إن قصة بني بويه تشبه الخرافات والاساطير، وأي إنسان يقرأ أن رجلا فقيرا لا يملك، ولا يقدر على شيئ وينقل الحطب على رأسه من الجبال إلى البيوت ليحصل على الرغيف يقفز من حاله هذه إلى الملك الطويل العريض، والسيطرة على بلاد العرب والعجم، أي إنسان يقرأ هذا، ولا يراه أسطورة وخرافة؟ ولكن هذا ما حصل بالفعل لآل بويه.
كان في أوائل القرن الرابع الهجري في بلاد الديلم رجل فقير يدعى " أبو شجاع بويه " ماتت زوجته، وخلفت له ثلاثة بنين، وهم أبو الحسن علي، وأبو علي الحسن، وأبو الحسن أحمد، فاشتد حزنه، وضاقت به الارض، فقال له أحد أصحابه يعزيه ويسليه: ارفق بنفسك، وأولادك هؤلاء المساكين، ثم أخذه مع أولاده إلى منزله، وهيأ لهم الطعام، وشغل أبا شجاع عن مصابه وآلامه.
قال إبن الاثير في حوادث سنة ۳۲۱:
فبينما هم كذلك إذ مر رجل يصيح ويقول عن نفسه: منجم، ومفسر للمنامات، ويكتب الرقى والطلسمات.
فدعاه أبو شجاع، وقال له: رأيت في منامي كأنني أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة استطالت وعلت، حتى كادت تبلغ السماء، ثم صارت ثلاث شعب، وتفرع عن كل شعبة عدة شعب، فاضاءت الدنيا بتلك النيران، ورأيت البلاد والعباد خاضعين لها.
فقال المنجم: هذا منام عظيم لا أفسره إلا بخلعة.
فقال له أبو شجاع: والله لا أملك إلا الثياب التي على جسدي، فإن اخذتها
بقيت عريانا.
قال المنجم: فعشرة دنانير.
قال أبو شجاع: والله لا أملك دينارا واحدا.
قال المنجم: اعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الارض ومن عليها، ويعلو ذكرهم في الآفاق، كما علت تلك النار، ويولد لهم ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعب.
فقال أبو شجاع: أما تستحي تسخر منا؟ أنا رجل فقير، وأولادي هؤلاء فقراء مساكين، فكيف يصيرون ملوكا؟
قال المنجم: أخبرني بوقت ميلادهم، فلما أخبره جعل يحسب، ثم قبض على يد أبي الحسن علي فقبلها، وقال: هذا والله الذي يملك البلاد، ثم هذا من بعده، وقبض على يد أخيه أبي علي الحسن. فاغتاظ منه أبو شجاع، وقال لاولاده اصفعوه، فقد أفرط في السخرية بنا، فصفعوه، وهو يستغيث.
ثم قال لهم المنجم: اذكروا لي هذا إذا قصدتكم، وأنتم ملوك، فضحكوا منه، واستخفوا به. ولم تمض الايام، حتى تحققت نبوءة المنجم بكاملها، وذلك أن أبا شجاع اضطر لفقره أن يدخل أولاده الثلاثة في الخدمة العسكرية جنودا مرتزقة، ولكن سرعان ما ارتقوا بدهائهم ومهارتهم إلى مرتبة القواد وأمراء الجيش، وأخذوا يستميلون الناس بحسن المعاملة، ويكسبون محبة الضباط بالمال، فقويت شوكتهم، وانتشر صيتهم، ولما اطمأنوا إلى قوتهم خرجوا عن طاعة الحاكم الذي يعملون بأمره، وكان اسمه " مرداويج " وأستقلوا عنه.
علي بن بويه عماد الدولة وأول من ملك من البويهيين علي بن بويه، أكبر أولاد أبي شجاع، وكان يلقب بعماد الدولة، وكان ابتداء سلطانه في شيراز عام ۳۲۱ ه، ثم امتد إلى إيران والعراق، وغيرها من بلاد بني العباس.
قال آدم متز في الجزء الاول من " الحضارة الاسلامية " ص ۳٥ وما بعدها طبعة ثالثة:
كان سبب ارتفاع علي بن بويه سماحته وشجاعته، وسعة صدره، وحسن سياسته، فمن ذلك انه استمال الحسين بن محمد الملقب بالعميد. ولا طف قواد مرداويج، وأفضل عليهم، حتى أوجبوا طاعته، وكان ذا فضل يتسامع به الناس، فيميلون إليه، فلا عجب إذن أن يسهل عليه الانتصار، على جيش الخليفة، حتى استولى على جنوب إيران، وكان بنو بويه إلى جانب هذا يحسنون معاملة الاسرى، ويعفون عنهم، ويؤمنونهم من جميع ما يكرهون، حتى يطمئنوا إليهم، على حين كان اعداؤهم يعدون للاسرى قيودا وبرانس ليشهروهم بها، ولقد ظفر علي بن بويه بأعداء له، معهم هذه الآلات، فعدل عن العقاب إلى العفو، وابتعد عن الطغيان. وهو الذي يرجع إليه الفضل فيما بلغه بيت بني بوية من قوة وعزة.
وقال ابن الاثير في حوادث ۳۲۲: حين استولى علي على شيراز نادى في الناس الامان، وبث العدل. وقد ساعده الحظ في أمور، منها أن الجند طلبوا أرزاقهم منه، ولم يكن عنده ما يعطيهم، فكاد ينحل أمره، فقعد في غرفة دار الامارة بشيراز، يفكر في أمره، وأصابه غم شديد، وفبينما هو مستلق على ظهره، وقد خلا للفكر والتدبير إذ رأى حية، قد خرجت من موضع في سقف الغرفة، ودخلت في ثقب، فخاف أن تسقط عليه، فدعا الفراشين، ففتحوا الموضع، فرأوا وراءه بابا، فدخلوه إلى غرفة أخرى، فوجدوا فيها عشرة صناديق مملوءة مالا ومصاغا، فأنفقه في رجاله، وثبت ملكه بعد أن أشرف أمره على الانحلال.
وأراد ذات يوم أن يفصل ثيابا، فدلوه على خياط لياقوت حاكم شيراز الأسبق، فحضر الخياط خائفا، وكان أصم، فقال له عماد الدولة: لا تخف إنما احضرناك، لتفصل لنا ثيابا، فلم يفهم ما قال، وحلف الخياط بالطلاق، والبراءة من دين الاسلام أن الصناديق التي أودعها عنده ياقوت ما فتحها، وما أخذ شيئا منها، فتعجب عماد الدولة من ذلك، وأمره بإحضار الصناديق، فأحضرها، وكانت ثمانية صناديق، فيها مال وثياب.
وجاء في هامش ابن الأثير ج ٦ / ۳۳۳ طبعة 1۳٥۳ هـ ": توفي بشيراز عن سبع وخمسين سنة، ولم يكن له ولد ذكر، وكانت مدة ملكه ست عشرة سنة، وكان من خيار الملوك في زمانه، وممن حاز قصب السبق دون أقرانه".
ركن الدولة ومعز الدولة:
قال إبن الأثير: كان عماد الدولة أمير الأمراء. فلما مات صار أخوه ركن الدولة أمير الامراء. أما أخوهما الاصغر أحمد الملقب بمعز الدولة، فقد كان أمير العراق منذ عهد أخيه علي عماد الدولة، وكان هو المستولي على الخلافة، قال السيد مير علي في" مختصر تاريخ العرب" /۲٦۰ طبعة سنة ۱9۳۸:
" لم يلبث معز الدولة أن أضطر الخليفة إلى أن يقلده السلطة، كما نقش اسمه على العملة، وذكر اسمه مقرونا باسم الخليفة في خطبة الجمعة، وكان موقفه من الخليفة كموقف تشارل مارتيل من ملوك فرنسا، إذ كان هو الحاكم الحقيقي، وكان الخليفة لا حول له، ولا قوة، مجردا من كل سلطة، وليس له من الشؤون غير قبض المخصصات، وقدرها خمسة آلاف دينار من خزينة الدولة، وكان معز الدولة محبا للفنون والعلم. وهو الذي جعل اليوم العاشر من المحرم يوم حزن لذكرى موقعة كربلاء (۱).
وفي حاشية ابن الأثير ج ۲ /۳۱٥ طبعة ۱۳٥۳ هـ " أن معز الدولة عزم على عزل الخليفة العباسي، ومبايعة محمد بن يحيى الزيدي العلوي، فمنعه الصيمري من ذلك ".
وتوفي معز الدولة في ملك أخيه ركن الدولة سنة ۳٥٦، قال ابن الأثير: " وفي هذه السنة ابتدأ معز الدولة في بناء المارستان، وأرصد له أوقافا جزيلة، وأظهر التوبة، وتصدق بأكثر أمواله، وأعتق مماليكه، ورد شيئا كثيرا على أصحابه، وكانت إمارته ۲۱ سنة و ۱۱ شهرا ويومين، وكان حليما كريما عاقلا ".
أما أخوه ركن الدولة الحسن بن بويه فدامت إمارته أربعا وأربعين سنة، وزاد عمره على السبعين، وقال آدم متز في" الحضارة الإسلامية " ج ۱ / ۳۸: أما ركن الدولة فقد كان حليما واسع الكرم، حسن السياسة لرعاياه وجنده، رؤوفا بهم، بعيد الهمة، يتحرج من الظلم، ويمنع أصحابه منه، وقد أثنى المؤرخون على عدله وكرمه.
وقال ابن الأثير: كان ركن الدولة حليما كثير البذل، بعيد الهمة، متحرجا من الظلم، عفيفا عن الدماء يرى حقنها واجبا إلا فيما لا بد منه، وكان يجري الارزاق على أهل البيوتات، ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعة، ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة، ويتصدق بالأموال الجليلة، ويلين جانبه للخاص والعام. رضي الله عنه وأرضاه، وكان له حسن عهد، ومودة وإقبال، توفي سنة ۳٦٦ ه. واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة.
عضد الدولة:
كان عضد الدولة يمثل السيد الحاكم تمثيلا حقيقيا، وقد خضعت لسلطانه البلاد الممتدة من الخزر إلى كرمان وعمان، فلا بدع أن يلقب بشاهنشاه (ملك الملوك) لأول مرة في الإسلام، وقد ظل هذا اللقب لمن جاء بعده من ملوك الفرس.
وكان يعنى بمعرفة الأخبار وسرعة وصولها، شأن كل من يريد أن يحكم دولة كبيرة حكما صحيحا، فكان يسأل عن الأخبار الواردة، فإن تأخرت عن وقتها قامت قيامته، وكانت الأخبار تصل من شيراز إلى بغداد في سبعة أيام، أي أنها تقطع في كل يوم ما يزيد على مائة وخمسين كيلومترا.
وقد أحكم نظام الجاسوسية، فكان يبحث عن أشراف الملوك، وينقب عن سرائر هم، وكانت أخبار الدنيا عنده، حتى لو تكلم إنسان بمصر وصل إليه الخبر، وأن رجلا بمصر ذكره بكلمة، فاحتال، حتى جاء به، ووبخه عليها، ثم رده إلى مكانه، فكان الناس يحترزون في كلامهم وأفعالهم من نسائهم وغلمانهم.
وقد طهر السبل من اللصوص، ومحا أثر قطاع الطريق، وقد دس على اللصوص في إحدى القوافل بغلا يحمل حلوى مسمومة، فأكلوا منها فهلكوا، وكانت هذه أعظم مكيدة، وأعاد النظام إلى صحراء جزيرة العرب، وصحراء كرمان، وكانت مخيفة، وكان سكانها يضعون الضرائب على قوافل الحج،فارتفعت، وتحقق الامن، وأقام للحجاج السواقي في الطريق، واحتفر لهم الآبار، واستفاض الينابيع، وأدار السور على مدينة الرسول، وأمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها. وابتدأ بالمساجد الجامعة، وكانت في نهاية الخراب، وهدم ما كان مستهدما بنيانها وأعادها جديدة قوية، والزم أرباب العقارات بالعمارة، فمن قصرت يده أقرضه من بيت المال (بنك التسليف للانشاء والتعمير). وفي عهده امتلأت الخرابات بالزهر والخضر والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب، ومطارح الجيف والأقذار، وجلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.
وكانت الأنهار ببغداد قد دفنت مجاريها، وعفيت رسومها، فأمر بحفرها من جديد، وأقام القناطر والجسور، وعملت عملا محكما، وحضر كثيرا من أهل البادية، فزرعوا وعمروا البرية، ومع هذا لم تكن العراق مركز الدولة، بل كان مركزها في فارس، وبنى سوقا للبزازين (تجار الأقشمة) وكان ينقل إلى بلاده ما لا يوجد فيها من الأصناف، وشيد مارستانا كبيرا ببغداد، وأمر بإدرار الأرزاق على قوام المساجد والمؤذنين وأئمة الصلاة، والقراء، وإقامة الجرايات لمن يأوي إليها من الغرباء والضعفاء، وتجاوزت صدقاته أهل الإسلام إلى إهل الذمة، وأذن للوزير في عمارة البيع لليهود، والأديرة للنصارى، وإعطاء الأموال لكل محتاج، وإن لم يكن مسلما.
وكان يتصدق كل جمعة بعشرة آلاف درهم على الضعفاء والأرامل، ويصرف كل سنة ثلاثة آلاف دينار ثمن أحذية للحفاة من الحجاج، وعشرين ألف درهم كل شهر لتكفين الموتى، واستحدث ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء، ولم يمر بماء جار إلا بنى عنده قرية، وكان ينفق على أهل مكة والمدينة وطرقهما ومصالحهما مائة ألف دينار كل سنة، وكان يبذل مالا كثيرا على عمارة المصانع، وتنقية الآبار، ويعطي سكان المنازل التي في الطرقات، ليقدموا العلف لدواب المسافرين.
وكان يحب العلم والعلماء، ويجري الارزاق على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، والمفسرين والنحاة والشعراء، والنسابين والأطباء، والحساب والمهندسين، وأفرد لأهل الاختصاص من العلماء والحكماء موضعا يقرب من مجلسه، وأنشأ مكتبة تحتوي على كل كتاب صنف إلى وقته من جميع أنواع العلوم (2).
وقال الشيخ القمي في كتاب " الكنى والألقاب ":
كان عضد الدولة يعظم الشيخ المفيد، وقد ألف له العلماء العديد من الكتب، وقصده فحول الشعراء، ومدحوه بأحسن المدائح، منهم أبو الطيب المتنبي الذي قال فيه:
وقد رأيت ملوك الأرض قاطبة * وسرت حتى رأيت مولاها
أبا شجاع بفارس عضد الدو * لة فنا خسرو وشاهنشاها
أساميا لم تزده معرفة * وإنما لذة ذكرناها
ومن آثاره تجديد عمارة مشهد أمير المؤمينن، وكان أوصى بدفنه فيه، فدفن بجواره (ع)، وكتب على لوح قبره: " هذا قبر عضد الدولة، وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة، أحب مجاورة هذا الإمام المعصوم لطمعه في الخلاص يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وصلاته على محمد وعترته الطاهرة ".
ولد عضد الدولة سنة ۳۲٤، وتولى الملك سنة ۳٦٦، وتوفي سنة ۳۷۲ ه. وكان عازما على القيام بمشروعات كثيرة غير ما تقدم، فعاجلته المنية.
صمصام الدولة وشرف الدولة:
وتولى بعد عضد الدولة ولده أبو كاليجار الملقب بصمصام الدولة، ونازعه الملك أخوه شرف الدولة أبو الفوارس، ودارت بينهما حروب طاحنة دامت أربع سنوات، وفي النهاية تغلب شرف الدولة على أخيه الصمصام، وقبض عليه، وأبقاه تحت الاعتقال، واستولى على المملكة بكاملها، وفي سنة ۳۷9 توفي شرف الدولة، وكان عمره ۲۸ سنة وخمسة شهور، وقام بعده ولده أبو نصر الملقب ببهاء الدولة.
بهاء الدولة:
ولما ولي بهاء الدولة نازعه عمه فخر الدولة بن عضد الدولة، ثم عمه صمصام الدولة، ووقعت بينهما حروب دامية، وتوزعت المملكة بين الجميع، وقتل صمصام الدولة سنة ۳۸۸. ومات بهاء الدولة سنة ٤۰۳، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين، فدفن هناك، وكان عمره ٤۲ سنة، وبضعة شهور، ودام ملكه ۲٤ سنة، وولي بعده ولده أبو شجاع سلطان الدولة.
سلطان الدولة:
ولما ملك سلطان الدولة ولى أخاه أبا طاهر الملقب بجلال الدولة البصرة، وأخاه الثاني أبا الفوارس بلاد كرمان، وأخاه الثالث مشرف الدولة العراق، وأقام هو في شيراز.
وبعد أمد خرج عليه أخوه أبو الفوارس، وأراد اتنزاع الملك منه، ولكن سلطان الدولة تغلب عليه، وعفا عنه، وأيضا خلعه أخوه مشرف الدولة، وأزال ملكه عن العراق، وخاطبه الناس بشاهنشاه، وانضم إليه أخوه جلال الدولة، وكان ذلك سنة ٤۱۱. وفي سنة ٤۱۳ اتفقا، وحلف كل منهما للآخر على أن تكون العراق لمشرف الدولة، وفارس لسلطان الدولة.
وفي سنة ٤۱٥ مات سلطان الدولة، فتولى بعده ابنه أبو كاليجار، ودارت حروب بينه وبين عمه أبي الفوارس انتهت بالصلح ببقاء العراق بيد مشرف الدولة دون منازع، وفارس لأبي كاليجار.
وفي سنة ٤۱٦ مات مشرف الدولة وتولى بعده على العراق أخوه جلال الدولة. قال ابن الأثير: كان مشرف الدولة كثير الخير، قليل الشر، عادلا، حسن السيرة.
جلال الدولة:
قال صاحب " النجوم الزاهرة " في الجزء الخامس: كان جلال الدولة ملكا محبا للرعية حسن السيرة، وكان يحب الصالحين، ولقي من الأتراك في سلطنته شدائد.
وقال ابن الأثير في حوادث ٤۲9: في هذه السنة سأل جلال الدولة القائم بأمر الله أن يخاطبه الناس بملك الملوك، فقال له: نستفتي بذلك الفقهاء، فأفتى بالجواز أبو الطيب الطبري، والصيمري،وابن البيضاوي، والكرخي، وامتنع أبو الحسن الماوردي، ولقب جلال الدولة بملك الملوك، وقد جرى بين الماوردي وبين الفقهاء الذين أفتحوا بالجواز نقاشا وجدالا، هذا، وإن الماوردي أخص الناس بجلال الدولة وأقربهم منزلة منه، ولكنه آثر دينه على هوى الملوك، ولما أفتى بالتحريم وعدم الجواز إنقطع عن جلال الدولة، ولزم بيته خائفا، وفي ذات يوم استدعاه جلال الدولة، فلبى، وهو موقن بالذبح، ولما دخل عليه أكرمه وعظمه، وقال له فيما قال: إني أعلم بأنك ما قلت وما فعلت إلا لمرضاة الله والحق، وقد بان لي موضعك من الدين، ومكانك من العلم، وإنك أعز لدي من الجميع. وهذا شاهد صدق على عدل جلال الدولة وإنصافه، وتواضعه للحق. ومات جلال الدولة سنة ٤۳٥.
قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة:
" كان مولده سنة ۳۸۳، وملكه ببغداد ۱٦ سنة و ۱۱ شهرا. ومن علم سيرته، وضعفه، واستيلاء الجند والنواب عليه، ودوام ملكه إلى هذه الغاية علم أن الله على كل شئ قدير، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، وكان يزور الصالحين، وزار مرة مشهد علي وولده الحسين (ع)، وكان يمشي حافيا قبل أن يصل إلى كل مشهد منهما نحو فرسخ، يفعل ذلك تدينا ".
أبو كاليجار:
وتولى بعد جلال الدولة أبو كاليجار بن سلطان الدولة، ووقعت الحرب بينه وبين طغرل بك السلجوقي، ثم تم الصلح بينهما، واستقرت الحال، وتزوج طغرل بك ابنة أبي كاليجار، وتزوج ابن أبي كاليجار بابنة أخ طغرل بك.
وفي سنة ٤٤٦ مات أبو كاليجار، وكان عمره ٤۰ سنة وشهورا، ودام ملكه على العراق ٤ سنوات وشهرين ونيفا وعشرين يوما.
الملك الرحيم:
وتولى بعد أبي كاليجار ولده أبو نصر الملقب بالملك الرحيم، ولكن لم تطل أيامه، فقد دخل طغرل بك بغداد سنة ٤٤۷ واستولى عليها، وقبض على الملك الرحيم، وسجنه في إحدى القلاع، وانتهى به ملك البويهيين الذي امتد من سنة ۳۲۱ هـ إلى سنة ٤٤۷. والسبب الأول لأنهيار دولتهم وزوالها على أيدي السلجوقيين شغلهم بالحروب الخارجية والداخلية، بخاصة بين أمراء البيت البويهي بعضهم مع بعض حول الملك.
هذا ملخص تاريخ ملوك بني نويه، وقد أشرنا في مطاوي الحديث عنهم إلى اهتمامهم بالعلوم والآداب، ونعطف على ما قدمناه ما جاء في كتاب " مختصر تاريخ العرب " للسيد مير علي ص ۲٦۲ طبعة ۱9۳۸:
" لقد شجع البويهيون الروح الأدبية في البلاد، وعضدوا مدرسة بغداد التي كان قد اضمحل شأنها في أثناء تدهور الخلافة. وحفروا الجداول وهيأوها إلى الملاحة، حتى مدينة شيراز، فأزالوا بذلك خطر الفيضانات الدورية التي كانت تغمر المناطق، كما شيد عز الدولة مستشفى فخما، وفتح عدة كليات في بغداد ".
وجاء في كتاب " الأدب في ظل بني بويه " للغناوي / ۱۲۷ طبعة 949:
" امتاز عهد آل بوية بالخصب العلمي والأدبي بتأثيرهم الخاص، أو بتأثير وزرائهم، ذلك أنهم استوزروا أبرع الكتاب وأبرزهم، واعتمدوا عليهم في تدبير شؤون الحرب وأمور السياسة الإدارة والمال جميعا، فلمعت اسماؤهم، وعظمت هيبتهم، وطار صيتهم في الآفاق، فقصدهم أهل العلم والأدب، فأفادوا منهم كثيرا، وأنتجوا كثيرا في ميدان الأدب والفلسفة والعلم، فكان أثرهم في الحياة الفكرية قويا جدا ربما فاق أثر أسيادهم، أي الخلفاء العباسيين ".
أما مناصرتهم لمذهب التشيع فقد ذهبوا فيه إلى أقصى حد، وكان الغالب في بغداد عاصمة الدولة مذهب التسنن قبل البويهيين، وبعدهم نما فيها مذهب التشيع، وانتشر.
قال ابن الأثير في حوادث سنة ۳٥۲:
" في هذه السنة أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم في عاشر المحرم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، ويظهروا النياحة على الحسين، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنة قدرة على المنع منه لكثرة الشيعة، ولأن السلطان منهم.
وفي ثامن عشر ذي الحجة أمر معز الدولة بإظهار الزينة بالبلد، وأشعلت النيران بمجلس الشرطة، وفتحت الأسواق ليلا، كما يفعل في ليالي الأعياد كل ذلك فرحا بعيد الغدير ".
وقال في حوادث سنة ۳۸9:
إن أهل السنة عملوا يوم ۲٦ من ذي الحجة زينة عظيمة، وفرحا شديدا، وقالوا: هذا يوم دخول النبي وأبي بكر إلى الغار، فعملوا ذلك مقابل يوم الغدير، وكذلك عملوا في ۱۸ المحرم مثل ما يعمل الشيعة يوم عاشوراء، وقالوا: هو يوم قتل فيه مصعب بن الزبير.
وما اقتصر آل بويه في خدمة التشيع على مظاهر الفرح يوم الغدير، وشعائر الحزن يوم عاشوراء، بل كانوا يبذلون جهدهم في خدمة أهل البيت بشتى الوسائل، وكانوا يحترمون علماء الشيعة بجميع طرق الاحترام من التبجيل والعناية، وبذل الأموال الكثيرة، وقد كان عضد الدولة يركب في موكبه العظيم، لزيارة الشيخ المفيد.
كما أن آل بويه أسكنوا الشيعة في المشاهد المقدسة، وخصصوا لهم الرواتب. وأقاموا الأبنية الضخمة، وعليها القباب الرفيعة لتلك الأضرحة الكريمة، حتى أن عضد الدولة أقام في المشهد العلوي هو وجنده قريبا من سنة، ليشرف على تعمير القبر الشريف بنفسه، وبنى حوله الدور والرباطات، وأجزل للعلويين العطاء، وللمجاورين، والخدمة، وأوجد القناة المعروفة بقناة آل بويه، وفعل مثل ذلك في المشهد الحسيني بكربلاء، ومن المؤرخين من اعترف بانتشار التشيع في عهد البويهيين، وتكثر الشيعة في دولتهم (3).
الهوامش :
(۱) أي جعله يوم حزن بصفة رسمية، تعطل فيه الدوائر الحكومية، وتقفل الأسواق، وإلا فإن هذا اليوم هو يوم حزن عند الشيعة قبل المعز، ومنذ اليوم الاول الذي استشهد فيه سيد الشهداء.
(2) هذا الحديث عن أعمال عضد الدولة نقلناه بالحرف من كتاب " الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري " لآدم متز، تعريب الاستاذ محمد عبد الهادي أبي ريدة.
(3) تاريخ الشيعة للشيخ محمد الحسين المظفر.
المصدر: كتاب الشيعة في الميزان للشيخ محمّد جواد مغنية