علياء الأنصاري
قلب الأم هو الذي يفيض بالعطاء دون كلل، ويحب دون ملل، ويضحي دون تعب.
فالأم التي تضحي بكل ما تملك لأجل ولدها، وتحارب الدنيا بما فيها لأجل سعادته وهنائه.. كيف لها أن تضحي بوليدها الصغير، رضيعها... لترميه في اليم؟!!
تذهلني تلك القصة كثيراً.. وتدفعني إلى التأمل في نصها القرآني البليغ، وأتساءل دوماً: كيف استطاعت أم موسى أن تفعل ذلك؟! أن ترمي ابنها الحديث الولادة إلى مصير مجهول.. يكتنفه الخطر، ويحدوه الموت؟!!
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ* وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ* فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. (القصص/ 7 – 13).
هذا المشهد التصويري الرائع لتلك القصة التأريخية، يجعلني أحني هامتي احتراماً وإجلالاً وحبّاً لتلك المرأة العظيمة والأم الكبيرة (أم موسى)..
كل ما هنالك، أن الإلهام قد جاءها.. كما يمكن أن يأتي لأي واحد منا (ذلك الصوت الخفي الذي ما برح يرافقنا كل يوم)، ولكن أم موسى آمنت بذلك الصوت، آمنت بذلك الإلهام، لانها كانت مؤمنة بالله حقّ الإيمان، كانت من أولياء الله الصالحين، فأدركت أن هذا هو صوت الله.. آمنت به وبوعده (لا تخافي / لا تحزني.. إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين).. وهكذا، حملت الأم النفساء وليدها الصغير بعد أن أرضعته لترميه في اليم، بعيداً من بطش فرعون وجنوده، فإذا به ينتهي إلى أحضان زوج فرعون.. {ذلكَ وعدُ اللهِ ومَن أصدقُ مِنَ الله قيلاً}.
لا أريد أن استغرق في وصف تفاصيل القصة، فهي معروفة.. ولكني أريد أن ألقي الضوء على فكرة مهمة في هذه القصة، وهي: عندما صدّقت أم موسى بوعد الله {رادّوه إليك}، لم تعد تبالي بالنتائج، لم يعتريها الخوف والقلق، لم تجزع. فقط ربط الإيمان على قلبها، فكانت شجاعة صابرة منتظرة وعد ربها.
لم يخرجها الخوف على وليدها من طورها ومن حالة الاتزان والاطمئنان.. كانت واثقةً بأن موسى سيعود إليها (لأن الله وعدها بذلك)، وهذه الثقة هي التي جعلتها صابرة وقوية وواعية لما تفعل.. {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}، لم تجلس ساكنة، بل أخذت تخطط لمعرفة مصير ولدها، أي هي لم تتكاسل عن التخطيط والعمل، لأن الله وعدها بأن يرجع إليها ولدها، هي آمنت بوعد الله، ولكن إيمانها هذا لم يجعلها جليسة الدّار تتنظر حدوث معجزة.
إيمانها بوعد الله، جعلها تخطّط وتفكر كيف تستردّ ولدها، فأرسلت أخته لتتقصى آثاره، وترى إلى أين سيسير التابوت بفلذة كبدها.
وهكذا استطاعت أخت موسى الذكية أن تجد سبيلاً لكي تعيد موسى إلى أمه {هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون}.
وهكذا، عاد موسى إلى أمه، لكي تقرّ عينها ولا تحزن.. وتعلم أن وعد الله حق.
أم موسى علمت وأدركت أن وعد الله حق.
ولكن... أكثرهم لا يعلمون.
نعم، أكثرنا لا يعلم ذلك.
نقول بأننا نؤمن بالله، ولكنّ واقعنا وسلوكنا العملي يناقض هذا الإيمان!
أم موسى آمنت بأن الله سيصدق وعده ويحفظ لها إبنها، فتوكلت عليه ووثقت به واطمأن قلبها بقضاء الله.
نحن نؤمن بأن الله رازق العباد، وهو الذي بيده الرزق، يرزق من يشاء بغير حساب، وقد وضع جملة من الآليات والأسباب التي لو تمسكنا بها، لجاءنا الرزق من بين أيدينا ومن خلفنا، ولكن.. يعتلينا القلق دوماً، نضطرب لأبسط الأسباب، ربما ننافق، نهادن، نكذب، نزوّر الحقائق، ندوس على مبادئنا، وربما حتى نمارس الرذيلة لكي يأتينا الرزق!!
نخاف على الوظيفة، فننافق ونداهن وربما نرتكب الآثام كي نحافظ عليها (ونحن نؤمن برازقية الله).
نجري ليلاً ونهاراً وراء المال والثروة، وقد ننسى في زحمة هذا الجري، أهلنا.. أولادنا.. مبادئنا.. صحتنا.. مجتمعنا.. قيمنا.. ثم نقول: الرزق بيد الله!
نقرأ دوماً في كتاب الله: {إن تنصروا الله ينصركم}، وعد إلهي لا يمكن أن يخلفه الله تعالى.. فيا ترى، كم مرة نصرنا الله فيها، ونصرنا دينه؟! لكي نتساءل دوماً: لماذا لا ينصرنا الله ويفتح علينا؟ لماذا نحن ضعفاء يسيطر علينا الآخرون دوماً؟!
ونقرأ أيضاً: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}، هذا وعد إلهي للمتقين.. أن يكون معهم دوماً. فيا ترى ماهو مقدار التقوى في دواخلنا؟ لنتساءل: لماذا حياتنا مليئة بالمشاكل ومحاصرة بالعقد الصعب حلها؟
ننتظر من الله أن يفي بوعوده، وننسى أنفسنا؟!
تنقصنا الثقة بالله تعالى.. تلك الثقة التي تجعلنا نؤمن بوعده إيماناً عميقاً لا خوف معه ولا قلق ولا توتر.
نحتاج إلى ثقة (أم موسى).. كي نتمكّن من رمي أعزّ ما لدينا في اليم.. ونحن مطمئنون بأن الله سيعيده إلينا.. كي لا نحزن!!
هذا ما نحتاجه، ولكن أكثرنا لا يعلم!
المصدر: موقع بينات