الحقيقة الضائعة... في رسالة محمد بن أبي بكر‌ إلى معاوية

الأحد 22 إبريل 2018 - 12:13 بتوقيت مكة
الحقيقة الضائعة... في رسالة محمد بن أبي بكر‌ إلى معاوية

ولعلّ أوّل ما یبدأ به الكاتب في بحثه عن الحقیقة‌ هو‌ تنقیبه‌ الدقیق وفـحصه الأكـثر دقّة لمتون وأسانید الحدیث الشریف : «إنّي تارك فيكم الثقلین : كتاب اللّه وسنّتي‌ ، ‌‌أو‌ عترتي أهل بیتي...

رغم أنّ (الحقیقة)‌ لا‌ تضیع ولن تضیع ، وإنْ كانت ضُیعت أو غُیّبت لهذه الفترة أو تلك ، إلاّ أنّ (الحقیقة) عند الاستاذ والكاتب السوداني الشیخ معتصم سید أحمد قد ضاعت ، أي ضاعت‌ علیه‌ هـو نـفسه‌ فراح یبحث عنها في كتابه هذا بجدّیة وصدق وإخلاص حتّی عثر علیها موفقا مسدّدا إن شاء اللّه‌ .

ولعلّ أوّل ما یبدأ به الكاتب في بحثه عن الحقیقة‌ هو‌ تنقیبه‌ الدقیق وفـحصه الأكـثر دقّة لمتون وأسانید الحدیث الشریف : «إنّي تارك فيكم الثقلین : كتاب اللّه وسنّتي‌ ، ‌‌أو‌ عترتي أهل بیتي» وصراعه بین هذین الاثنین (سنّتي أم عترتي) وارتیاحه في‌ اكـتشاف‌ الخـیط‌ الدقیق بین سنّة رسول اللّه صـلی‌ الله‌علیه ‌و‌آله وعـترته أهل بیته وعلی رأسهم أو في مقدّمتهم الإمام‌ أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب علیه ‌السلام .

وبعد فراغه من هذا البحث الذي‌ قال : إنّه كلّفه‌ «مجهودا‌ فـكریا ونـفسیا ، وجعلني أعیش صراعات مـع ضـمیري وأخری مع زملائي وأساتذتي في الجامعة» (1)وانتهائه إلی أنّ الآیة القرآنیة الكریمة إنّما ولیّكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين یُقیمون الصلاة ویؤتون الزكاة‌ وهم راكعون إنّما نزلت في علي علیه‌ السلام وانّ لها دلالة خاصّة ـ حـسب رؤیـة الكاتب ـ راح غائصا في تقصّیها والبحث في مغزاها وأسباب نزولها .

بعدها راح الكاتب یبحث في مغزی‌ الآیة‌ القرآنیة الكریمة الاُخری : یا أیّها الرسول بلِّغ ما أُنزل إلیك من ربّك وإن لم تفعل فما بـلّغت رسـالته واللّه یعصمك مـن الناس وكیف أنّ هذا الأمر الإلهي الواجب تبلیغه‌ صار‌ یوازي تبلیغ الرسالة فإذا لم یبلِّغه فكأنّما لم یبلِّغ الرسالة» (2)ویـضیف :

"وإنّ هذا الأمر ، هو مردّ خلاف عظیم بین الناس ، بل أنّ الرسـول خـاف علی نفسه‌ من‌ الناس ولذا طمأنه اللّه تعالی بقوله عزّ من قائل : واللّه یعصمك من الناس(3) .

ومن استجلاء معانی هذه الآیـات ‌ ‌البـیّنات وغیرها یروح الاستاذ معتصم یلقی باللائمة علی المؤرِّخین‌ الذين‌ یكتمون‌ الحقائق ولا ینقلونها إلی النـاس‌ ، وهـذا‌ مـا یقصده بضیاع الحقیقة إذْ یقول :

«وما تعانیه الأمّة الإسلامیة الیوم من فرقة وشتات وتمزّق في الصـفوف ما هو إلاّ‌ نتاج‌ طبیعی‌ للانحرافات التي حدثت في التاریخ من تدلیس المؤرِّخین‌ وكـتمهم‌ للحقائق . . من أجل مـصالح سـیاسیة (ودنیویة) . . وهو مخطّط استهدف مدرسة أهل البیت علی كافّة الأصعدة‌ والمستویات‌ لیشكل‌ تیّارا آخر ذا مظهر إسلامي في قبال الإسلام الحقیقي الأصلي"(4) .

ولم تكن المسألة مسألة مصالح سیاسیة فقط وإنّما مسألة رعب ورهبة وخـوف لمن یجرأ ویكشف الحقیقة‌ إذْ‌ "كان‌ مجرّد التظاهر بالحبّ لعلي بن أبي طالب وأهل بیته كفيل بهدم‌ الدار‌ وقطع الرزق ، حتّی تتبّع معاویة شیعة علی قائلاً : اقتلوهم علی الشبهة والظنّة ، وحتّی‌ بات‌ ذكر‌ فـضائلهم جـریمة لا تُغتفر . .»(5) .

وأكثر ما یجرح قلب الكاتب‌ ویمزّق‌ فؤاده‌ في مواقف هؤلاء المؤرّخین هو جنایة التكتّم علی مظلومیة الإمام علي علیه ‌السلام وحذفهم لرسائل‌ عدیدة‌ مهمّة‌ كان علیه ‌السلام بعثها إلی معاویة وحذف أخـری بـین هذا الأخیر ومحمد بن أبي بكر‌ ، وراح الكاتب یندِّد بموقف الطبري كمثال قائلاً :

«أخفى المؤرِّخون وأوّلهم الطبري الرسائل‌ التي‌ جرت‌ بین محمد بن أبي بكر ومعاویة بن أبي سفيان . . فاعتذر الطـبري بـعدما ذكر‌ إسناد‌ الرسالتين ، بأنّ فيهما ما لا یتحمّل العامة سماعه ، ثمّ جاء من‌ بعده‌ ابن‌ الأثیر وفعل ما فعله الطبري ، ثمّ سار علی نهجهم ابن كثیر فأشار إلی رسالة‌ محمد‌ ابـن أبي بـكر ، وحذف الرسالة وقال (فيها غـلظة)» إلی أن یـقول‌ (أي الكاتب)‌ :

«وما فعله المؤرِّخون الثلاثة هو من أبشع أنواع كتْم الحقائق ، وهو یكشف بكلّ‌ وضوح‌ عدم‌ أمانتهم العلمیة» (6) .

ولم یتردّد الكاتب في ذكـر بـعض فـقرات هذه الرسالة‌ التي‌ (فيها غلظة) وینقلها عن مـروج الذهـب للمسعودي ، وجاء فيها :

«من محمد بن أبي بكر‌ إلی‌ الغاوي معاویة بن صخر ، وبعد الثناء علی النبي وكیف أنّ اللّه‌ أرسـله‌ رحمة وبعثه رسولاً ومبشِّرا ونذیرا ، فكان‌ أوّل‌ من‌ أجاب وأناب وآمـن وصدّق وأسلم وسلم أخوه‌ وابن‌ عمّه علي بن أبي طالب : صدقه بالغیب المكتوم وآثره علی كلّ حمیم‌ ، ووقـاه بـنفسه كـلّ هول وحارب‌ حربه‌ وسالم سلمه‌ . . . لا نظیر له . . . اتّبعه ولا مقارب له في فعله ، وقـد رأیـتُك تُسامیه وأنت أنت‌ ، وهو هو ، أصدق الناس نیّة‌ ، وأفضل الناس ذریّة‌ ، وخیر الناس زوجةً . . . وأنت اللعـین ابـن اللعـین لم تزل أنت وأبوك تبغیان لرسول اللّه صلی‌ الله‌علیه‌ و‌آله الغوایة‌ وتجهدان‌ في إطفاء نور اللّه ، تـجمعان‌ عـلی ذلك الجموع‌ وتبذلان‌ فيه المال ، وتؤلّبان‌ علیه‌ القبائل ، وعلی ذلك مات أبوك وعلیه خلفته . . .» إلی أن یقول‌ :

«فـكیف یـا لك الویـل! تُعدل أو‌ تقرن‌ نفسك بعلي‌ وهو‌ وارث‌ رسول اللّه صلی ‌الله‌علیه ‌و‌آله ووصیّه‌ وأبو ولده؛ أوّل الناس اتباعا وأقـربهم بـه عهدا ، یخبره بسرّه ، ویطلعه علی أمره‌ ، وأنت عدوّه وابن عدوّه ، فتمتّع‌ في‌ دنـیاك‌ مـا‌ اسـتطعت‌ بباطلك ولیمددك ابن‌ العاص‌ في غوایتك ، فكأنّ أجلك قد انقضی وكیدك قد وهن ثـمّ یـتبیّن لمن تكون العاقبة العلیا‌ . . "(7) .

أمّا رسالة معاویة في الردّ‌ علی‌ محمد‌ بن‌ أبي‌ بـكر‌ ، فـقد جـاء فيها ، ما تهيب عن ذكره المؤرِّخون الثلاثة المذكورون سابقا ، ولكن الشیخ معتصم أورد بعضا من نـصوصها كـما جاء في مروج الذهب أیضا‌ .

نذكر فقرات منها خدمةً للقارئ الكریم وبـدون تـعلیق :

«مـن معاویة بن صخر ، إلی الزاري علی أبيه محمد بن أبي بكر . . . ذكرتَ ابن أبي طالب‌ ، وقدیم سـوابقه وقـرابته إلی رسـول اللّه صلی ‌الله‌علیه‌ و‌آله ومواساته إیّاه في كلّ هول وخوف فكان احتجاجك عليّ وعیبك لي بـفضل غـیرك لا بفضلك ، فاحمد ربّا صرف هذا الفضل عنك‌ وجعله‌ لغیرك ، فقد كنّا وأبوك فينا نعرف فضل ابـن أبي طالب وحقّه لازما لنا مبرورا علینا ، فلما اختار اللّه لنبیّه علیه الصلاة‌ والسـلام‌ مـا عنده ، وأتمّ له‌ ما‌ وعده ، وأظهر دعـوته وأبـلج حـجّته ، وقبضه اللّه إلیه صلوات اللّه علیه ، فكان أبوك وفـاروقه أوّل مـن ابتزّه حقّه وخالفه علی أمره‌ ، علی ذلك اتّفاقا واتساقا‌ ، ثمّ إنّهما دعوه إلی بیعتهما فـأبطأ عـنهما وتلكأ علیهما ، فهمّا به الهـموم وأرادا بـه العظیم . ثـمّ أنّه بـایعهما وسلّم لهما وأقاما لا یشركانه في أمـرهما ولا یـطلعانه علی‌ سرّهما‌ حتّی قبضهما اللّه . . .» إلی أن یقول :

«أبوك مهّد مهاده وبنی لملكه وساده ، فـإن یـك ما نحن فيه صوابا فأبوك اسـتبدّ به ونحن شركاؤه ، ولولا‌ مـا‌ فـعل أبوك‌ قبل ما خالفنا ابـن أبي طالب وسلّمنا إلیه ، ولكن رأینا أباك فعل ذلك به قبلنا فأخذنا‌ بمثله ، فعِبْ أبـاك بـما بدا لك أو دع ذلك‌ . والسلام‌ علی مـن أناب» (8) .

وهـنا لا یـملك الشیخ معتصم نـفسه فـيروح مذیعا ما استفزّ سـریرته واسـتصرخ وجدانه ‌‌فيقول‌ :

«وقد عرفتُ بذلك السرّ الذي منع الطبري وابن الأثیر وابن كثیر من‌ نـقل‌ هـذه‌ الرسالة؛ لأنّها تكشف واقع الصراع والخـلاف الذي حـدث بین المـسلمین فـي أمـر الخلافة، التي‌ هي حـقّ لعلي ـ كما یری طبعا ـ» ویضیف :

«فهذا معاویة یعترف‌ بذلك ولكنّه یعتذر بأنّ‌ خلافته‌ هي امـتداد لخـلافة أبي بكر وشنّع بذلك علی ابـنه . . . ولكـن لا عـلیك یـا مـعاویة ـ والكلام للكاتب ـ فـإنْ لم یـسكت محمد بن أبي بكر ولم یستر أمرك‌ فقد سكت عنه الطبری وابن الأثیر وابن كثیر . . .» (9)

وهكذا هـو التـاریخ والمـؤرِّخون علی امتداد العصور والأزمان ، یُظهرون نصف الحـقیقة ، ویـسدلون السـتار عـلی نـصفها الآخـر فيتركون‌ الناس‌ في طرائق شتّی لا یهتدی فيها الضال ولا یستیقن المهتدی ، وكلّ ذلك من أجل مصالح خاصة أو مواقف سیاسیة مدفوعة الثمن تروح ضحیتها الحقیقة أو المؤرِّخ ، وما أعظم‌ المؤرِّخ‌ الذي یـروح ضحیةً للحقیقة! وما أعظم الحقیقة التي لا یعتّمها مؤرِّخ ولو غیّبها الزمن والسلاطین وسنین طویلة من عمر الدهر الخؤون!

(1)الحقیقة الضائعة : الشیخ معتصم سید‌ أحمد‌ ، الطبعة‌ الاُولی‌ ١٤١٧ه : ١٠٩‌ .

(2)نفس المصدر السابق: ١٦٥ .

(3)نفس المصدر السابق: ١٦٥ .

(4)نفس المصدر السابق:‌ ١٧٢‌ .

(5)نفس المصدر السابق: ١٧٣ .

(6)نفس‌ المـصدر‌ السابق:‌ ١٧٩‌ .

(7)نفس المصدر السابق: ١٧٩ ـ ١٨٠ عن مروج الذهب للمسعودي ٣: ٢٠ تحقیق محمد محيي الدین ، دار المعرفة ـ بیروت .

(8)نفس المصدر السابق:‌ ١٨١ عن مروج الذهب ٣: ٢١ .

(9)نفس المصدر السابق: ١٨١ .

المصدر: مجلة میقات الحج/العدد١٤

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الأحد 22 إبريل 2018 - 12:02 بتوقيت مكة