إن العقيدة المهدوية مع ثبوت يقينيتها وصدقها عقلاً ونقلاً وبالأدلة الصحيحة والمتواترة ، إلا أنها لم تسلم من توجيه سهام الشبهات وترادف الإشكالات عليها ، فضلاً عن التشكيك بأصل القضية ، بل تطاولت بعض الأقلام المغرضة لتصف القضية المهدوية بأنّها من القصص والخرافات التي ابتدعتها الشيعة .. ولكن الحقيقة التي يجب إدراكها قبل الإيمان بالأطروحة المهدوية الإمامية وتصديق كل مايتعلق بها من قبيل الغيبة وطول العمر و.. و.. الخ ، وجوب إدراك ومعرفة حقيقة ومنصب ومقام وعقيدة (الإمامة) ، حيث هناك تلازم وارتباط وثيق بين مهدوية الشيعة ، وبين فهم حقيقة الإمامة الربانية لمذهب الإثني عشرية في ضوء القرآن الكريم وحديث الثقلين ورواية الخلفاء الإثني عشر وحديث الكساء .. فعند التأمل بعمق في الآيات القرآنية والنصوص النبوية حول هذه الحقيقة ، حينها ستكون هذه الشبهات لا مكان لها من الإعراب ، ومن السهل تقبلها وتصديقها وإدراك حقيقتها وبمنطق العقل والعلم.
مازال البعض يحاول إثارة الإشكالات والتساؤلات حول الإمام محمد بن الحسن العسكري (ع) ، وعادة تتردد هذه الشبهات بكثرة على لسان بعض المتطفلين على تراث الثقافة الإسلامية ، ولهذا تجدهم يتذرعوا بحجج واهية ، كما سيتضح ذلك من دراستها ومناقشتها ، ومن الذرائع الهزيلة التي تمسكوا بها في هذا المقام : فرية السرداب حيث قالوا : هل يمكن أن يعيش شخص في سرداب مئات السنين حتى موعد ظهوره في آخر الزمان؟ .. أليس العقل يمتنع عن تصديق بقائه في مثل هذه الظروف (السرداب) من دون أن يقوم أحد بطعامه وشرابه وقضاء حوائجه؟.
الأسطورة: إن حكاية غيبة الإمام المهدي (ع) في سرداب وأنّه حي يرزق ، ومازال إلى الآن مختفياً فيه دون طعام أو شراب ، وسوف يظهر منه يوما ما ، وأن الشيعة تزور هذا السرداب بقصد الإلحاح على المهدي للخروج .. إن هذا القول في غاية السخف والافتراء ، وهذا الاتهام التافه لا أصل له ، قد ردده المخالفون واختلقوا قصته ولا زالوا يكررون هذه الكذبة حتى اليوم .. انتقاصاً لمسألة الغيبة ، حتى يعدها الآخرون عملية مستهجنة تدل على سخف فكرة الغيبة ، وقد الصقت هذه التهمة بالشيعة ، ظناً منهم بأن الإمامية سوف تبحث عن إمامها في السرداب ، وتتوقع ظهوره فيه.
حقيقة السرداب(1): في العهود القديمة كانت أكثر المنازل في المناطق الحارة مزودة بسرداب لاتقاء حرارة الصيف ، وكانت دار الإمام العسكري (ع) في مدينة سامراء بالعراق بها سرداب ايضاً .. المعروف حالياً باسم (سرداب الغيبة(2)) وهو مكان ومعلم بارز في العتبة المقدسة بسامراء ، ويقع في الجهة الغربية من قبري الإمامين علي الهادي (ع) والحسن العسكري (ع) ، والشيعة تحترم هذا المكان لشرافته وقدسيته ، ولأنه كان جزءاً من بيت الأئمة الهادي والعسكري والمهدي (ع) ، وكان موضعاً لمبيتهم وعبادتهم في بعض الأحيان ، وهو مصلى للإمام الصبيّ وأبيه وجده حيث اعتادوا أن يعتزلوا فيه للتأمل والعبادة ، ولتحاشي المزعجين لا سيما مضايقات عَسس الخليفة العباسي ، وهو من الأماكن المباركة التي أذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه ، وحيث أن الإمام المهدي (ع) ليس له مكان محدد يقصد فيه ، كان من المفضل زيارته في بيته الذي ولد فيه .. وقد قال الشاعر العلامة السيد محسن الأمين في قصيدة رائعة بعنوان (أتى سائلاً)(3)
ما شُرّف السرداب إلاّ لأنه * * * بدار تناهى عندها العز والفخر
تشرف مغناها بسكنى ثلاثة * * * من الآل يُستسقى بذكرهم القطر
وقد أذن الباري تعالى برفعها * * * وذكر اسمه فيها فطاب لها الذكر
نشأة الأكذوبة: قد نشأت شبهة وأكذوبة السرداب ، من زيارة الشيعة لذلك المكان وصلاتهم فيه ، وقراءة زيارة الإمام المهدي ، فتوهم المخالفون أن الشيعة يقولون بوجوده فيه ، وأصبح الموضوع من الشائعات التاريخية المغرضة بلا سند أو تحقيق .. فمن الثابت والمؤكد علمياً وتاريخياً أنه لا يوجد أحد من الشيعة يعتقد بأن الإمام المهدي (ع) غاب في السرداب ، أو أنه ساكن ومقيم فيه ، ولم يقله علماؤهم ولا عوامهم ولا يوجد مصدر لهذا القول في كتب ومؤلفات الشيعة .. بل الشيعة تعتقد بوجود المهدي حياً يرزق في هذه الدنيا يعيش مع الناس يراهم ويرونه ، يحضر الحج ويكلم الناس وينصب السفراء ويقبض الأموال ويكتب التوقيعات ، ويواكب الأحداث عن كثب ، وفرصته كبيرة بأن يعيش كأي فرد من الناس ، ولكن من دون معرفتهم بحقيقة أمره .. وقد قال الشاعر العلامة السيد محسن الأمين : (4)
وما غاب في السرداب قط وإنما * * * توارى عن الأبصار إذ ناله الضر
ولا اتخذ السرداب برجاً ومن يكن * * * لنا ناسباً هذا فقولته هذر
بلى أمست الدنيا به مستنيرة * * * ومنه على أقطارها يعبق النشر
تهم وافتراءات: ما نسج حول السرداب من أساطير ، ونظم من شعر ساخر بناءً عليه ، لا يجد أساساً حتى لو كان واهياً ، بل هو محض افتراء ، وقد بقيت هذه الأكذوبة تتداول بين أقلام الجهال وتتطور في عالم الوهم والخيال ، وقد علق العلامة السيد محمد كاظم القزويني : " ويأتي آخر ويضيف إلى هذه الأكذوبة - من نسج خياله - تهمة أخرى وافتراءً آخر ، فيقول: إن الشيعة يأتون - في كل جمعة – بالسلاح والخيول إلى باب السرداب ، ويصرخون وينادون : يا مولانا أخرج إلينا !.. وياليت هؤلاء المنحرفين اتفقوا – في هذه الأكذوبة – على قول واحد ، حتى لا تنكشف سوءتهم ، ولا تتساقط أقنعتهم المزيفة ، ولكن أبى الله إلا أن يظهر الحق ويدمغ الباطل ويفضحه ، فتراهم يتفرقون على أقوال متناقضة ، فيقول أحدهم : إن هذا السرداب في الحلَّة ، ويقول آخر : إنه في بغداد ، ويقول ثالث : إنه في سامراء ، ويأتي القصيمي من بعدهم فلا يدري أين هو ، فيطلق لفظ السرداب ، ليستر سوءته." (5).
الحقيقة: إن غيبة الإمام المهدي (عج) في السرداب أسطورة لم يقل بها أحد من الشيعة منذ فجر تاريخهم حتى اليوم ، وإنما افتعلها خصومهم والحاقدون عليهم .. وقد قال الشاعر العلامة السيد محسن الأمين : (6)
لنا نسبوا شيئا ولسنا نقوله * * * وعابوا بما لم يجر منّا له ذكر
بأن غاب في السرداب صاحب عصرنا * * * وأمسى مقيماً فيه ما بقي الدهر
ويخرج منه حين يأذن ربه * * * بذلك لا يعروه خوف ولا ذعر
أبينوا لنا من قال منا بهذه * * * وهل ضمّ هذا القول من كتبنا سفر
وإلاّ فأنتم ظالمون لنا بما * * * نسبتم وإن تأبوا فموعدنا الحشر
اعتقادنا بأن الإمام ليس غائباً في السرداب فهو محل لسكن والده وجده ومنزله الذي عاش فيه مع والده ، فهو موضع مفضل لزيارته فيه .. أما الحقيقة فإن الإمام حاضر في قلب الأحداث ، وله طريقته وأسلوبه في معالجة القضايا التي تواجه الأمة ، وهذا ما يفسر لنا الحديث الوارد عنه(عج) بأن فائدته حال غيبته كالشمس إذا غيَّبها السحاب.
هذا الاشكال كباقي الاشكالات التي طرحت خول المهدوية منطقه هزيل بحسب موازين العلم وأصول المنطق والمنهج السليم ، وهكذا انكشف واقعها وأصبح ساقها هشيماً وعودها حطاماً وبناؤها ركاماً .. حتى صار التشكيك في القضية المهدوية شكاً في البديهيات التي لا يقرها العقل ولا العلم.
إقرأ أيضا : متى خرج آخر توقيع للإمام الحجة(ع)؟
الهوامش :
1- السرداب: عبارة عن بناء في المنزل تحت الأرض ، ينتشر في الأماكن الحارة ، عادة يكون بعيداً عن الشمس وقريبا من الرطوبة ويكون بارداً ، وهو ما يعرف اليوم بأسم (القبو).
2- للتوسع عن تاريخ سرداب الغيبة ، أرجع لكتاب: مأثر الكبراء في تاريخ سامراء للشيخ ذبيح الله المحلاتي ، ج 1 ص 292 وما بعدها ، فقد أستوفى الموضوع بحثاً وبين الحقيقة على نحو صحيح وسليم.
3- قصيدة (أتى سائلاً) جاءت في 309 بيت وهي عبارة عن قصيدة جوابية لقصيدة وردت من بغداد في 25 بيت لناظم لم يسم اسمه – المصدر: كتاب البرهان على وجود صاحب الزمان للسيد محسن الامين القصيدة مع شروحها – وكذلك مجلدات: الموسوعة الشعرية المهدوية ، عبد القادر ابو المكارم ، ج 6 ص 88.
4- الموسوعة الشعرية المهدوية ، عبد القادر ابو المكارم ، ج 6 ص 89.
5- الامام المهدي من المهد إلى الظهور ص 202.
6- الموسوعة الشعرية المهدوية ، عبد القادر ابو المكارم ، ج 6 ص 90.
المصدر: كتاب رؤى مهدوية
إقرأ أيضا: ما لا تعرفه عن مقام الإمام المهدي(عج) في مدينة سامراء(السرداب المقدس)
إقرأ أيضا:ولادة الإمام المنتظر...تذكير بالأمل الآتي
إقرأ أيضا :الآية الشريفة"الذين يؤمنون بالغيب..." تعني غيبة الامام المهدي(عج)؟!