1- عظمة ليلة القدر
هي ليلة ذات مكانة عظيمة ومنزلة جليلة ويكفيك في عظمتها ما ذكرته سورة القدر:
1- {إنا أنزلناه في ليلة القدر}، فهي ليلة تنزّل القرآن فيها، والله تعالى عندما يختارها لإنزال القرآن فهذا دليل على فضلها وبركتها وقداستها،، سواءً أريد بهذا الإنزال، الإنزال الدفعي الكامل لكل حقائق القرآن ومعانيه على قلب الرسول (ص)، أو أريد به بدء نزول القرآن فيها.
2- {وما أدراك ما ليلة القدر}، فقد بلغت عظمتها حد أنّها أخفيت في بدء الأمرعلى رسول الله(ص) واختص الله بعلمها، ولذا يخاطب الله تعالى نبيه قائلاً: { وما أدراك ما ليلة القدر}.
3- {ليلة القدر خير من ألف شهر}، وألف شهر تزيد على ثمانين عاماً، فلنتصور أن ليلة واحدة تزيد في عظمتها وفضيلتها وبركتها وأجر العمل فيها على العمل في ثمانين عاماً، ما أجلّها وأعظمها من ليلة ! وهنيئاً لمن أدركها وأحياها بالعمل الصالح !
4- {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر}، فتنزل الملائكة والروح في هذه الليلة هو مؤشر على عظمتها، والمراد بالروح على ما قيل جبرائيل، وقيل: الوحي، قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}، وقيل - كما في روايات أهل البيت (ع) -: "الروح خلق عظيم هو أعظم من جبرائيل"[1].
5- {سلام هي حتى مطلع الفجر}، فهي مفعمة بالخير والبركة والأمن والسلام والمحبة، وربما كان ذلك بسسب تنزل الملائكة.
2- تعيين ليلة القدر
لا شك أن ليلة القدر هي إحدى ليالي شهر رمضان المبارك، لأنّا الله أخبرنا أنّه أنزل القرآن في شهر رمضان، قال تعالى:{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }، فعندما يقول في سورة القدر: { إنا أنزلناه في ليلة القدر}، يتضح أن ليلة القدر هي من ليالي شهر رمضان.
ولكن أي ليلة من ليالي شهر رمضان هي؟ هذا ما لم يصرح به القرآن الكريم، وبمراجعة السنة الشريفة، سنجد أنّ رواياتها قد اختلفت وتعددت في تعيين ليلة القدر:
1- فبعض الروايات تنصّ على أنّها في العشر الأواخر، فعن الامام علي (ع): سئل رسول الله (ص) عن ليلة القدر؟ فقال:التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان، فقد رأيتها ثمّ أنسيتها" [2].
2- وبعضها الآخر أكثر تحديداً، حيث تذكر أنها منحصرة في ليال ثلاثٍ، وهي الليلة التاسعة عشر، أو الواحدة والعشرون، أو الثالثة والعشرون، ففي الحديث: سألت أبا عبد الله (ع) عن ليلة القدر؟ قال: اطلبها في تسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين" [3 ].
3- وبعضها تضيّق الدائرة إلى ليليتن، ففي الحديث: قلت أبي عبد الله (ع) أخبرني عن ليلة القدر؟ فقال: هي ليلة إحدى وعشرين أو ليلة ثلاث وعشرين" [4]، وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر الباقر(ع): قال سألته عن ليلة القدر؟ قال: هي ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، قلت: أليس إنما هي ليلة ؟ قال: بلى، قلت: فأخبرني بها، قال: ما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين" [5]، وفي رواية أخرى عن الصادق (ع) وقد سئل عن ليلة القدر؟ فقال: في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، قال: فإن لم أقوى على كليهما، فقال(ع): "ما أيسر ليلتين فيما تطلب" [6]، إلى غيرها من الروايات [7].
4- وتذهب بعض الروايات إلى تعيينها في ليلة واحدة، وهي الثالثة والعشرون، ففي رواية نجد أنّ الإمام الصادق يذكر أنّ ليلة القدر الليالي هي إحدى الليالي الثلاثة المذكورة، فيسأله الراوي : "فإن أخذت إنساناً الفترةُ ( النعاس) أو علة ما المعتمد عليه من ذلك؟ فقال: ثلاث وعشرين" [8]، وعن الشيخ الصدوق :" اتفق مشائخنا على أنها ليلة ثلاث وعشرين"، وليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني، ففي الحديث عن زرارة عن أحدهما (ع): "قال: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني [9]، وحديثه أنّه قال لرسول الله (ص): إنّ منزلي ناء عن المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين" [10]، وهذا مرجح لكونها هي ليلة القدر، وحديث الجهني مروي من طرق أهل السنة أيضاً، كا نلاحظ في الدر المنثور، كما أنّ لديهم روايات عديدة تدعو لالتماس ليلة القدر في ليلة ثلاث وعشرين، ففي بعض رواياتهم عنه (ص) وقد سئل عن ليلة القدر قال:" تحروها ليلة ثلاث وعشرين" [11].
وفي تفسير آخر لتعدد الليالي تشير بعض الروايات إلى تدرج في التقدير، ففي الكافي باسناده عن زرارة قال : قال أبو عبدالله (ع): "التقدير في تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين" [12].
3- الحكمة في إخفائها
وقد تسأل: لماذا هذا التضارب بين الروايات في تحديد ليلة القدر؟
والجواب: إنه ليس من التضارب أو التعارض المعهود بين الروايات، بل إنّنا هنا أمام إخفاء متعمد ومقصود لهذه الليلة، وذلك لحكمة رائعة، وهي ما أشارت لها الرواية التالية المروية عن أمير المؤمنين(ع)، قيل لأمير المؤمنين (ع): "أخبرنا عن ليلة القدر؟ قال: أخلو من أن أكون أعلمها، ولست أشك أنّ الله إنما يسترها عنكم نظراً لكم، لأنّكم لو أعلمتموها عملتم فيها وتركتم غيرها وأرجو أن لا تخطئكم إنّ شاء الله"، وهذا من قبيل الحكمة في إخفاء الصلاة الوسطى، كما أخفيت ليهتم العبد بكل الصلوات، وكما أخفى الله تعالى علينا ساعة الموت لنكون على استعداد دائم لاستقباله، ولهذا كان الأئمة (ع) يقولون: " وما أيسر ليلتين فيما تطلب"، أو نحوها من التعابير التي تشجع على إحياء أكثر من ليلة.
4- لماذا تتكرر ليلة القدر في كل سنة؟
وهنا قد يواجهنا إشكال: وهو أنّ الله قد قدّر علينا مصيرنا وسعادتنا وشقاوتنا وصحتنا ومرضنا وغنانا وفقرنا قبل أن نولد أونأتي إلى هذه الدنيا، قال تعالى:{ما أصاب من مصيبة في الأرض وفي أنفسكم إلاّ في كتاب الله من قبل أن نبرأها إنّ ذلك على الله يسير} ( الحديد 22)، فإذا كانت الأمور والأحداث مكتوبة عند الله من قبل الخلق والإيجاد فما معنى تقدير الأمور في ليلة القدر؟!
والجواب: إنّ اعتقادنا أنّ كل شيء هو مسجل عند الله ومحصى في كتاب مبين قبل ليلة القدر وقبل أن يخلق الخلق،{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين}( الأنعام 59)، بيد ّأنّ هذه الأحداث المسجلة في هذا الكتاب المبين يتمّ تقديرها وإمضاؤها تباعا ًوفي كل عام، في ليلة القدر، فأن تكون هذه الأحداث معلومة عند الله منذ الأزل ومحصاة في كتاب فإنّ ذلك لا يتنافى مع كونها قد قدرت بعد ذلك تباعاً في ليالي القدر.
ولكن قد تسأل : لماذا لم يتم تقديرالأمور منذ أن تعلق علم الله بها في الأزل؟
والجواب: إنّ في ذلك حكمة بالغة، فحصول التقدير والقضاء في ليلة تتكرر في كل عام وتمثل موسماً سنوياً لغفران الذنوب واستجابة الدعاء هو مدعاة أن لا يحصل للإنسان اليأس من إمكانية تغيير حاله ومصيره نحو الأفضل، سواءً فيما يتصل بمرضه أو شقائه أو فقره أو انحرافه وضلاله .. فعندما يعرف العبد أنّ الله تعالى يقدر الأمور في كل عام في ليلة محددة وهي ليلة القدر، فهذا سيكون محفزاً ومحركاً للعبد نحو العمل وبذل الجهد والسعي والدعاء لله تعالى في تلك الليلة المباركة عسى أن يستجيب الله دعائه ويغير حاله إلى أحسن حال، كما إنّ ذلك سيشكل دافعاً للعبد ليحسِّن أموره ويستعد جيداً للتقدير الإلهي النازل في هذه الليلة الموعودة، لأنّ التقدير هو على حسب استعداد العبد وقابليته لتقبل الفيض الإلهي، باختصار: إذا كان العبد بانياً على أنّ مصيره وأموره سوف تقدر في كل سنة في ليلة معينة وهي ليلة القدر، فمن الطبيعي أن يتهيأ ويستعد لها، لأنها تمثل فرصته السنوية الوحيدة، وإذا فاته الاستعداد لها في هذه السنة، فيبقى لديه أمل أن لا يفوته التوفيق الإلهي "والحظ" في السنة اللاحقة، وهذا بخلاف ما لو كان العبد مسبوقاً بتصور أنّ الأمور قد قدرت وأبرمت قبل أن يخلق وأنّ كل شيء مقدر ومكتوب عليه منذ الأزل، فهذا سيفقده الحافز والمحرّك للتغيير، وربما تضعف همته عن العمل ويدفعه ذلك إلى اليأس من إمكانية تغيير ما هو عليه.
5- ليلة القدر مستمرة
إنّ قوله تعالى: {تنزّل الملائكة} يدل على استمرارها لأن المضارع يدل على المضي والاستمرار، وفي الحديث عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله : ليلة القدر شيء يكون على عهد الأنبياء ينزل فيها عليهم الأمر فإذا مضوا رفعت؟ قال: لا، بل هي إلى يوم القيامة" [13]، ولا شك أن استمرار ليلة القدرهو تعبيرجلي عن لطفه تعالى بعباده ورحمته الواسعة لهم وبهم، حيث شاء وأراد أن يبقي بابه مفتوحاً لداعيه وحجابه مرفوعاً لراجيه .
6- هكذا تكون خيراً من ألف شهر؟
لا شك أنّ هذه الليلة المباركة لا تمرّ على بعض الناس ممن لا يعرفون قدرها وعظمتها وقداستها ولا يهتمون بها ولا يحيونها بالعمل الصالح، بل إن بعض الناس يحييون هذه الليلة باللهو واللعب وربما يرتكبون فيها بعض المحرمات، فبالنسبة لهؤلاء لا تكون هذه الليلة سوى ليلة عادية لا يشموّن رحيقها ولا يتذوقون من رحقيها ولا يغترفون من معينها وبركتها شيئاً، فهؤلاء هم المحرمون حقاً، فعن أبي عبد الله (ع): قال له بعض أصحابنا ولا أعلمه إلاّ سعيد السمّان: كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟ قال: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر" [14].
وفي الحديث عن أبي جعفر الباقر(ع):: .. قال قلت: {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي شيء عنى بذلك؟ فقال: العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس منها ليلة القدر، ولولا ما يضاعف تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا ولكن الله يضاعف الحسنات" [15].
7- معنى القدر والتقدير
فسّر القدر في قوله تعالى:{ ليلة القدر} بأكثر من تفسير، ولكن أقرب التفاسير إلى الصواب هو أن القدر بمعنى التقدير، أو الهندسة كما جاء في بعض الروايات، ففي حديث أبي الحسن(ع) ليونس ( مولى علي بن يقطين): ".. أوتدري ما قدر ؟ قال: لا ، قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء.." [16]، فليلة القدر هي ليلة التقدير، حيث يقدر الله فيها حوادث السنة بأجمعها إلى العام المقبل في كل ما يتصل بالإنسان من حياة أو موت، من صحة أو مرض، من غنى أو فقر، إلى غير ذلك مما يتصل بالإنسان، {فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا ًمن عندنا}.
وفي الحديث أن عن بعض أصحاب الإمام الباقر(ع) "أنّه سأل أبا جعفر عن قول الله عز وجل: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} قال: نعم هي ليلة القدر، وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الآواخر فلم ينزل القرآن إلاّ في ليلة القدر، قال الله عز وجل: {فيها يفرق كل أمر حكيم} قال: يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير وشر، طاعة ومعصية، ومولود، وأجل، ورزق، فما قدّر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عز وجل فيه المشيئة.." [17].
قال الطبطبائي: وقوله: "ولله فيه المشيئة، يريد به إطلاق قدرته فله أن ينقص القضاء المحتوم وإن كان لا يشاء ذلك أبداً" [18].
تقدير، فقضاء، فإبرام
وقد جرت مشيئته تعالى على أن يكون إبرام الأمور وإنفاذها بشكل تدريجي تصاعدي، بحيث إنّه يقدر الأمر، ثم يقضيه، ثم يمضيه ويبرمه، وهذا ما دلّت عليه العديد من الروايات الواردة في بيان الحكمة من تعدد ليالي القدر، وقد ذكرنا حديثاً على هذا الصعيد، ويدل على ذلك أيضاً الحديث عن هشام بن سالم عن الإمام الصادق (ع): "إنّ الله إذا أراد شيئاً قدره، فإذا قدره قضاه، فإذا قضاه أمضاه" [19]. وهذا التدرج هو مؤشر على حكمته تعالى في خلق الأمور وتنظيمها، وعلينا أن تستفيد منه درساً في حياتنا ما نريد تصميمه وابتكاره، كما أنّ هذا الفاصل بين المشيئة والإمضاء فيه فائدة عظيمة لنا حيث إنّه يعطينا فرصة ويفتح لنا باب التوسل والدعاء إليه بأن يصرف عنا الأمور التي قد تكون في غير مصلحتنا قبل أن يمضيها ويبرمها.
8- الإيمان بالقدر
لا شك في ضرورة الإيمان بالقدر والقضاء، وهو منطلق من إيماننا بوحدانية الله تعالى، فالتوحيد الأفعالي والربوبي يحتّم علينا أن نؤمن بالقدر، وأنّ كل شيء مقدر ومدبر من قبل الله تعالى، فالله هو الفاعل وهو الخالق وهو المدبر والمقدر، {إنا خلقنا كل شيء بقدر}،فإيماننا بوحدانية الله تعالى وخالقيته لا يكتمل بغير الإيمان بالقدر، فالقدر هو نظام التوحيد، ففي الحديث عن رسول الله (ص): "القدر نظام التوحيد، فمن وحّد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى" [20].
وإنّ الإيمان بالقدر والقضاء له ثمار عديدة، من أهمها أنه ينبغي ويفترض أن يمنحنا شعوراً طيباً بالرضا بما قسم الله لنا وما قدر لنا، بمعنى أنّ ثمة عناية إلهية نظمت الأمور والمقادير، ولا تتحرك القضايا بفوضى، ولا تحدث الأمور عبثا ًدون قانون، وقد ورد عن علي (ع): "من أيقن بالقدر لم يكترث بما نابه" [21]، وفي الحديث عن رسول الله (ص): "الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن" [22]. وعن الصادق (ع): ".. ومن أيقن بالقدر لم يخشى إلا الله" [23].
9- القدر والجبر
ولكن الإيمان بالقدر لا ينبغي أن يفسر تفسيراً خاطئاً ملازماً للجبر، لأنّ ذلك يعني بطلان التكليف ويفقد الثواب والعقاب ميزانه الصحيح، ولا يبقى لأرسال الرسل أي معنى . ولا شك أنّ تفسير الاعتقاد بالقدر بما يوازي الجبر هو مخطط خبيث عمل عليه العقل السلطوي بهدف إخضاع الناس وتطويعهم لإرادة السلطة، وذلك بالاستناد إلى بعض المبررات التي يتم إلباسها لبوس دينياً، والأثر البديهي الذي يتركه هذا المفهوم المشوه للقدر هو أنّه سيبعث على التواني والتكاسل والتراجع وترك الأخذ بالأسباب اتكالاً على أنّه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وهو تفسير مرفوض، لأنّ نشعر بالوجدان أنّ الإنسان مختار في أفعاله ومواقفه.
إن هذا التفسير البديع للقدر بما يجعله منسجماً مع إرادة الإنسان وحريته في اختيار أفعاله وتغيير أموره، هو الموروث عن مدرسة أهل البيت(ع) والمعروف بنظرية الأمر بين الأمرين، وقد نقل ابن نباتة أنّ أمير المؤمنين(ع) عدل من حائط إلى حائط آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين (ع) تفر من قضاء الله؟! قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله " [24].
وفي ضوء هذا فإنّ القدر لا يتنافى مع العمل، ولا يتنافى مع التداوي، وقد سئل رسول الله (ص): "أرأيت دواءً تتداوى به ورقىً نسترقي بها وأشياء نفعلها هل ترد من قدر الله؟ قال: بل هي قدر الله"، وفي حديث آخر عنه (ص): "الدواء من القدر" [25].
ومن الأحاديث الرائعة المروية عن علي (ع) والتي يبيّن لنا فيها الخيط الرفيع بين "القضاء والقدر" وبين "الجبر" : ما رواه عنه (ع) غير واحد من المؤرخين أنه بعد منصرفه من صفين جاءه شيخ كبير وسأله عن مسيرهم إلى أهل الشام وقتالهم لهم أكان بقضاء الله وقدره أم لا، وإليك الرواية كما رواها الطبرسي في الاحتجاج، يقول: روي عن أمير أمير المؤمنين عليه السلام: أنه سأله رجل بعد انصرافه من الشام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أبقضاء وقدر؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: نعم يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من عند الله وقدر. فقال الرجل: عند الله أحتسب عنائي، والله ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال علي عليه السلام: بلى فقد عظم لك الأجر في مسيركم وأنتم ذاهبون، وعلى منصرفكم وأنتم منقلبون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، ولا إليه مضطرين. فقال الرجل: وكيف لا نكون مضطرين والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما كان مسيرنا؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لعلك أردت قضاءا لازماً، وقدراً حتماً ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله والنهي، وما كانت تأتي من الله لائمة لمذنب، ولا محمدة لمحسن، ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب، ولا المذنب أولى بعقوبة الذنب من المحسن، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهداء الزور والبهتان، وأهل العمي والطغيان، هم قدرية هذه الأمة وجوسها، إنّ الله تعالى أمر تخييراً، وكلف يسيرا، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً ولم يرسل الرسل هزلاً، ولم ينزل الرآن عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار ثم تلى عليهم: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} قال: فنهض الرجل مسروراً وهو يقول:
أنت الإمام الذي نرجو طاعته * يوم النشور من الرحمن رضواناً
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً * جزاك ربك عنا فيه إحساناً [26].
[1] المحاسن للبرقي ج2 ص315.
[2] بحار الأنوار ج 94 ص 10، وهذا الحديث مروي من طرق السنة انظر : صحيح البخاري ج2 ص255 .
[3] وسائل الشيعة ج 10 ص 361، الباب 32 من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث 21.
[4] المصدر نفسه الحديث 20 من الباب.
[5] المصدر نفسه الحديث 14 من الباب.
[6] من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 160.
[7] الوسائل ج10 ص 354 الحديث 1 من الباب.
[8] الوسائل، المصدر نفسه الحديث 8 من الباب.
[9] والجهني هو عبد الله بن أنس الأنصاري.
[10] من لا يحضره الفقيه ج2 ص 161.
[11] تهذيب الكمال للمزي ج13 ص 323.
[12] وسائل الشيعة ج 10 ص 254، الباب 32 من أبواب أحطام شهر رمضان الحديث 2).
[13] بحار الأنوار ج 25 ص 98.
[14] الكافي ج4 ص 157.
[15] المصدر نفسه.
[16] المحاسن للبرقي ج1 ص244.
[17] المصدر نفسه.
[18] تفسير الميزان ج20 ص 334
[19] المحاسن للبرقي ج1 ص 244، ونحوه خبر آخر عن أبي الحسن(ع)، انظر المصدر نفسه.
[20] مجمع الزوائد للهيثمي ج7 ص197.
[21] عيون الحكم والمواعظ ص 435.
[22] كنز العمال ج 1 ص 106.
[23] الكافي ج2 ص58.
[24] الاعتقادات للشخ الصدوق ص 35.
[25] كنز العمال ج10 ص5.
[26] الاحتجاج للشيخ الطبرسي ج1 ص310- 311.