أي إنسان هذا الذي يصلح العالم؟

السبت 5 مايو 2018 - 07:59 بتوقيت مكة
أي إنسان هذا الذي يصلح العالم؟

أحد أهم مميّزات الإنسان المخلِّص: قوّته العلميّة التي تتجلّى أوّلًا في إقناع العلماء والفقهاء...

السيد عباس نورالدين

ما نعرفه ونؤمن به أنّ وعد الله لا بد أن يتحقّق يومًا فتشرق الأرض بنور ربّها ويرثها عباد الله الصالحون. كلّ ذلك بعد القضاء على المتكبّرين الظالمين وتتبير العتاة الطواغيت المفسدين. ولأنّ حكم الطواغيت وسلطانهم لا يقوم إلا بالناس والأتباع، فلا بدّ من الفصل بينهم وإفقادهم أهم عناصر القوّة والبقاء.
إنّ انفضاض الناس عن حكومات الباطل والجور هو المقدّمة الضروريّة لضعفها وسقوطها. لهذا، من المناسب والضروريّ أن نلتفت إلى أسباب تأييد الشّعوب لحكّامها ودعمهم لأنظمتها وعدم الانفضاض عنها وتركها.
هذا التأييد الواسع للحكومات المدّعية للديمقراطية يرجع إلى عوامل عدّة؛ يقف على رأسها الاعتقاد بأنّه لا يوجد نظام أفضل منها؛ وهذا طبعًا بعد أن كان الاعتقاد السائد أنّها النظام الوحيد الصحيح. ولأنّ هذه الشعوب تقيس الأمور بحسب رغباتها وآمالها وتوقعاتها من هذه الحياة الدنيا، ولأنّ كل هذا القياس مبني على رؤية كونيّة ونظرة اعتقادية للكون والوجود والمصير، فما لم تتغيّر هذه الثقافة وتتبدّل قيمها، لا يُتوقع أن تنفض تلك الشعوب عن حكوماتها وتترك دعمها.. وسوف يبقى الدعم المنقطع النظير للكيان الصهيونيّ ولكلّ التحرّكات التي تدمّر العالم الإسلاميّ، وسوف تبقى عقيدة الضربات الاستباقية والهجوم العسكريّ والاحتلال والاستعمار سائدة في أوساطهم؛ لأنّ كل هذه الجرائم ليست سوى أثمان ونتائج لذلك التأييد الشعبيّ.
ولا يبدو أنّ تلك الشعوب ستقلع عن هذه الثقافة إلّا بعد أن تدرك عجز هذه الثقافة عن تحقيق الحدّ الأدنى من الكرامة الدنيويّة لهم. وهذا ما سيتحقّق أوّلًا حين يتم قطع اليد الخشنة والصلبة للحكومات المعادية للمسلمين عن بلدانهم ومصائرهم؛ حيث سيعجز ذلك الجسد الواهي عن الاستمرار في نهب ثروات المسلمين والشّعوب المستضعفة. ولا ينبغي أن يخفى علينا أنّ الكثير من عناصر الازدهار الاقتصاديّ في الغرب ترجع إلى هذا النهب المنظّم الذي بدأ منذ عشرات السّنين.
وهكذا سيجتمع عجز الأطروحة والإدارة مع فقدان القدرة والثروة، فتتهاوى أنظمة الغرب المستكبر وتترنّح على وقع ضربات شعوبها المستفزَّة الساخطة. وربما تعم فوضى لم يعرف لها العالم نظيرًا في تلك البلاد، التي ما فتئت تُعدّ واحات آمنة يستحيل فيها الحروب والفتن بعد الحرب العالمية الثانية.
ما أثبتته التجارب الاقتصاديّة المختلفة هو فشل النّظام الرأسماليّ بما هو نظام اقتصاديّ مستقل. ولولا استمرار نهب الثروات المختلفة لدول الخليج واستغلال الصين والعديد من بلدان العالم، لما استطاع هذا النظام أن يثبُت بعد الانهيار الكبير عام 2008.
فيبقى التحدّي الكبير أمام المسلمين في قطع أيدي الغربيّين الناهبين ومنعهم من نهب ثروات النفط والغاز وغيرها من الثروات غير المباشرة. وهنا يبدو أنّنا سنكون أمام سيناريو مواجهة كبيرة في الأيّام المقبلة، ستنتهي إن شاء الله بقطع العديد من خراطيم ذلك الأخطبوط الخبيث.
لكن ضعف الأنظمة الغربيّة وتهاوي حكوماتها لن يكون سوى مقدّمة للتغيير الكبير والإصلاح الأكبر. فما تحتاج إليه البشرية أكثر من أي شيء، هو ذلك النظام الجامع الذي يتمكّن من إحداث التّغيير الأنفسي عبر طرح طرق الخلاص وحلّ المشكلات الاقتصاديّة والبيئيّة والاجتماعيّة والأمنيّة.
ولا يبدو أنّ هناك مجتمعًا أو تجربة إسلامية قادرة على تقديم مثل هذه الأطروحة. لأنّ استنباط أطروحة الدين وتقديمها يتطلّب نوعين من الجهود المتضافرة. الأول: القدرة العلمية المميزة التي تستطيع أن تستنطق القرآن، فتستخرج منه الأنظمة الاقتصادية والتربوية والتعليمية التقدّمية، وتحقّق نوعًا من الإجماع العلمائي عليه (مثلما حدث على نحوٍ مصغّر في قضيّة ولاية الفقيه). ومثل هذا الإجماع بحدّه الأدنى يفتقد اليوم إلى المقوّمات العلميّة والأصول اللازمة. فقد أثبتت التجربة الاجتهادية الحالية عجزها عن مثل هذا الاستنباط المرتبط بالأحكام العامّة والنظم الاجتماعيّة. ولا يوجد سوى إلماعات وإضاءات تبرز كل حين من هنا أو هناك.
وباعتقادي، إنّ مثل هذا التحوّل والتطوّر الاجتهاديّ غير ممكن في ظلّ التمسّك المبالغ به بالتراث والآليات السابقة. ولا يوجد في الأفق أي إرهاص لمثل هذه الثورة، التي تقدر على حفظ الإنجازات الجميلة والقفز فوقها إلى مستوى التحدّيات الكبرى. ممّا يعني أنّنا أمام عجز لا يخرجنا منه سوى الاعتراف به اعترافًا علميًّا نظريًّا قبل أي شيء، ثم التوجّه الصادق إلى من يمتلك الحل والقدرة العلميّة اللازمة لتقديم أطروحة القرآن في كلّ مجالات الحياة وتحقيق التأيّيد العلمائيّ الواسع.
لهذا، فإنّ أحد أهم مميّزات الإنسان المخلِّص: قوّته العلميّة التي تتجلّى أوّلًا في إقناع العلماء والفقهاء، الذين سيهولهم في البداية ما يرونه من دين جديد لم يعهدوه من قبل. ولا شك بأنّ هذا الدين الجديد لا يمكن أن يكون مقنعًا إلا إذا ارتبط بالقرآن ونبع منه.
من هنا نفهم مثل هذه الروايات التي تبيّن أن إمام الزمان ـ عجل الله فرجه ـ حين يخرج، فسوف يواجه علماء وفقهاء كلٌ يتأوّل عليه بآية من القرآن.
لهذا، فالمتوقع أن يحصل نزاع وحوار ونقاش فكريّ علميّ بين الإمام والعلماء، حيث سينتصر الإمام بقوّة الفكر والعلم لا بقوّة السيف والبطش. فهذه المواجهة رغم ما فيها، هي الفرصة الكبرى التي كان يتطلّع إليها أئمّتنا الأطهار طوال عصور حضورهم في الأمّة.
ومما يؤسف له، إنّ التوجّه العام لتفسير أحداث ما قبل الظهور وما بعد الخروج يتمحور حول قضيّة واحدة، وهي قضية المواجهات العسكريّة والقتال بالسيف. وقد تمسّك العديد من المتخصّصين والمهتمّين بهذا التوجّه لعجزهم عن فهم عناصر القوّة الحقيقيّة في التغيير الاجتماعيّ والكونيّ، وظنّوا أنّ قضية الإمام كانت وما زالت بسبب قلّة الجند والعسكر. في حين أنّنا لو تأمّلنا قليلًا لوجدنا أنّ المشكلة كانت بشكل أساسي ناشئة من ضعف إدراك الأطروحة الإلهيّة الدينية وقلّة العلم بها.
ولو فهم المسلمون الأوائل حقيقة الدين وأطروحته وأهدافه وتطلّعاته وخطّته لما قبلوا بالفصل بين العلم والدولة، ولأصرّوا على الدخول جميعًا إلى مدينة العلم من بابها.
وهكذا، نفتقد اليوم إلى هذا الوعي في أوساط النخب والكوادر تجاه أهم قضية في العالم. فنفقد القدرة على توجيه الجهود بالاتّجاه الصحيح، ونصرّ على اتّباع طريقٍ واحد هو طريق القدرة المادية.

المصدر: مركز باء للدراسات

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 5 مايو 2018 - 07:59 بتوقيت مكة