في ساعة الحقيقة، ظهرت تل أبيب كطرف في معركة شبه متكافئة. تَقصف وتُقصف، ثم تأمل أن تنتهي جولة القتال.
عملياً، دشّنت «ليلة الصواريخ» أمس محور المقاومة كطرف مُبادر تجاه العدو. سُلَّم المواجهة تواصل صعوداً ليرسو على معادلة جديدة، أتى «الردّ» على ضربات «تي فور» كجزء منها ضمن «حساب مفتوح» في مواجهة تل أبيب. عادت بنا جولة القصف المتبادل إلى ليلة من ليالي الجنوب اللبناني في تموز 1993. وتحديداً إلى جولة من جولات حرب «الأيام السبعة» حين عمدت المقاومة إلى قصف المستوطنات الشمالية، مقابل قصف "إسرائيلي" مكثف ومركز. لم يتوقّف الرد حتى تثبيت معادلة النار بالنار.
منذ الضربة التي وجّهها الإسرائيليون إلى قوات إيرانية في مطار «تي فور»، وقف كيان العدو أمنياً وعسكرياً وسياسياً، مترقباً ومتأهباً ينتظر التحرك المقابل. ثم اتخذ الإسرائيليون قراراً بخلط الأوراق، وعمدوا إلى تحريك الجبهات بشكل يمنع الإيرانيين أو السوريين وحلفائهم، من الركون إلى الهدوء" الإسرائيلي" للتجهيز لعمل ضدها.
طوال الأيام الماضية، كان العدو يراقب عن كثب كل المنطقة، ابتداء من الشريط الحدودي وحتى الكسوة وجديدة عرطوز وقطنا في ريف دمشق، بشعاع يصل الى 40 كلم. بحسب مصادر عسكرية مطلعة، تحدثت إلى «الأخبار»، فإن «العدو كان يرصد بشكل مكثّف جداً المنطقة الجنوبية كلها، وتحديداً الريف الجنوبي لدمشق. استقدم منظومات رصد جديدة إلى مواقعه في الجولان المحتل، كما عمد إلى نصب منظومات دفاع جوي مختلفة على طول المنطقة الحدودية». في السماء، كما في الجبال المواجهة وخصوصاً جبل الشيخ، كانت عيون العدو مفتوحة على أدق تفاصيل التحركات في الجبهة الجنوبية، وكانت الوسائل الإلكترونية فاعلة جداً للتنصت والتجسّس على المناطق القريبة من الحدود. «أي هدف كان يشعر الإسرائيلي بأنه يعدّ لشيء ما ضده، كان يستهدفه مباشرة بالقذائف المدفعية، أو بالغارات والصواريخ، كما حدث في الكسوة منذ يومين، ومدينة البعث العمالية قبيل الهجوم الصاروخي» تقول المصادر. كل التقارير التي وصلت إلى القيادة الإسرائيلية، كانت تشير إلى رد إيراني أو سوري متوقّع في أي لحظة، وهذا ما وضع العدو في حالة إرباك وتوتّر، جعلته يبادر إلى فعل أي شيء قد يمنع أو يعرقل إتمام أي عمل ضده.
في ظل التوتر والبلبلة التي أحدثها القصف "الإسرائيلي" بالأمس، انطلق عدد كبير من الصواريخ من نقاط متعددة ضمن المنطقة ذاتها التي كان يرصدها. رشقات الصواريخ، جاءت متتالية، ومن راجمات منتشرة في المنطقة الحدودية على مسافة قريبة من الحدود. هنا يلفت مصدر عسكري إلى أن «الصواريخ كانت متنوّعة، بعضها كان من الصواريخ التقليدية غراد أو المعروف بالكاتيوشا، وأخرى كانت أكبر وأفعل وذات مديات متوسطة (صواريخ «فجر»)، وهذا يعود الى طبيعة الأهداف التي أرادوا إصابتها، إذ إنها لا تحتاج الى أكثر من تلك الصواريخ». الجاهزية عند العدو كانت مرتفعة جداً، وبالتالي تعاملت منظومات الدفاع الجوي مع الصواريخ مباشرة، الا أن سرعة الصواريخ الصغيرة وارتفاعاتها وكثافتها، تمنع القبة الحديدية من التعامل معها براحة كما مع الصواريخ الكبيرة والبعيدة المدى. تجزم المصادر أن «أغلبية الصواريخ وصلت إلى أهدافها، رغم صعوبة الظروف التي رافقت نصبها وتوجيهها وإطلاقها، ودقة وتحصين الأهداف العسكرية التي وجّهت إليها».
لم يطل الانتظار طويلاً حتى باشر العدو بالرد على إطلاق الصواريخ. في البداية، كان الرد موضعياً كإجراء تلقائي. بعدها مباشرة، بدأ العدو بقصف أهداف كان قد حدّدها مسبقاً إما عبر الصواريخ الأرضية، أو عبر الطائرات التي أطلقت صواريخها من فوق الأراضي المحتلة.
الجيش السوري، بدوره، كان مستنفراً منذ أيام، وهو يتوقع أن يقوم العدو بعمل ما، وبالتالي فعّل منظومات الدفاع الجوي «لتشتبك» الصواريخ الدفاعية مع الصواريخ الإسرائيلية فوق سماء سوريا. المصادر العسكرية السورية أكّدت لـ«الأخبار» أن العدو لم يستهدف أهدافاً واضحة للإيرانيين، بل استهدف الجيش السوري ونقاطه، بالإضافة إلى ناحية من نواحي مطار دمشق». استهدفت الصواريخ المعادية منطقة تلول فاطمة قرب كناكر في ريف دمشق، والتل الكبير في محجّة، والكتيبة الجوية قرب نامر، كما استهدفت مطار خلخلة، والفوج 150 دفاع جوي في محافظة درعا، ومدينة البعث وأطراف القنيطرة.
إصرار الإيرانيين على الرد كان واضحاً طوال الفترة التي تبعت استهدافهم في «تي فور»، والعدو كان يعلم ذلك، وحاول إرسال رسائل عدة بالنار لمنع الإيرانيين أو حلفائهم في سوريا من ذلك. لم يتبنّ الإيرانيون العملية ولا السوريون فعلوا، إلا أن أحدهما، أو أحد حلفائهما، نفذ العملية بالضرورة. هذا يندرج ضمن لعبة الغموض التي يمارسها الإسرائيليون، إذ إنهم لا يعلنون عن استهدافهم أهدافاً داخل سوريا. وعند سؤالهم، لا يؤكدون ولا ينفون. يؤكّد مصدر عسكري لـ«الأخبار» أن «مرحلة جديدة من المواجهة بدأت في سوريا. وبغض النظر عن الخسائر التي أوقعها الهجوم في الجولان المحتل، إلا أنه كان هنالك رسالة يجب أن تصل بسرعة، مفادها أننا قادرون على استهدافكم بطرق عديدة، رغم ما تدّعونه من إمساك بالجبهة مع سوريا، ورغم ما توظفونه من إمكانات لحماية أنفسكم». ورغم التهديد والوعيد، والصراخ الإسرائيلي، إلا أن الرسالة وصلت بالفعل.