ما لا تعرفه عن باطن الصيام و أسراره....!

الخميس 17 مايو 2018 - 22:24 بتوقيت مكة
ما لا تعرفه عن باطن الصيام و أسراره....!

على الإنسان أن لا يملأ بطنه طعاماً في غير شهر رمضان، حتى يحس بجوع الفقراء، أو في الأقل حتى لا ينسى أن هناك فقراء في العالم، فالله سبحانه يريد أن يساوي بين الجميع، ليطلع الأغنياء على جوع الفقراء...

لكل عبادة ظاهر وباطن، فالأحكام الواجبة والمستحبة تعين الشكل الظاهري لهذه العبادة، أما الإرادة والنية فهما يعينان باطن هذه العبادة، والقرآن الكريم يدعونا إلى ظاهر العبادة، ويعرفنا أسرار العبادات، ففي خصوص الصيام يعرفنا اصله وشهره وساعاته وبدايته وخاتمه، وكل خصوصيات هذا الشهر المبارك، (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، (البقرة: 185) فإذا شاهد أحد هلال شهر رمضان فعليه أن يصوم، ويقول في مكان آخر: (أتموا الصيام إلى الليل)، (البقرة: 187) فيكون الليل ختام الصوم، أما بدء الصيام فيقول: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)، (البقرة: 185 و 187) وأما سر الصيام فقال: (لعلكم تتقون) (البقرة: 183) (ولعلكم تشكرون)، (البقرة: 185) فالإنسان يصوم ليكون تقياً، وقد جعل الله التقوى مدار كرامة الإنسان، فأكثر الناس يصوم ليكون تقياً، وقد جعل الله التقوى مدار كرامة الإنسان، فأكثر الناس تقوى أكثرهم كرامة، إن باطن الصيام أن يصبح الإنسان مكرماً، و الكرامة من الأوصاف البارزة للملائكة، فالملائكة كرام، والكريم غير الكبير وغير العظيم وغير المحترم.

ليست الكرامة هي العظمة والكبرياء، بل هي صفة متميزة وبارزة، نريد أن نوضحها، فنجد أنفسنا مضطرين لاستخدام عدة كلمات لتأدية المعنى.

الكرامة مخصوصة بالملائكة، وفي القرآن الكريم خطاب لنا، أن صوموا لتكونوا كراماً يعني حتى تكونوا أتقياء، إذ التقوى محور الكرامة، فالإنسان الكريم لا يرتكب الذنوب، ليس من أجل أن لا يذهب إلى النار، أو من أجل أن يدخل الجنة، بل لأنه إنسان لا يرتكب الذنوب، ولأن الكرامة لا تتناسب مع المعصية.

يقول الإمام الصادق (ع): "هل الدين إلا الحب!؟" يقول تعالى: (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون)، (الواقعة: 77 ـ 79) وهذا جزء من الأسرار التي لا يصلها أي أحد كان، فكما أن باطن القرآن في الكتاب المكنون: (لا يمسه إلا المطهرون) فهكذا حب العبادة، أي أنه ليس بمقدور كل أحد أن يحب العبادة ويحب المعبود، فالله سبحانه أمل المشتاقين، "بمحبتك يا أمل المشتاقين"، فالشوق هو الذي يجذب الإنسان نحو الله سبحانه وليس إلى الجنة، فهو أمل المشتاقين والأمل غير الرجاء الأمل هو الذي يجعل من الإنسان الذي لا يتحمل، إنساناً صبوراً، متحملاً هادئاً، يأمل الإنسان شيئاً، وآخر يتمناه وهو دائماً يسعى لأن يحقق ما يتمناه، فالذي لا يشتاق إلى الله لا يصلح أو لا يصح أن نصفه بالشوق، الشوق الصادق وهو الذي لا يرى فيها الإنسان غير الله سبحانه في البداية يكون الشوق، ثم يكون العشق، والمشتاق هو الذي لا يملك الشوق بل يطلبه، أما العاشق فهو الذي يملك العشق.

هذا هو الفارق بني الشوق والعشق، إذ يقال للعطشان الذي يسعى للوصول إلى عين الماء: أنه مشتاق للماء، وعندما يصل إلى الماء ويأخذ منه ويحتفظ به يقال له عاشق الماء، فالشوق قبل الوصول والعشق بعد الوصول.

يقول الرسول (ص): "أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسر". [أصول الكافي (ج2) باب العبادة الحديث 3]. فهنيئاً لمن يحب العبادة ويعشقها ويعانقها، لمن يحسها بكل وجوده ومشاعره وطوبى للمصلين وللصائمين الذين عشقوا العبادة.

يمدح هذا الحديث عشاق العبادة، فاضل الناس ذلك الذي أحب العبادة وعشقها، إذ كان مشتاقاً أولاً ثم أصبح عاشقاً، فما هو العشق إذن؟ ومن أين أخذت هذه الكلمة؟

قالوا: إن هذه الكلمة مأخوذة من كلمة عربية، وهي إسم نوع من النبات يسمى (عشقة)، فهي مشتقة من اسم هذا النبات، عشق في اللغة العربية، هي أن يلصق ذلك النبات نفسه بالشجرة ولا يتركها، بل يعيش عليها ويمتص قوتها حتى تذبل الشجرة وتموت، فيقال للشجرة: أصابتها عشقة، فالعاشق إنسان إصابته العبادة، فاصفر لونه وضعف بدنه، حتى تخلى عن نفسه، والحديث الشريف يصف العشاق بأنهم أفضل الناس، لأنهم عشقوا العبادة فالعاشق قد ضعف بدنه واصفر لونه، لأنه أهمل نفسه.

ولذا قالوا: إن من أسرار الصيام هو أن يقل النشاط الحيواني للإنسان، مثل الشجرة التي أصابتها عشقة فلا تنمو، تقول بعض الروايات: ما الصيام إلا لكي تذهب الطراوة والنشاط والحيوية التي حصل عليها الإنسان في غير شهر الصيام (رمضان) لأنه نشاط كاذب، وعندما يصوم الإنسان وتحدث بينه وبين الصيام علاقة، يصل بالتدريج إلى باطن الصيام، فباطن الصيام يقرب من الله تعالى "الصوم لي وأنا أجزي به"، [روضة المتقين ج3، ص225]. وهذا التعبير خاص بالصيام فقط ولم يأت لبقية العبادات .يتدرج الإنسان في صيامه من الدرجة الواطئة في معرفته للأسرار إلى الدرجة العالية التي هي لقاء الحق سبحانه.

لقد بينت الروايات بعض الحكم الظاهرية للصيام .يسأل هشام بن الحكم الإمام الصادق (ع): لماذا أصبح الصيام واجباً على الناس؟ فقال (ع): "إنما فرض الله ـ عز وجل ـ الصيام ليستوي به الغني والفقير وذلك إن الغني لم يكن يجد مسَ الجوع فيرحم الفقير لأن الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله ـ عز وجل ـ أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف فيرحم الجائع"، [علل الشرائع]. لأن الفقير والغني في الامساك عن الطعام سواء، حيث يحرم عليهم الأكل والشرب، فالناس الأغنياء لا يشعرون بالجوع والعطش وهم بالصيام يحسون بهما، ومن ثم يحسون بجوع الفقراء لهذا فرض الصيام عليهم ليتعاونوا مع الفقراء، وهذه أقل درجة من معاني الصيام.

على الإنسان أن لا يملأ بطنه طعاماً في غير شهر رمضان، حتى يحس بجوع الفقراء، أو في الأقل حتى لا ينسى أن هناك فقراء في العالم، فالله سبحانه يريد أن يساوي بين الجميع، ليطلع الأغنياء على جوع الفقراء.

وهذا الحديث الشريف يبين جزءاً يسيراً من معاني الصيام، ولرب سائل يقول، إذا كانت علة الصيام هي هذه فلماذا يصوم الفقراء؟ ليس الصيام أن يجوع الإنسان ويعطش، وليس هو الامتناع عن الأكل والشرب، إنما الصوم يصل بالإنسان إلى التقوى والكرامة ـ الكرامة التي وصفت بها الملائكة ـ.

يذكر الإمام علي بن موسى الرضا (ع) علة الصيام في رسالته التي بعثها إلى ابن سنان يقول: "العرفان مس الجوع والعطش ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً صابراً ويكون ذلك دليلاً له على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات واعظاً له في العاجل دليلاً على الآجل ليعلم شدة مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة". [علل الشرائع].

يتحمل الإنسان الصائم الجوع والعطش استجابة للأمر الإلهي، لأن الله سبحانه كلفه بذلك، فهو صبر لله تعالى ويرتقي هذا الحديث عن الحديث الأول درجة، فهو يبين طاعة الله عز وجل، فتحمل الجوع وعطش الدنيا يذكره بجوع وعطش الآخرة، إضافة على تحرره من سيطرة الشهوة، كما أنه سبب للعمل الصالح والهداية والتذكير بيوم القيامة، ويبين هذا الحديث أن للصوم أسراراً دنيوية وأخروية ومع ذلك لم يبين السر النهائي للصوم.

وعن الباقر (ع) أنه قال: "بني الإسلام على خمسة أشياء، على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية"، [الآمالي للشيخ المفيد]. فالصيام ركن من أركان الدين، وهو يبطل بشرب قطرة من الماء، فهل هذا هو ركن الدين؟ أم أن سر الصيام هو ركن الدين؟

قال النبي (ص): "الصوم جنة من النار"، [روضة المتقين ج3، ص225]. فالصوم حرز من نار الدنيا والآخرة وهذه بعض معاني الصيام الباطنية.

قال (ع) يقول الله تبارك وتعالى: "الصوم لي وأنا أجزي به"، [روضة المتقين ج3، ص225]. إن كل موجودات عالم الإمكان من الله سبحانه فليس من شيء خاضع لملك أحد غيره، فكل مخلوق مملوك لله سبحانه، وأعيننا وآذاننا ملك له أيضاً.

(أمن يملك السمع والأبصار)، (يونس: 31) فالله عز وجل هو المالك للعيون والآذان، وهو قادر على كل شيء، فليس تمام حركات العين والأذن تحت اختيارنا، إذ يسلب منا الاختيار في بعض الأحيان، فلا نستطيع فتح عيوننا وإغلاقها، وهذا ما يحدث أيضاً حال الموت، وإذا لم يوجد من يغلق عين الميت عند موته، أصبح منظره مخيفاً.

سئل الرسول (ص) عن سبب جزعه وخوفه من الله عز وجل فقال: "لأنه ليس بمقدوري أن أغمض عيني دون قدرته، وكذلك ليس بمقدور الإنسان أن يبلغ الماء الذي يشربه"، ليس هناك شيء خاضع لملك غير الله سبحانه، فكل الموجودات مخلوقات الله وهي بالنهاية مملوكة له.

يقول أمير المؤمنين (ع) راقبوا أعمالكم فإن تمام أعضائكم وجوارحكم هي جنود الحق سبحانه فإذا اراد الله سبحانه أن يأخذ أحداً فيأخذه بلسانه ويده ورجله:"واعلموا عباد الله أن جوارحكم جنوده وخلواتكم عيونه"، [نهج البلاغة الخطبة (157) الخطبة (199)]. فإذا أراد الله عز وجل أن يأخذ الإنسان للحساب أشهد عليه يده وجوارحه، فلا يحتاج إلى شاهد يشهد عليه، بل يلزم بجوارحه، فيقول (ع): راقبوا أنفسكم في الخلوات لأنكم في محضر الله ـ عز وجل ـ وعلى مرأى منه سبحانه.

لله عز وجل جنود يحصون أنفاس الخلائق، ليعلموا من أجل أي شيء تنفس أحدهم، لماذا تكون الأنفاس تسبيحاً في عزاء الإمام الحسين (ع)؟ وفي شهادة بقية المعصومين (ع) "نفس المهموم لنا تسبيح"، فإذا تأوه الإنسان لمظلومية أهل البيت (ع) فهي عبادة، لأن هذا النفس محسوب للإنسان.

تنفس عمار بن ياسر بعمق في حضرة الإمام علي(ع) فقال (ع): لأي شيء تنفست بعمق؟ نفسك هذا علامة تأثر وحسرة، فإذا كان من أجل الآخرة فهو شيء حسن وإذا كان من أجل الدنيا فسأوضح لك حال الدنيا لتعرف أنها لا تستحق الحسرة، والذي يعرف الدنيا لا يتحسر عليها.

يا عمار، جميع اللذات الدنيوية مخلوطة بالألم والعذاب، وأفضل لذات الدنيا الأكر والشرب والملبس، وأفضل غذاءه يأكله الإنسان وأفضل لباس نتاج دودتين: فأفضل غذاء هو العسل المصفى والذي يخرج من بطون النحل، وأفضل قماش يلبسه هو الحرير الذي تصنعه دودة القز إذا كنت تتحسر على الأكل فأنت معذب من أجل دودة.

فالإنسان العاقل لا يتحسر من أجل الدنيا، وإذا كانت حسرته للآخرة فطوبى له، فأهل المعرفة يذكرون الله سبحانه في كل نفس، فأين نحن من هؤلاء؟

مرض أحد أصحاب الأئمة (ع)، فزاره الإمام مع مجموعة من أصحابه، فوجدوه راقداً على فراش المرض وهو يقول: آه! فقال أحدهم له: لماذا لا تقول يا الله؟ فقال الإمام (ع): "آه، من أسماء الله تعالى"، [توحيد الصدوق، باب أسماء الله تعالى ص219]. إذ أن الشخص الذي يقول آه، يذكر اسم الله تعالى، فهو يطلب الطبيب المعالج علم أم لم يعلم.

يقول الشاعر السبزواري (قدس): "في كل نفس ذكر لله سبحانه."ليس هناك شيء في الوجود لا يذكر الله عز وجل، والملائكة يحصون الأنفاس ويعرفون لأي شيء نتنفس وعندما يكون العالم أجمع ملكاً لله، وجميع أعضائنا حراساً للحق جل وعلا، ويريد الله سبحانه أن يأخذ أحداً، فإنما يأخذه بأعضائه وجوارحه، فليس من شيء إلا وهو ملك لله عز وجل.

ولعبارة (الصوم لي)، خصوصية يريد الله أن يبينها، فالصيام ملك الله سبحانه والإنسان يمسك منذ الفجر حتى الإفطار، وهذه درجة للصائم، بها يسعى لئلا يحترق بالنار وأن يدخل الجنة، (جنات تجري من تحتها الأنهار)، (آل عمران: 189) الجنة التي يقول عنها (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، (آل عمران: 15) فالذي كل همه وتفكيره بحلول وقت الافطار، ويشعر بالارتياح عند إفطاره وكأنه انتهى من عذاب الصيام، لا يصل إلى الحرم الإلهي، ولا إلى لقاء الله عز وجل، فإلى جانب أحكام الصيام وآدابه الخاصة به، هناك سر وهو لقاء المحبوب ألا وهو الله عز وجل.

هذا الحديث يوجد الشوق في الإنسان ومن ثم يجعله عاشقاً فالإنسان بغير الشوق لا يتحرك ولا يسعى، عندما يكون الصيام لله، فماذا يعطى للصائم؟ إن الله نفسه يعطي الصائم ثوابه، وبتعبير المرحوم. يقول محمد تقي المجلسي ـ قدس الله نفسه الزكية ـ في كتاب روضة المتقين في شرح كتاب من لا يحضره الفقيه ـ الذي هو من كتب الإمامية القيمة ـ،[روضة المتقين: ج3، ص225] إن الله عز وجل لم يكتف بالقول (الصوم لي) بل قال: (وأنا أجزي به) وهنا قدم ضمير المتكلم على الفعل، ولم يقل وأجزي به، بل قدم نفسه تعالى وقال: الصوم لي وأنا أجزي به، أنا أعطي ثواب الصائم، فالله سبحانه لا يقول للملائكة: أدخلكم الجنة ولكن يقول: أنا أجازي الصائم، فكيف يجازي الله الصائم؟ إنه يقول لمجموعة من البشر: (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، (الفجر: 30) فهي لأولئك الأولياء الربانيين الذين يصومون الصيام المستحب، ويعطون إفطارهم لليتيم والمسكين والأسير، وأولئك تكون (جنات تجري من تحتها الأنهار)، باختيارهم وتحت تصرفهم، لأنهم يسعون لمطلب أسمى، أما الذي يصوم لكي يدخل الجنة ويأكل من فاكهتها، فلا يحصل إلا على فائدة واحدة فقط.

وقصة صيام أهل بيت العصمة والطهارة ـ هي أن الحسنين (ع) مرضا، فنذر أمير المؤمنين وفاطمة ـ عليهما السلام ـ أن يصوما لله عز وجل أن شفاهما فلما شفاهما الله سبحانه صام الإمام أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسنان عليهم السلام، وفضة التي كانت تخدمهم وقد تربت في مدرستهم، لقد وصلت هذه الخادمة إلى مقام رفيع فكان لها سهم في هذه القصة، إن ذكر مقام أهل البيت (ع) في سورة الدهر دليل على رفعة شأنهم، فمقامهم مقام الأبرار، وهم من المقربين، بل تجاوزوا مقام المقربين.

فعندما يذكر القرآن قصة صيام هؤلاء الأبرار يقول: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً)، أحضر الإمام (ع) مقداراً من الحنطة أو الشعير، ثم طحنوه، وصنعوا منه خبزاً لإفطارهم فجاءهم مسكين عند الافطار في أول يوم من صيامهم، يطلب طعاماً، فأعطوه حصصهم من الطعام وأفطروا بالماء الخالي.

وفي اليوم الثاني صاموا وعملوا خبزاً من بقية الطحين، فجاءهم يتيم عند الإفطار بطلب طعاماً، فناولوه طعامهم كله، وأفطروا بالماء الخالي.

وجاءهم عند انتهاء اليوم الثالث أسير، فأعطوه ما صنعوه من الخبز وأفطروا بالماء الخالي، فنزلت بحقهم آيات مباركات في سورة (هل أتى) إن حضور فضة واشتراكها معهم في عملهم يبين أن الإنسان العادي يستطيع أن يقوم بمثل هذا العمل.

ليس مقام الأئمة(ع) من البساطة بحيث نصفهم بأنهم أشخاص جيدون يقول الإمام الرضا (ع): لا يمكن أن تعرفوا الإمام وهو كالشمس الطالعة في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار، أين العقول من هذا؟ وأين الاختيار من هذا؟ فكما أنه ليس، بمقدور أحد أن تصل يده إلى نجوم السماء، كذلك لا يصل عقل الإنسان لادراك مقام الإمام.

عندما رحل الإمام الباقر (ع)، جاء سالم بن أبي حفصة إلى الإمام الصادق(ع) وقال: لقد ارتحل الذي كان ينقل عن رسول الله(ص) بلا واسطة على الرغم من أنه لم يكن قد رأى النبي (ص) ولم يتعرض للسؤال من هذه الجهة، مات ولا يوجه مثله، فسكت الإمام الصادق (ع) لحظة ثم قال: قال الله كذا. فقال سالم بن أبي حفصة: الإمام الباقر (ع) كان ينقل عن النبي (ص) بلا واسطة والإمام الصادق (ع) ينقل عن الله بلا واسطة.

المقصود أن ما جاء في سورة الدهر لم يكن ليبين المقام الشامخ السامي للأئمة (ع)، فهذه الخصوصية كانت لتلامذتهم أيضاً، لقد كان قولهم عندما اعطوا الطعام لليتيم والأسير والمسكين (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً)، (الإنسان: 9) وكان كلام فضة مثل كلامهم، إذن يستطيع الإنسان العادي، بسبب التربية على خط أهل البيت (ع)، أن يصل إلى سر الصيام (الصوم لي) نحن لا نعطي من أنفسنا، علينا ان نتمثل على الأقل بهذه السيدة التي تربت في بيت الأئمة (ع)، ولا يحسن ان نقول: إن الطريق مسدود، ولا يمكن الوصول أو نقول: أين نحن من أولئك؟ نعم أين نحن من الأئمة؟ صحيح، ولكن ليس صحيحاً أن نقول أين نحن من تلامذة الأئمة (ع)؟

يقول سبحانه في هذا المقام (الصوم لي)، الصوم ملكي، وأنا بنفسي أجازي الصائمين، وأنا لا غيري أعطيهم ثوابهم، في الأعمال الأخرى عند حضور الموت، تأتي الملائكة لاستقبال المؤمنين وتقول (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)، فأبواب الجنة لكم مفتوحة، فادخلوا من أي باب شئتم، لكن بخصوص الصيام يقول: أنا أجزي به، إن هذا ليس من أحكام الصيام، ولا من آدابه، وليس من بحوث الواجب والمستحب للفقه، بل هو من أسرار العبادات التي يتكفل بها علم آخر غير علم الفقه، فكيف يصل الإنسان إلى مقام يكون الله عز وجل فيه هو المتعهد بالثواب؟ فالله تعالى يقول في وصف المتقين: (إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر). (القمر: 54)

فإذا كان الصيام لأجل أن يكون الإنسان متقياً، فبالتقوى يحصل الإنسان على درجتين: الأولى هي الجنة التي فيها نعم الله الكثيرة: (إن المتقين في جنات ونهر)وفيها اللذات الظاهرية، والآخرى عند الله: (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)، الكل يعمل من أجل هذه الدرجة وعندها لا يكون للأكل والشرب محل أو كلام، فأنواع الثمار والفاكهة هي للبدن، والجنة والأنهار لأجل الجسد، أما لقاء الله فهو للروح وهذا هو سر وباطن الصيام. قال تعالى لموسى (ع): لماذا لم تناجي يا موسى؟ فقال موسى (ع) مناجياً ربه: إني صائم والصائم تنبعث من فمه رائحة غير طيبة، فقال له الله عز وجل موضحاً هذا الأمر: إن هذه الرائحة طيبة عند الملائكة، فلا يمنعك ذلك من المناجاة.

نقلت هذه الروايات عن الرسول (ص)، وكذلك نقل عنه في ذيل الحديث القدسي "الصوم لي وأنا أجزي به" أنه قال (ص): "للصائم فرحتان حين يفطر وحين يلتقي ربه ـ عز وجل ـ" ثم قال: "والذي نفس محمد (ص) بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك"، فالرسول (ص) يقسم بذات الله أن رائحة فم الصائم هي أطيب عند الله ـ عز وجل ـ من رائحة المسك، وهذه هي الآثار الظاهرية.

أما إذا قرئ الحديث بصيغة المجهول: (الصوم لي وأنا أجزى به) فيصبح المعنى: أني أنا أكون جزاء الصائم، ويكون جزاؤه لقائي وشهودي، وفي هذا دلالة واضحة ولكن القراءة الأولى هي الأصح.

في دعاء السحر لشهر رمضان المبارك يدعو الإنسان لينال هذا المقام، فالصائم يسأل الله عز وجل: (الله إني أسألك من جمالك بأجمله وكل جمالك جميل). يصور النظامي گنجوي الشاعر المعروف في خماسيته ـ العشق المجازي والحقيقي ـ فيقول: لما مرضت ليلى في نهاية الأمر أوصت أمها أن تقول للمجنون: ـ إذا أردت أن تربط قلبك بموجود، فلا يكن موجوداً يموت بسبب حمى تصيبه.

من الخسارة أن يربط الإنسان قلبه بالمتغير الذي لا يحدث علاقة مع نفسه، ولا مع الله سبحانه، فغير الله لا يمكن أن يكون جزاءً للإنسان بل جزاء الإنسان لقاء الله، لهذا نقرأ في دعاء السحر لشهر رمضان: (نسأل الله من جماله المطلق) فيجب أن لا يكتفي الإنسان بسماع الدعاء فقط، لأن السماع غير الطلب، فأي مقام هذا الذي تيسر للإنسان من هذا الدعاء: (اللهم إني أسألك من نورك بأنوره وكل نورك نير)؟ لماذا علمنا هذا الدعاء في شهر رمضان المبارك؟ لأن هذا الدعاء يليق بالإنسان الصائم وهذا الفم يستطيع أن يقول (اللهم إني أسألك من جلالك بأجله وكل جلالك جليل). ليس الكلام عن الحور والولدان، أو الثمار والفواكه، وليس من الجنات والأنهار، بل هو كلام عن الكمال المعنوي وهذا هو المقام اللائق.

والأئمة (ع) فوق كل هذه المقامات، فلو لم يكن هذا المقام لنا، لم نكلف بالدعاء لمثله فلو لم يستطع الإنسان العادي الوصول إلى هذا المقام، لما أمكن أن تصل إليه الخادمة فضة، إذن فبلوغ هذا المقام أمر ممكن. إن بوسع الإنسان أن يصوم مستحباً، ثم يعطي إفطاره لشخص غير مسلم، إذ لا يرضى الإسلام أن يبقى إنسان جائعاً، وإن كان غير مسلم.

مسألة الوقف من أحكام الفقه الإسلامي، فيستطيع الإنسان أن يوقف بستاناً أو دكاناً أو بيتاً على الكفار، من أجل أن لا يبقوا جياعاً، وإذا سقى الإنسان ظامئاً ـ وإن كان كلباً ـ فثوابه الجنة، لقوله (ص): "لكل كبد حراء أجر"، وإذا صام الإنسان صوماً مستحباً وأعطى ما صنعت يداه من طعام، لأسير ثم قال: (إنما نطعمكم لوجه الله)، فإذا كانت تلك الخادمة في بيت الأئمة (ع) قد وصلت إلى ذلك المقام، فنحن أيضاً نستطيع الوصول إلى هذا على أن لا نستهين بأنفسنا وإلا فنحن خاسرون.

ينقل المرحوم الكليني في كتابه القيم الكافي، رواية لطيفة عن الإمام الكاظم (ع) ويشرحها المحقق الداماد ببيان بديع حيث يقول (ع): "لا تبيعوا أنفسكم إلا بالجنة"،يقول المرحوم الداماد: إن هذه ناظرة إلى روح الإنسان، فروح الإنسان فوق الجنة، فبيعوا أرواحكم بجنة اللقاء.

يجب أن تكون أرواحكم "عند مليك مقتدر" والصيام أفضل طريق لايصال الروح إلى الله تعالى.

(للصائم فرحتان: عند الافطار وعند لقاء الله)، فالصائم يفرح مرتين، مرة عند إفطاره والأخرى عند لقاء الله وإذا كانت نية الصائم لقاء الله سبحانه، فإنه سينال الفرحة الثانية، فالصائم يشكر الله عند الافطار على توفيقه للطاعة، يشكره لأنه لم يسافر، أو لم يمرض، أو لم يسلط عليه الشيطان، فلم يملأ بطنه من الطعام والفرحة الثانية عند لقاء الله تعالى.

المصدر: السراج

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الخميس 17 مايو 2018 - 22:22 بتوقيت مكة