسْتَجِبْ دُعَائِي، وَلَا تُخَيِّبْ فِيكَ رَجَائِي، وَتَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَكَفِّرْ خَطِيئَتِي؛ بِمَنِّكَ وَرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ."
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.