آية الله السيد محمد حسين فضل الله
استقبل رسول الله(ص) هذا الشهر، وأراد للأمّة أن تتعرّف قيمته ودوره وحركيته في صنع الإنسان القريب إلى الله تعالى، والقريب إلى الناس، والمنفتح على المسؤولية في نفسه وفي علاقاته بالآخرين.
في البداية، تحدّث النبي(ص)، فيما رواه الإمام عليّ(ع)، قال:"خطبنا رسول الله(ص) فقال: أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله ـ فهذا الشهر يتميّز بأن الله تعالى ينسبه إليه، ولم ينسب أيّ شهر آخر إلى ذاته المقدَّسة، مع أن الشهور كلها هي خلق الله وتقديره: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}(التوبة/36)، فقد ميّز الله هذا الشهر بأنّه شهره الذي تفضّل من خلاله على عباده بما لم يتفضّل به عليهم بهذا المستوى في أيّ شهر آخر ـبالبَرَكة والرحمة والمغفرة ـ والله تعالى يبارك للإنسان في هذا الشّهر، في عمره ورزقه وأهله وكلّ أوضاعه، فالله يرحم الناس في هذا الشهر بفيض رحمته التي تهطل عليهم في كلِّ حياتهم.
وهو شهر المغفرة، لأنّ الله يغفر في هذا الشهر للمذنبين، وتتضاعف هذه المغفرة كلما انطلق الشهر وتقدّم، حتى تبلغ الغاية الكبرى في نهايته. ويتحدّث(ص) عن أفضلية هذا الشّهر ـ شهر هو عند الله أفضل الشّهور ـ فلا شهر يفضل هذا الشّهر ـ وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات".
وهناك نقطة مهمة في هذا الشهر، وهي أنّنا نكون فيه ضيوف الله، وضيافة الله تختلف عن الضيافة لدى أيّ شخص، لأننا خلق الله، ونعمنا من عطائه، ولذلك فإنّ الله تعالى عندما يستضيفنا فيه، فإنه يقدّم لنا، من مائدته الإلهية السخية، زيادة في النّعم والعمر والرزق والرحمة والمغفرة.
"هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة اللهـ والكرامة في شهر رمضان أعلى من الكرامة الإنسانية الذاتية التي كرّم الله فيها بني آدم ـ أنفاسكم فيه تسبيح ـ فالنّفس الّذي تتنفّسه فيه، يحسبه لك الله تسبيحاً حتّى وأنت صامت، ويعطيك فيه أجر التّسبيح ـ ونومكم فيه عبادة ـ لأنك في نومك هذا، تأخذ القوَّة التي تمنحك القدرة على أن تطيع الله في قيامك وصيامك ـ وعملكم فيه مقبول ـ فالله يتقبّل فيه أعمالكم، حتى لو كان فيها بعض النقص ـ ودعاؤكم فيه مستجاب".
وأضاف بأنّ الصيام في أبرز وجوهه، هو تعبير عمليّ عن الورع عن محارم الله وتجسيد للإسلام، بما يعنيه من تأكيد للإخلاص لله والعبودية له :
"يقول عليّ (ع):"عندما بلغ رسول الله(ص) هذه الكلمة، قمت وقلت: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ قال(ص): يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر، الورع عن محارم الله"، أن تتورّع عن كل حرام في هذا الشهر؛ في قولك، فلا تقول كذباً ولا تأييداً لظالم أو منحرف، وأن تتورّع عن الحرام في فعلك وعلاقاتك، وعن الحرام في طعامك وشرابك وتجارتك، وأن لا تنطلق في شهوة حرام أو في موقف أو تأييد حرام. وقد ورد عن رسول الله(ص):"إنّ الشقيَّ من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم"، لأنّ الإنسان الذي يخسر في الموسم، قد لا يستطيع في خارجه تحصيل الربح، والله سبحانه جعل شهر رمضان موسماً للمغفرة والرحمة، فكأنه سبحانه يقول: تعالوا إليّ يا عبادي، واستغفروا لذنوبكم، وتقرّبوا إليّ بأعمالكم، وأنا الغفّار للذنب العظيم.
وقد جاء عن الإمام زين العابدين(ع)، في دعائه عند دخول شهر رمضان، وهو ما أوصي إخواني وأخواتي جميعاً أن يقرأوه: "الحمد لله الذي حبانا بدينه ـ وهو الإسلام ـ واختصّنا بملّته ـ وهي ملّة الإسلام ـ وسبّلنا في سبل إحسانه، لنسلكها بمنّه إلى رضوانه ـ حتى نتحرّك في هذه الطّرق لنحصل على رضوان الله في نهايتها ـ حمداً يتقبّله منّا ـ لأنه حمد المخلصين والخاشعين والطائعين ـ ويرضى به عنّا ـ لأنه يعبّر عن إخلاصنا وعبوديتنا له ـوالحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهر رمضان، شهر الصيام، وشهر الإسلام..."، فالله أراد لهذا الشهر أن يكون شهر الإسلام الذي يعيش فيه الناس كلهم عقيدة الحق، ومشاعر الخير، ليتحمّلوا فيه كما في غيره، مسؤوليتهم تجاه الإسلام، ليقفوا في وجه من يتحرك من أجل إضعافه في عقيدته وثقافته وأمَّته، وأن يعمل كلّ مسلم ومسلمة في شرق الأرض وغربها على الدّعوة إلى الإٍسلام: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(آل عمران/104).
وعلى ضوء هذا، لا بدّ للمسلمين في العالم كله، من أن يكونوا الواعين لكلّ الخطط التي يخطّطها المستكبرون والكافرون، الذين يعملون على مهاجمة الإسلام وتشويه صورته، والتكلّم بالسوء عن مقدّساته، ولا سيما على رسوله(ص)، ولذلك وقفنا جميعاً في العالم الإسلامي كله ضد الصور المسيئة إلى النبي(ص)، التي تجرّأ عليها بعض الناس في الغرب، وكذلك عندما يتحدّث البعض عن الإسلام بطريقة سلبيّة، وبأنَّ الإسلام لا يحترم العقل، مع أنّ الإسلام، على خلاف كل الأديان، هو الّذي يرتكز على العقل، فنحن نكتشف الله بالعقل، ونؤمن بالرّسول بالعقل، ونتحرك في وعينا لكلّ ما يصدر عن الله بالعقل، وقد ورد عن رسول الله(ص) وأئمّة أهل البيت(ع)، أنّ الحجّة بين الله وعباده هي العقل، لأنَّ العقل رسول من داخل، كما أن الرسول عقل من خارج. ويتحدّث البعض أيضا عن أن الإسلام دين العنف، مع أن الإسلام هو دين الرفق، والله يقول:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل/125)، ويقول النبيّ(ص):"إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه"، وأيضاً:"إن الله رفيق يحبّ الرفق، ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف"، وكذلك عندما يتحدّث البعض الآخر بجهل عن الجهاد في الإسلام، وكأنه سيفٌ مسلط على الناس، ولكن الله يقول:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الممتحنة/8)، فإذا كان الذين لا يأخذون بدينكم مسالمين ولا يعتدون عليكم، فتعاملوا معهم بالبرّ والإحسان والعدل، وإنما نهانا الله عن الذين قاتلونا في الدين، فالإسلام يسالم كلّ من سالمه، حتى لو اختلف معه في الدين، والإسلام يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(البقرة/256)، والله يقول لرسوله:{إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ})الغاشية:/21-22(.
إن شهر رمضان هو شهر الإسلام الذي يمنحنا ثباتاً وصبراً في ساحات التحدي، وهو شهر محاسبة النفس وتطهيرها من الذّنوب، سعياً للقرب من الله:
شهر رمضان هو شهر الإسلام، وعلينا أن نكون مع الإسلام سلماً وحرباً، ثقافةً وحركةً، وعلى هذا الأساس، كنا مع المجاهدين في مقاومتهم لليهود، عندما انطلق اليهود للاعتداء على المسلمين جميعاً في هذه المرحلة، كما اعتدوا على المسلمين فيما سبق من مراحل، واستطاع هؤلاء المجاهدون أن ينتصروا بالله، وأن يحقّقوا النصر والعزة والكرامة للمسلمين، ولذلك ينبغي على المسلمين جميعاً، أن يقفوا ليُشهدوا العالم أنهم مع المقاومة ومع النّصر ومع مستقبل هذه المقاومة التي انطلقت من خلال فتية آمنوا بربهم وزادهم هدى.
وفي الختام، يقول الإمام زين العابدين(ع)، إن شهر رمضان هو "شهر الطهور" الذي يتطهّر فيه الإنسان من كلّ الأخلاقيات السيئة، ومن كلّ الأوضاع النفسية المعقّدة، ومن كلّ الحالات الشريرة في نفسه، "وشهر التمحيص"، الّذي يمحّص فيه الإنسان نفسه ويحاسبها، "وشهر القيام" لله تعالى، من أجل أن يثبت الإنسان إخلاصه له في العبادة، ليحصل على القرب منه تعالى.
المصدر: موقع بينات
إقرأ أيضا: شهر رمضان.. بركات لا تعرف الحدود
إقرأ أيضا:كيف نستعد لشهر رمضان؟