التسريع بنقل السفارة الأميركية وربطه بالاحتفال بالذكرى السبعين للنكبة جاء بمثابة "بالون اختبار" لرصد ردود الفعل العربية والدولية تمهيداً لإعلان هذه الصفقة، ومن المؤلم أن ردود الفعل كانت باهتة جدا في معظم الأراضي الفلسطينية باستثناء قطاع غزة الذي شهد مظاهرات حاشدة لأكثر من ستة أسابيع سقط خلالها أكثر من مئة شهيد، وإصابة أكثر من ثلاثة آلاف آخرين برصاص القناصة الإسرائيليين، والشي نفسه يقال عن معظم العواصم العربية والإسلامية.
وكالة أنباء "الأسوشيتدبرس" العالمية بًدأت "عملية التسريب" لتسويق هذه الصفقة عندما نشرت بالأمس تقريراً نقلاً عن خمسة مسؤولين أميركيين بارزين رفضت تسميتهم، قالت فيه أن الرئيس دونالد ترامب سيعلن عن تفاصيل هذه الصفقة بعد شهر رمضان الحالي، وهي الصفقة التي وضع خطوطها العريضة مع صهره جاريد كوشنر، ومبعوث أميركا لـ"السلام" في الشرق الأوسط جيسون غرينبلات، وبإشراف مباشر من قبل بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي.
الرد العربي الباهت، بل والمتواطئ، على نقل السفارة والمجزرة الإسرائيلية في غزة، يوحي بأن الدول العربية الرئيسية، وخاصة مصر والأردن ومعظم دول الخليج الفارسي ، على دراية بتفاصيل المخطط الأميركي القادم، فلم تدعو هذه الدول لعقد قمة عربية طارئة، وحضورها في القمة الإسلامية التي دعا إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان في أدنى مستوياته (باستثناء الأردن)، فمعظم دول الخليج الفارسي (باستثناء الكويت) تمثلت بوزراء خارجيتها، ولم تتجرأ أي دولة من تلك الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل (مصر والأردن) على استدعاء سفرائها أو طرد السفير الإسرائيلي من عاصمتها احتجاجاً، مثلما فعلت دول غير عربية، مثل تركيا وبوليفيا وجنوب أفريقيا وإيرلندا وبلجيكا، وهذا يوحي بالكثير، وبمفاجآت صادمة في الأشهر المقبلة.
***
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي استدعى السيد إسماعيل هنية إلى القاهرة، وأرسل له طائرة خاصة لنقله والوفد المرافق له، من مطار العريش، في محاولة من جانبه، وبطلب أميركي، لوقف مسيرات العودة، وتهدئة الأوضاع في القطاع، إلى جانب مناقشة مقترحات بهدنة لعشر سنوات، وبدأت بعض أوساط حركة "حماس" إطلاق تسريبات تفيد "باتفاق ما" يكسر الحصار عن قطاع غزة بات محتملاً.
أميركا، وحلفاؤها العرب في مصر والأردن ودول في الخليج الفارسي، ستتبع سياسة "العصا والجزرة" مع الفلسطينيين، أو بالأحرى، قيادتهم في الضفة والقطاع، "العصا" في وقف المساعدات المالية وتشديد الحصار، و"الجزرة" في وعود بإغراق الضفة والقطاع بالأموال العربية والغربية ثمناً للتنازل عن القدس وحق العودة، وعدم معارضة "الصفقة".
قرار الرئيس السيسي المفاجئ وغير المسبوق بفتح معبر رفح طوال شهر رمضان يأتي في إطار "اتفاق محتمل، للتهدئة، ووقف، أو تخفيف زخم مسيرات العودة، وامتصاص نقمة أهل القطاع وتحسين ظروفهم المعيشية، لأنهم الوحيدين، وبطلب من حماس، الذين ثاروا على المخطط الأميركي، وأفسدوا احتفالات نقل السفارة، وفضحوا الوجه الإسرائيلي الإرهابي البشع، ولكن الصورة ربما تتغير جذريا، إذا رفضت قيادة حركة "حماس" "الجزرة" الأميركية، المقدمة على طبق عربي وكل الاحتمالات واردة، لأن هناك تياراً قويا داخلها يرفع لواء المعارضة.
التفاصيل التي جرى تسريبها حتى الآن عن مضمون "صفقة القرن" تقول بتسمين قطاع غزة، وإضافة 720 كيلومترا من ارض سيناء على امتداد الساحل، وبما يشمل مدينة العريش والشيخ زويد، وإقامة ميناء ومطار، على أن تحصل مصر على المساحة نفسها من الأراضي الفلسطينية المحتلة في النقب، وفي المقابل سيتم إقامة مدينة "نيوم" على الحدود المصرية الأردنية السعودية واستثمار 500 مليار فيها لاستيعاب معظم العاطلين عن العمل، وضخ المزيد من الاستثمارات غير المباشرة في الاقتصاد المصري، أما الضفة الغربية فليس لها غير السلام الاقتصادي، وتحسين ظروف الحكم الذاتي.
العصا الأميركية الغليظة تتمثل في تجميد المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية في حال رفضها التعاون، وجرى حاليا تجميد 200 مليون دولار من ميزانية هذا العام، و65 مليون أخرى من ميزانية وكالة الأونروا، وقرار وقف جميع المساعدات الخليجية للأردن يصب في المحصلة نفسها للضغط عليه، والفلسطينيين على أرضه، بالقبول بالصفقة وإلا عليهم تحمل النتائج، وعملية التهميش للأردن ودوره بدأت وستتصاعد.
***
حملات "التكريه" المتصاعدة في بعض دول الخليج الفارسي وخاصة في السعودية بالشعب الفلسطيني، واتهامه ببيع أرضه، وتوظيف جيش إلكتروني وكتاب كبار من المقربين للنظام في إطار مخطط محكم يسير جنباً إلى جنب مع عملية تطبيع متعاظمة مع إسرائيل تعكس الدور الخليجي في محاولة تمرير هذه الصفقة، وما اعتقال خمسة نشطاء ونشيطات في السعودية أمس من المعروفين لمعارضتهم التطبيع إلا أول الغيث.
استهداف محور المقاومة، وقصف مواقع إيرانية في سوريا من قبل إسرائيل وطائراتها وصواريخها، وفرض عقوبات على السيد حسن نصر الله وتسعة من قيادات حزب الله، ووضع الحزب كله، بجناحيه السياسي والعسكري على قائمة الإرهاب، كلها إجراءات تصب في إطار الخطوات الأميركية لفرض صفقة القرن، واستغلال حالة الضعف العربية والإسلامية الراهنة، باعتبارها فرصة تاريخية لن تتكرر.
لا نستبعد إعلاناً إسرائيليا وشيكاً بالقبول بمبادرة السلام العربية، بعد تفريغها من أهم أركانها، أي حسم مستقبل القدس المحتلة وإخراجها من المعادلة، وإزالتها من مائدة أي مفاوضات قادمة، مثلما لا نستبعد زيارات متبادلة بين مسؤولين إسرائيليين وعرب من منطقة الخليج الفارسي بعد عيد الفطر المبارك.
الصيف العربي القادم قد يكون صيفاً تطبيعيا بامتياز، وقد يشهد إزاحة الستار عن تفاصيل الصفقة المسمومة.. اللهم إننا قد بلغنا.. واللهم فاشهد.
بقلم: عبد الباري عطوان