السيد عباس نورالدين
إنّ ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه) يقوم على تحقّق حالة اجتماعية سياسية أساسية لا يشكّ فيها أي عارف بدور الإمام المعصوم وما يمثّله؛ وهذه الحالة أو الوضعية الاجتماعية عبارة عن وجود جبهة حقيقيّة تدعو إلى الإمام المهدي وتطالب به باعتباره قائد عملية التغيير الكبرى في الأرض .
لهذه الجبهة مواصفات عدّة تتمحور حول معرفة الإمام في مقامه ودوره الربّاني؛ ولا بدّ أن تتجلى هذه المعرفة في واقع أهل هذه الجبهة وسلوكيّاتهم بالسعي والجهاد والتمسّك بالقيم الكبرى التي يدعو لها القرآن الكريم.
ولا شك بأنّ هناك نسبة معيّنة من أهل هذه الجبهة ممن يدّعون هذه المعرفة أو يرفعون شعارات المهدويّة وهم في واقعهم النفسيّ بُراء منها. ولهذا، يأتي دور التمحيص والاختبار الذي ينتج عنه تبلور هذه الجبهة ككتلة متراصّة قويّة قادرة على المضيّ مع الإمام حتى النهاية. فبظهور الإمام الثاني عشر ليس مسموحًا لأي فشل، لأنّه يمثل آخر الخلفاء الإلهيّين، وبتعبير البعض الطلقة الأخيرة في مخزن النبوّة والرسالة.
ولأنّ وعد الله حقّ لا خُلف فيه، ولأنّ تحقق الوعد الإلهيّ مشروطٌ بوجود خليفة معصوم هو قائدٌ ربّاني عادل، فلينتظر العالم آلاف السنين إن لم تتحقّق الشروط الأساسية لنصرته وتحقيق الأهداف الكبرى بقيادته.
إنّ أحد أهم أسباب تأخّر ظهور الإمام وطول عصر الغيبة يرجع إلى هذه النقطة بالذات. فلا يمكن أن يكون آخر آمال العالم ممّن يجرّب مع الناس ويفشل. ولهذا، فهو ـ عليه السلام ـ يعمل منذ مئات السنين على بناء هذه الجبهة الثابتة القوية.
يمكن القول بأنّ كل ما جرى في العالم منذ بداية الدعوة الإلهية، وما يجري اليوم، إنّما يتمحور حول بناء هذه الجبهة حتى تكتمل؛ وبمقدار ما نتعرّف إلى خصائص ومميّزات هذه الجبهة، يمكننا أن نفسّر أحداث العالم الكبرى واستشراف العديد منها! كل هذا بالطبع بمعزل عن توقيتها وتحديد مواعيدها، لأنّ التحوّلات الاجتماعية والسياسية والأمنية، وإن كانت تقع في نطاق الزمان، بَيد أنّ سرعتها وما فيها من متغيّرات وعناصر هي أخفى من أن يحيط بها سوى من شاء الله.
تكوين هذه الجبهة كمًّا ونوعًا، وتمحيصها، وتثبيتها بما يتناسب مع الاستحقاق والتحدّي الكبير، هي الأعمال الجادّة التي كان يقوم بها الإمام طيلة غيبته. وهذا ما يؤدّي حتمًا إلى تلك التفاعلات والانفعالات المختلفة حولها ممّا يساهم أيضًا في بنائها وتقويتها.
وتحدث هذه التفاعلات أوّلًا في بيت الموالين والمحبّين، ثمّ في الدائرة المسلمة من أهل الاستضعاف، ثمّ في نطاق ناصبي العداء والمخالفين، ثمّ في دائرة أهل الكتاب. ويكون هناك عددٌ كبير من الناس في العالم ممّن قيّضهم الله تعالى لاستثارة واستفزاز الذين كفروا من أهل الكتاب أو إلهائهم أو إشغالهم عن الموالين لبعض الوقت.
إنّ كثرة عدد المحايدين، الذين لا يعيشون أي نوع من ردّات الفعل تجاه حركة الإمام والرسالة، يكون بحسب بعض الاعتبارات الإلهية من أجل التخفيف عن المسلمين والموالين. فلو أنّ الذين كفروا استفردوا بهم لأبادوهم عن بكرة أبيهم، لما فيهم من الضعف والتشتّت.
تصوّر لو أنّ الأوروبيين لم يتقاتلوا ولم يقتلوا أنفسهم بالملايين في حربين عالميتين، فتفرّغوا للمسلمين، الذين كانت الحروب الداخلية والمجاعات وكل أشكال التخلّف والانحطاط قد انهكتهم، فهل تظن أنّه كان سيبقى للمسلمين أو الموالين من باقية؟!
تصوّر لو أنّه لا يوجد قوى كبرى، مثل الصين التي باتت تؤرق شيطان هذا العالم الأكبر وتأخذ حيّزًا كبيرًا من جهوده وتوجّهاته ومخطّطاته وإنفاقاته، فربما لحمل أمريكا على المسلمين حملة واحدة لتجتثّهم من الأرض!
ويتميّز معسكر الكفّار، الرافضين للإسلام والمعلنين العداء للرسالة المحمّدية الشريفة، بأنّهم كلّما تحرّكوا لمحاربة الإسلام جعل الله تعالى نتاج سعيهم ومكرهم وإجرامهم لمصلحة الموالين. كما شاهدنا في عراق صدّام أو أفغانستان طالبان وغيرها.
والميزة الأخرى لهذا المعسكر البئيس هي أنّه يستنفر معسكر الموالين ويحرّضهم ويرفع من هممهم وتوجّهاتهم واهتماماتهم ووعيهم، حيث يفرض عليهم ضرورة تطوير جبهتهم والنظر إلى الأمور من منظارٍ عالميّ والتفكير البعيد والتخطيط الاستراتيجي، وهي أمور لم يكن هؤلاء الموالون قد تربّوا عليها يومًا أو أدركوها في ثقافتهم، التي ابتعدت بمسافة ما عن عمق تراث الإسلام وأهل البيت عليهم السلام.
لهذا، كانت المواجهات المختلفة التي حصلت منذ انتصار الثورة الإسلامية وإلى يومنا هذا بين الموالين ومعسكر الشيطان الأكبر وأذنابه من الأوروبيين والصهاينة تنتهي دومًا عند تقوية معسكر الموالين وتطويره. ولم يسجّل التاريخ المعاصر أي مواجهة مع الكفّار أدّت إلى تراجع جبهة الحقّ وتقهقرها.
ومن حينٍ إلى آخر، يؤدّي التحالف أو التنابذ بين الشيطان الأكبر وناصبي العداء المخالفين من المسلمين، إلى فضيحة هؤلاء وتراجعهم وازدياد حماقاتهم وانكشاف مدى بعدهم عن الإسلام وعدم تمثيلهم الحقيقي للمسلمين ومقدّساتهم. فكأنّ الله تعالى جعل هذا الحقد، الذي يكنّه المخالفون لأهل البيت في صدورهم، وسيلةً لتثبيط كل مؤامراتهم العلنية والخفية ومنع تشكّل جبهة منافقة بين المسلمين.
إنّ من أهم مميّزات وخصائص ناصبي العداء والمبغضين لأتباع أهل البيت هي مسارعتهم إلى التحالف مع الشيطان الأكبر. وسبب ذلك يعود إلى تشكّل تلك العقائد والأفكار التي جعلتهم يصفون محبّي أهل البيت باليهود وإلصاق تهمة "أنجس من اليهود" بهم. فمثل هذه الأفكار الحمقاء والحقودة كانت تدفعهم إلى التعامل والتحالف مع من هم أقل نجاسة منهم (بحسب تفسيرهم)، أي اليهود والكفّار من أهل الكتاب! وبهذا تتوفّر مقدّمات فضيحتهم وانكشاف مدى بعدهم عن تعاليم الدين وقيمه العظيمة.
غالبًا ما كان هذا التحالف سببًا لتخلّي هؤلاء المتعصّبين الحقودين عن بعض القيم الإسلامية التي يدّعون احتكارها. فتراهم يسارعون إلى أشكال الفسق والفجور والسلوكيات المخالفة لأحكام الإسلام الضرورية أو المشهورة؛ ممّا يؤدّي إلى سقوط شرعيّتهم المزعومة التي بنوها على مدى سنوات من النفاق المستمر.
وحين يُعرف المنافقون يحصل التميّز والتزيّل ويزداد وضوحًا يومًا بعد يوم في أعين المسلمين من غير الموالين الذين لم يتسنَّ لهم معرفة حق أئمّة العدل. وبذلك تسقط أيضًا أهم عناصر قوّة هؤلاء المنافقين التي قامت على أساس ادّعائهم تمثيل الإسلام ومشروعه ورسالته وأطروحته للحياة.
إنّنا نشهد اليوم سقوط آخر مشاريع تمثيل الإسلام الاجتماعي السياسي وسط هذه الدائرة الواسعة من المسلمين. ويومًا بعد يوم يتبيّن مدى خواء هذه التيّارات والمذاهب على مستوى فهم الإسلام بعمق تعاليمه وأطروحته.
إنّ هذا التمايز أمرٌ ضروريّ، لأنّه يساهم في بلورة أطروحة جبهة الحقّ، التي عاشت ردحًا طويلًا من الزمن على هامش تيّارات مخالفة، وإن تمايزت عنها بأصول عقائدية أو بفهمها للإمامة السياسية. لكن هذا التمايز الجوهري لم يكن كافيًا لظهور الفارق الكبير الذي تتمتّع به على صعيد الإمكانات الفكرية والعقائدية والفقهية الكامنة. وكأنّنا كنّا على مدى التاريخ على موعدٍ مع نوعٍ من المبارزة يطرح كل فريق فيها كل ما عنده، ويضطر بعدها إلى الاستمداد بكل ما يمتلكه من ذخائر مستودعة في تراثه، ثمّ يعيد تقليبها وتشذيبها وبلورتها مرّات ومرّات، حتى لا يبقى أي شيء يمكن أن يقدّمه إلا وقد طرحه وقدّمه.. وهكذا يصل الدور إلى المنازلة النهائية التي لا بدّ أن تحسم الأمور لصالح الأقوى والأفضل.
وقد قيّض الله تعالى أن تكون هذه المنازلة بمعظمها بتحريض ومشاركة من الذين كفروا من أهل الكتاب، حتى يعلم المسلمون مدى حرص أتباع أهل البيت واهتمامهم بهدايتهم ومصالحهم. وفي هذا عاملٌ كبير لظهور مدى ثراء الفكر الحقّ وصوابية أهله.
إنّ الحرص الشديد على الوحدة الإسلامية، والذي لا نشاهده إلا في جبهة الموالين لأهل بيت العصمة والطهارة، لهو من أهم الدلائل على مدى تمسّكهم بالدين الحق. وإنّ شدة عدائهم للذين كفروا من أهل الكتاب وعدم استعدادهم للتحالف معهم حتى حين تسنح لهم الفرصة للانتقام من الذين نكلوا بهم ضمن دائرة المسلمين الواسعة، لهو أحد أكبر الأدلة على مدى ارتباطهم بالدين وتعاليمه السماوية.
لم تكن جبهة الحق على مدى التاريخ تتمتّع بمثل هذا الوعي والتماسك والانتباه إلى قضية الإمام المهدي ودوره، مثلما يحصل اليوم على مستوى الكم والعدد، أو بتحديد أدق على مستوى النسبة. فإذا كان المسلمون بحاجة إلى نسبة من الواعين المخلصين لينبّهوهم ويأخذوا بأيديهم ويقودوهم ويواجهوا أعدائهم، فيبدو أنّنا بتنا نشاهد ازديادًا كمّيًّا يتّجه نحو النسبة المطلوبة.
إنّنا لا نتحدّث عن كمٍّ محدّد، بل عن نسبةٍ لا يعلمها إلا الله تعالى. وهذه النسبة كانت دومًا أمرًا أساسيًّا في أي حركة اجتماعية إصلاحية. وغاية ما نعلمه هنا أنّ جبهة الحق سائرة نحو تأمين هذه النسبة بإذن الله.
التفاعلات التي تجري داخل دائرة محبّي أهل البيت والمتعاطفين مع العترة المطهرة، والتي ينبغي أن تصب في تشكيل الجبهة الواعية البصيرة القوية هي: إحدى أهم التطوّرات التي اتّخذت مسارًا متسارعًا بقيادة الإمام الخميني (قدس سرّه). فقد أحدث هذا العارف الفقيه هزّة قوية داخل وجدان هذه الدائرة وحملها على إعادة النظر في دورها ومسؤولياتها الكبرى، وعلى رأسها مسؤولية التمهيد الواعي للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه).
وفي هذا المجال يجري نقاش دائم حول ما إذا كان هذا السير في حالة تسارع بعد مرور عدّة عقود على رحيل الإمام الخميني، أو أنّه قد ابتُليَ بنوعٍ من التباطؤ والجمود، الذي لا يمكنه الخروج منه إلا بتحوّلات ثورية ومزلزلة. فهناك رأي يميل إلى أنّ جبهة الحق تسير قُدُمًا؛ ويقدم أصحاب هذا الرأي مجموعة من الشواهد السياسية والعسكرية والجغرافية لتأييد نظريتهم. فيما يناقش آخرون منهم أنّ مثل هذه التطوّرات لا تصيب عمق المتطلّبات ولا تحقّق الشروط اللازمة للتسارع والتطوّر الحقيقي.
ومن الصعب حسم هذا النقاش دون التأسيس الدقيق لمعايير نقيس بفضلها التقدّم الاجتماعي الواقعي. ولا يقول أي واعٍ بصير أنّ الانتشار الجغرافي أو الانتصارات العسكرية هي مؤشّر قوي يمكن الركون إليه في هذا المجال.