مجتبى السادة
يتفق علماء الإمامية على غيبة الإمام المهدي (غيبة عنوان) ويعتقدون بأنه لا زال حياً حتى يأذن الله له بالظهور .. وهنا تثار كثير من الأسئلة والإشكالات حول هذا الموضوع مثل : اليوم وهو غائب ماذا ينفعكم؟ إذا كان وجود الإمام ضرورة عقلية دينية ، فكيف تفسرون غيبته عن الناس؟ وهل ينتفع منه في غيبته؟ .. وغيرها من الأسئلة؟!!.
في البدء لابد أن نوضح بأن الغيبة ظاهرة عامة وليست خاصة بالمهدي ، فالقرآن الكريم يثبت أن الغيبة متكررة في التاريخ ، فحدث أن غاب بعض الأنبياء عن قومهم فترات من الزمن وإن اختلفت مدتها ، فمثلا : غيبة نبي الله موسى (ع) كانت قصيرة ، ولكن غيبة نبي الله عيسى (ع) عن قومه طويلة جداً ، بل غاب عن البشرية كلها ، وقد مّر على غيبته حتى الآن الفي عام ، وهناك غيبتان لنبي الله ابراهيم (ع) وهي شبيهه بغيبة المهدي ، ويخبر القرآن كذلك عن غيبة أهل الكهف (309 سنة) ، وغير ذلك من الأنبياء كيونس (ع) ويوسف (ع) و و و و ... فغيبة المهدي لها نظائر في الأمم السابقة ، فالغيبة إذن ظاهرة عامة ، والسؤال عن علة الغيبة وسببها وفائدتها ، يكون سؤالاً عاماً أيضاً ، لماذا غاب عيسى؟ مافائدة نبي يعيش بعيداً عن قومه؟ ولماذا غاب أهل الكهف؟ ولماذا غاب الإمام المهدي أيضاً؟.
كما وضحنا سابقاً ، أن غيبة المهدي (ع) هي غيبة عنوان ، فإن الإمام حاضرٌ معنا ، غاية الأمر أننا لا نعرفه فقط ، فهو ليس بعيد عن الأمة وشؤونها ، بل هو يعيش مع الناس ، يشاركهم في حياتهم ويسمعهم ويراهم ويرونه ، ويتحسس مشاكلهم والآمهم ، إلا ان الناس لا تعرفه بعنوانه الحقيقي (المهدي) ، وخير مثال على ذلك نبي الله يوسف (ع) فقد تعامل مع إخوته في مصر ومع ذلك لم يعرفونه ، فانقطاع صلتنا بالإمام بحكم الغيبة لا يعني انقطاع صلته بنا .. فالقرآن يعرّفنا أن الولي ربما يكون غائباً ، ولكنه مع ذلك لا يعيش في غفلة عن أمته ، بل يتصرف في مصالحها ويرعى شؤونها ، من دون أن يعرفه الناس ، كما هو ثابت عن الخضر {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا}(1)
إن الإمامية تؤمن وتعتقد بأن الإمام المهدي(ع) موجود وغائب بناء على الأدلة العقلية ، مثل أي أصل اعتقادي عند الشيعة ، فالأساس فيه هو العقل الحاكم بضرورة وجود الإمام المعصوم في كل عصر من قبل الله تعالى على لسان النبي (ص) ، بالإضافة للأدلة النقلية من القرآن الكريم والسنة الشريفة التي تؤكد على استمرار الإمامة والخلافة وعدم انقطاعها ، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}(2)، وتمسكاً بأحاديث الرسول (ص) وأهل بيته (ع) التي صدرت منهم قبل وقوع الغيبة ، بل قبل ولادة المهدي (ع) بأكثر من مائتين سنة.
من الحقائق التي يجب أن لا نغفل عنها ، أن إيماننا بالمهدي لا يرتبط بأنفسنا وبمزاجنا ، بحيث لو أحببنا: نؤمن به ونصدق القضية ، أو عندما لا نحب: نرفض القضية ، ليس هكذا القضية المهدوية ، بل الثابت أن إيماننا بالمهدي بناءً على الأدلة والبراهين الحقة ، وحسب العقل والعلم ، وهذا خضوع وتسليم لإرادة الله سبحانه وتعالى ، فالأمر كما شاء الله لا كما يشاء خلقه.
إن الله قدّر للمهدي أن يكون أحد الأئمة الإثني عشر ، وقدّر بحكمته أن يكون آخرهم ، وأن يكون منقذ البشرية ، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، وهو الذي يظهر الإسلام على الدين كله - وكوعد قاطع(3)- ونحن كمسلِّمُون لإرادة الله لا يسعنا إلا أن نؤمن بأن عدد الأئمة قد اكتمل ، وأنهم لا يفترقون عن القرآن ، وهكذا لا يمكننا إلاّ أن نقر بوجود الثاني عشر وغيبته وظهوره بعد غيبته ، وأن هذا الظهور قطعاً يكون بعد الغيبة لأنه لم يكن له ظهور قبل ذلك ، وذلك استمراراً للإمامة الإلهية ، ومنجزاً ما وعد الله به خلقه ونبيه ..
إن غيبة المهدي وظهوره قدّره الله سبحانه وتعالى ، وأنه اللطيف الخبير يفعل ما يشاء ولكنه لا يفعل إلاّ لحكمة ، ونحن لا نتدخل في حكمة الله ، فمن المؤكد أن الإنسان أقصر ذهنياً من أن يحيط بحكم الخالق العظيم في تصرفاته وشؤونه .. إذاً لابدّ لنا أن نلتزم بفائدة غيبته ، وإن كنا لا نعرف وجه الحكمة منها ، وكما قال الإمام الصادق (ع):" إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره ، ثم قال: إن هذا الأمر أمر من أمر الله ، وسر من سر الله ، وغيب من غيب الله ، ومتى علمنا إنه عز وجل حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة ، وإن كان وجهها غير منكشف"(4)
الفائدة من الإمام في زمن الغيبة الكبرى:
من الضروري أن نشير ، أن الفائدة من الإمام لا تتوقف أو تنحصر في حال ظهوره فقط ، بل هناك فوائد جمة حتى في حال غيابه واحتجابه عن الناس ، فالروايات الشريفة تشبه الفائدة من الإمام في غيبته بالشمس إذا سترها السحاب ، فالشمس تصل فوائدها من دفئ ونور وغير ذلك وإن جللها السحاب ، كذلك الإمام وإن كان غائباً فإن له فوائد ، فعدم علمنا بوجود الفوائد لا يدل على عدمها .. لنستقرئ الأدلة النقلية والعقلية ونستشف بعض من فوائد غيبته:
- وجوده أمان لأهل الأرض: لولا وجوده (ع) لساخت الأرض بأهلها ، وبسببه يدفع البلاء عن المسلمين ، قال رسول الله (ص): " أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض."(5) ، قال تعالى :{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}(6) .. إن مجرد وجوده (عج) هو سبب لبقاء البشر على الأرض ، فهو قلب العالم الإنساني ، ومن هذه الأدلة نلمس لوجود الإمام أثراً تكوينياً ، ولولاه (ع) لانعدمت الحياة ، ولا فرق هنا بين ظهوره وغيابه ، فهو كالشمس ودورها في استمرار الحياة على الأرض.
2-واسطة الفيض الإلهي: إن فيوضات الله تعالى لا تنزل على الأرض وأهلها إلاّ بواسطة ، وليس هناك شخص في هذا الزمان أهلٌ لها غيره (ع) ، فإن الإمام مركز للأمور الكونية وتنجيز المقدّرات التكوينية التي تقدّر للخلق في ليلة القدر ، ففيها تتنزل الملائكة والروح على الإمام ، ولولاه لما تم هذا التنزيل ، قال تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}(7) ، فالإمام (ع) مهبط الملائكة ، وواسطة وصول النعم الإلهية إلى عباد الله ، هذا شأن من شؤون الإمام - حتى مع غيبته واحتجابه عن الناس - لابد من وجوده لتنجيز المقدرات الإلهية بواسطته ، ووصول الفيض إلى خلقه.
3-له مقام الشاهدية على الخلق: الإمام (ع) يُعدُ شاهداً على أعمال العباد كما قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(8)، فالجزاء والحساب يوم القيامة يكون على الأعمال المشهودة ، وهذا الشاهد في زماننا الحالي هو إمام الزمان وهو الحجة على الخلق ، فالإمامة استمرار للنبوة ، ووجوده (ع) في عصرنا الحاضر كوجود رسول الله (ص) في زمانه ، فلابد من وجوده لأجل شاهديته ، غائباً كان أو حاضراً.
4-فوائد عديدة على وجوده الشريف: فالاستفادة من الإمام (ع) غير متوقفة على ظهوره ، فوجوده يبعث على طمأنة النفوس واستقرارها وتقوية عزيمة المؤمنين ، فهو أمان الله في البلاد والملجأ والمفزع للعباد يلجؤ اليه في الشدة والرخاء ، فالأمل بظهور الإمام يخلق التفاؤل والإيجابية ويبعث على العمل .. علاقة الإمام (ع) مع الأمة ومع قاعدته الشعبية كبيرة وعظيمة ، فمن مهامه (ع) أن يصون الشريعة ويحافظ على الإسلام ، ويسدد ويصوّب حركة الشيعة ويرعى أمورهم ويشفق عليهم ، والوجدان خير دليل ويغني عن البيان.
5-واجبات الإمامة لا تتعارض مع الغيبة: مجرد وجوده يدخل ضمن دائرة واجبات الإمامة ، حيث أن معرفة الإمام - بغض النظر عن حضوره أو غيبته - تنقذ المكلفين من موتة الجاهلية ، وعدم معرفته تدخل الأفراد ضمن دائرة الجاهلية ، فإذن وجوده ومعرفته يدخل ضمن تكاليف العباد ، قال رسول الله (ص): "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية".
وعلى أي حال ، فغيبة الإمام المهدي (ع) حكمة بالغة وحقيقة حكيمة ، حتى إذا لم نعرف حكمتها ، وقد قال (عج) عن الفائدة من غيبته : "وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي ، فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبتها عن الأبصار السحاب ، وإني لأمان لأهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء"(9) ، فمنكر وجوده في غيبته كمنكر وجود الشمس خلف السحاب.
الهوامش :
1- سورة الكهف : آية 65.
2- سورة البقرة : آية 30.
3-- سورة النور : آية 55.
4- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق ، باب 44 ص 438.
5-مستدرك الصحيحين 3/458 ، كنز العمال 6/116.
6- سورة الانفال ، آية 33.
7- سورة القدر : آية 4.
8- سورة البقرة : آية 143.
9- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق ، باب 45 ص 441.
المصدر: رؤى مهدوية