د. يوسف مَدَن
تحدّثنا في الأعداد السابقة عن المعنى العامّ لمصطلح "مبادئ تنظيم السلوك"، وذكرنا خصائص قيم السلوك في الدعاء ووحدتها كمنظومة في توجيه السلوك. وسنحاول في طيّ هذا المبحث استكمال الحديث عن المبادئ ذاتها بقدر من الإيجاز.
وبمقتضى ذلك، يمكن البدء بتقسيم هذه المبادئ إلى مجموعات ثلاث ذات صلة في التركيبة اللفظيّة لنصّ هذا الدعاء الكريم.
*تقسيم المبادئ
تمثّل المبادئ كتلة تنظيمية موحّدة تعمل على ضبط السلوك وتنظيمه في اتّجاه واحد، فتحقّق للأفراد والجماعات أهدافهم في بلوغ ما يريدون تحقيقه من رضىً إلهيّ، وتوافق شخصيّ واجتماعيّ، وصحّة نفسيّة في دوائر متعدّدة تصبّ خيرها في مصلحة "المنتظرين" وصمودهم وصبرهم.
وتتنوّع هذه المبادئ بحسب نوع العلاقة: مبادئ عقائدية (مع الله)، سنمرّ عليها في سياق البحث، ومبادئ سيكولوجيّة - سلوكيّة تنظّم عمل الذات مع سلوكها، ومع الإنسان الآخر ومع عالم الأشياء والظواهر الماديّة الخارجيّة، ولكنها في نهاية الأمر تشترك في خصائص موحّدة، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك.
أولاً: المبادئ السيكولوجيّة - السلوكيّة:
يمكن تحديد هذه المبادئ بما يأتي:
1 - مبدأ البحث عن اللذّة وتجنّب الألم: جعل الله سبحانه في التركيبة النفسيّة لعباده ميلاً فطريّاً للبحث عن كلّ شيء يجلب لهم (لذّة) مشروعة وغير مشروعة، وعن كلّ ما يريحهم، ويترك لهم في حياتهم أثراً طيباً، ومقابل ذلك يسعى الأفراد إلى تجنّب كلّ ما يؤلمهم ويسبّب لهم المتاعب.
ونجد في التراث التربويّ عند الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف إشاراته الشاهدة على هذا المبدأ في دعاء الافتتاح وفي غيره.
أ- البحث عن اللذّة: ففي دعاء الافتتاح يذكر عليه السلام في أكثر من موضع ما يشير لرغبة العباد في البحث عن (لذّاتهم)، وما يريحهم، سواء في المجال الماديّ أو المعنويّ، فقوله عليه السلام على سبيل المثال في إحدى عبارات الدعاء: "الحمد لله بجميع محامده كلّها على جميع نِعَمه كلّها"(1) مصداق إيجابيّ لمبدأ البحث عن اللذّة، وعن توافر النعم وتحصيلها بشقّيها الماديّ والمعنويّ على حدّ سواء. وتوحي العبارة كذلك برضا الإمام عن نِعم الله التي هي مجموعة من "اللذّات"المتنوعة، وهذا الرضا مصحوب عادة بـ"لذّة" نفسيّة، إيجابيّة ومريحة يبحث عنها الإنسان ويأنس بتوفيرها.
وتستبطن العبارة المذكورة أيضاً طلب الحصول على النعم، لسدّ حاجات الإنسان المتنوّعة، فإذا تحقّق الإشباع حصلت النفس على إثابة مقبولة تريحه، وتحقّق في داخله حالة من الرضا والارتياح.
وعدَّد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بعض اللذّات التي ذكرها مجملاً مخاطباً الله سبحانه: "ويُعَظّم عليَّ النعمة فلا أجازيه، وكم من موهبة هنيئة قد أعطاني، وبهجة مُونقة قد أراني"(2)، وقابل ذلك كفّ الأذى عن عباده حينما قال: "وعظيمة مَخُوفةِ قد كفاني"(3). فهذه الجمل تحدّثت عن لذّة تصاحبها، كالعادة، مشاعر ارتياح ورضا وأثر طيّب، تحقّق إشباعاً لبعض حاجاته، وفي مقابل ذلك عبرت جملة "وعظيمة مَخُوفةِ قد كفاني" عن الشقّ الثاني من هذا المبدأ وهو (تجنّب الألم)، فالله سبحانه كفاهم وقوعهم في خوف عظيم، كما تفيد الجملة السابقة، وكذلك تصبّ في هذا المنحى "ويستر عليَّ كلّ عورة، وأنا أعصيه".
ويتجاوز الدعاء الصيغة الفردية إلى صيغة جماعيّة، في نطاق مؤسّسة سياسيّة كبرى ينتظر المؤمنون قيامها مستقبلاً، فيتحدّث عن الدولة كمؤسسة مستقبلية تحقّق لنا في قابل الأيام "إشباعاً حلالاً ومشروعاً لما نسعى إليه من لذّات متنوعة"، ونتجنب بواسطتها هيمنة "الألم" علينا، كقهر الآخرين للمنتظرين أو تخفيف غلوائه عنهم، يقول الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في هذا الشأن: "إنَّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله"(4).
فهذه الجملة المباركة التي تستثير الأمل في نفوس المنتظرين، تنطوي على أكثر من طلب للذّات التي يبحث الإنسان فطرياً عنها، كـ(طلب العزة، والكرامة، والانتصار على العدوّ، والتماسك الاجتماعيّ). ثمّ تتوزّع رغبات العباد المنتظرين في الحصول على لذات مختلفة تحت مظلّة كيان الدولة العالميّة المرتقبة، ونلمس ذلك في قول الدعاء عن الإمام المهديّ والحقّ الذي يحمله معه "اللهم المم به شعثنا... وأذهب به غيظ قلوبنا".
ب- تجنُّب الألم: وعدّد المقطع اللفظيّ كذلك (مشكلات الفقر والنقص والتفرّق، وقلّة العدد، والأسر، وضيق صدورنا، وغيظ قلوبنا) كآلام يرغب المرء سيكولوجياً في تجنّبها، ودفع ضررها عنه كي يحقق قدراً معقولاً من الرضا الإلهي، ومستوىً طبيعياً من التوافق النفسيّ والاجتماعيّ والصحة النفسيّة طالب به دعاء الافتتاح. وتستوقفنا في مدخل هذا الدعاء فقرة أخرى تعبّر عن هذا المبدأ بطريقة ما يعرف عند علماء المدرسة السلوكية بـ"التدعيم السلبيّ"، يقول نصّ الفقرة:
"اسمع يا سميع مدحتي، وأجب يا رحيم دعوتي، وأقِلْ يا غفور عثرتي (أي ارفع زلتي وخطأي)، فكم يا إلهي من كربة قد فرَّجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد أقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة بــلاء قد فككتها"(5)، إذ تحقّق الارتياح النفسيّ، والبحث عن اللّذة بمجرد "رفع الألم" أو تخفيفه، فطلب العباد لنعم الله وعفوه عن ذنوبهم، وارتياحهم من تفريج همومهم وثقلها، وكشف كرباتهم، ونشر الرحمة الإلهيّة عليهم، هي في حقيقتها مظاهر صادقة تعبّر عن رغبات طبيعيّة لدى الإنسان للبحث عن كلّ ما يجلب للناس اللذة والراحة.
قال الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف لله سبحانه كمن يصف حاله الشريف وأحوالنا: "فصرتُ أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً، لا خائفاً، ولا وجـلاً"(6). وبتأمّل عابر لا يحتاج لحذلقة نلحظ أن توافر الأمن والأنس معاً هو أيضاً بمثابة حصول على لذّة واقعيّة مريحة تحقّق الرضا الداخليّ لدى الفرد، أو هما على أقلّ تقدير "أمل إيجابيّ" للحصول على لذّة معنوية ممكنة تصاحب تحقّق الشعور بـ"الأمن والأنس" معاً في حياته.
الهوامش:
1.إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، ص327.
2.م.ن، ص329.
3.م.ن، ص329.
4.م.ن، ص330.
5.م.ن، ص327.
6.م.ن، ص328
يتبع...
المصدر: مجلة بقية الله
إقرأ أيضا: دعاء الإفتتاح للحجة المنتظر(عج)...ثروة معرفية و سيكولوجية