الأبعاد المعنوية في شخصية الإمام الحسين (عليه السلام)

الخميس 19 إبريل 2018 - 22:23 بتوقيت مكة
الأبعاد المعنوية في شخصية الإمام الحسين (عليه السلام)

إن لشخصیة أبی عبد اللَّه علیه السلام أبعاداً شتَّى یستلزم کل واحد منها بیاناً وتوضیحاً شاملاً...

السيد القائد الإمام الخامنئي

البعد "العرفانی" یختزل شخصیة الإمام الحسین (علیه السلام) ویمنح "عاشوراء" عظمتها وخلودها
إن من جملة عشرات بل مئات الخصائص التی تنفرد بها الأمة الإسلامیة بفضل القرآن والإسلام وأهل البیت؛ هی أن لهذه الأمة قدوات کبیرة ومشرقة نصب عینیها. وللقدوات أهمیتها فی حیاة الشعوب. فإذا ما وجد لدى أمة شخصیة فیها نفحة عظمة، فإن تلک الأمة لا تنفک عن تمجید تلک الشخصیة والتغنی بها وتخلید اسمها؛ من أجل توجیه المسار العام لحرکة تلک الأمة فی الاتجاه المتوخی لها. وقد لا یکون هناک فی الواقع أی وجود حقیقی لمثل هذه الشخصیة، وإنما یستقى من شخصیة خیالیة مطروحة فی القصص والأشعار والأساطیر الشعبیة. وهذا کله نابع من حاجة الأمة لرؤیة قدوات کبار أمام عینیها من أبنائها. وهذه الظاهرة موجودة فی الإسلام على نحو وافر ومنقطع النظیر. ومن جملة أکابر تلک القدوات هی شخصیة أبی عبد اللَّه علیه السلام؛ إمام المسلمین وسبط الرسول، والشهید الکبیر فی تاریخ الإنسانیة.

إن لشخصیة أبی عبد اللَّه علیه السلام أبعاداً شتَّى یستلزم کل واحد منها بیاناً وتوضیحاً شاملاً. أشیر هنا إلى أن من جملتها "الإخلاص". والإخلاص معناه، الالتزام بالواجب الإلهی وعدم إدخال المصالح الذاتیة والفئویة والدوافع المادیة فیه. والبعد الاخر هو "الثقة باللَّه". إذ أن ظواهر الأمور کانت تقضی بأن تلک الشعلة ستخفت فی صحراء کربلاء. ولکن کیف یرى ذلک الفرزدق الشاعر فی حین لم یکن یراه الحسین؟! ویراه الناصحون القادمون من الکوفة، ولا یراه الحسین بن علی الذی کان عین اللَّه؟! لقد کانت ظواهر الأمور توحی بهذا المآل، إلاَّ أن الثقة باللَّه کانت توجب علیه الیقین رغم کل هذه الظواهر بأن الغلبة ستکون لکلامه الصادق ولموقفه الحق. وجوهر القضیة هو أن تتحقق نیَّة المرء وغایته. والإنسان المخلص لا تهمه ذاته فیما إذا تحققت الغایة التی یرمی الیها.

رأیت ذات مرة أحد أکابر أهل السلوک والمعرفة کتب فی رسالة: أننا إذا افترضنا على سبیل المحال أن کل الأعمال التی کان رسول اللَّه صلى الله علیه و آله و سلم یطمح إلى تحقیقها قد تحققت، ولکن باسم شخص اخر، فهل کان ذلک یغیظ رسول اللَّه صلى الله علیه و آله و سلم؟ وهل کان قد یقف منها موقفاً سلبیاً ما دامت باسم شخص اخر، أو أنه یقف منها موقفاً إیجابیاً بدون الالتفات إلى الاسم الذی تتحقق على یده؟ إذن فالغایة هی المهمة، والإنسان المخلص لا یأبه کثیراً بالشخص وبالذات وبالأنا، باعتباره إنساناً مخلصاً وله ثقة باللَّه، بأن الباری تعالى سیحقق هذا الهدف؛ لأنه تعالى قال: "إن جندنا لهم الغالبون" فالکثیر من الجنود الغالبین یخرُّون صرعى فی میادین الجهاد، إلاَّ أنه تعالى قال فی الوقت ذاته: "إن جندنا لهم الغالبون".

أما البعد الثالث فهو إدراک الموقف، وعدم الوقوع فی الخطأ فی اتخاذ. فقد کان الإمام الحسین علیه السلام متصدیاً لزمام المسؤولیة والإمامة مدة عشر سنوات، مارس خلالها نشاطات أخرى لیست من طراز الفعل الاستشهادی فی کربلاء. ولکن بمجرد أن سنحت له الفرصة للإتیان بعمل کبیر استغلّ‏َ تلک الفرصة ووثب وتمسَّک بها، ولم یدعها تفلت من بین یدیه.

الشهادة والعرفان‏
لشخصیة الإمام الحسین علیه السلام الباهرة، بعدان آخران: بعد الجهاد والشهادة والإعصار الذی أحدثه على مدى التاریخ. وسیبقى هذا الإعصار على ما یتَّسم به من برکات مدویاً على مدى الدهر. وأنتم مطَّلعون على هذا البعد الأول. أما البعد الاخر فهو بعد معنوی وعرفانی. ویتجلَّى هذا البعد فی دعاء عرفة بشکل واضح وعجیب. وقلَّما یوجد لدینا دعاء یحمل هذه اللوعة والحرقة والانسیاق المنتظم فی التوسُّل إلى اللَّه والابتهال إلیه بالفناء فیه. إنه حقاً دعاء عظیم.
ثمَّة دعاء اخر لیوم عرفة ورد فی الصحیفة السجادیة عن نجل هذا الإمام العظیم. کنت فی وقت أقارن بین هذین الدعائین. فکنت أقرأ أولاً دعاء الإمام الحسین، وأقرأ من بعده الدعاء الوارد فی الصحیفة السجادیة. وقد تبادر إلى ذهنی مرات عدیدة أن دعاء الإمام السجادعلیه السلام یبدو وکأنه شرح لدعاء یوم عرفة. فالأول أی دعاء الحسین‏علیه السلام فی یوم عرفة هو المتن والثانی شرح له. وذاک أصل وهذا فرع. دعاء عرفة دعاء مذهل حقاً. وفی خطابه علیه السلام الذی ألقاه على مسامع کبار شخصیات عصره وأکابر المسلمین التابعین فی منى تجدون نفس تلک النغمة والنفس الحسینی المشهود فی دعاء عرفة. ویبدو أن خطابه ذلک کان فی تلک السنة الأخیرة، أو ربما فی سنة أخرى غیرها. لا استحضر ذلک حالیاً فی ذهنی، لکنه مسطور فی کتب التاریخ والحدیث.

إذا نظرنا إلى واقعة عاشوراء وأحداث کربلاء؛ فمع أنها ساحة قتال وسیف وقتل، لکنکم ترون الحسین علیه السلام یتکلم ویتعامل بلسان الحب والرضا والعرفان مع اللَّه تعالى. آخر المعرکة حیث وضع خده المبارک على تراب کربلاء اللاهبة، تراه یقول: "إلهی رضاً بقضائک وتسلیماً لأمرک". وکذا حین خروجه من مکة یقول: "من کان باذلاً فینا مهجته وموطناً على لقاء اللَّه نفسه، فلیرحل معنا". کل قضیة کربلاء ترون فیها وجه العرفان والتضرُّع والابتهال. اقترن خروجه ذاک بالتوسل والمناجاة وأمنیة لقاء اللَّه. وبدأ بذلک الاندفاع المعنوی المشهور فی دعاء عرفة، إلى أن انتهى به المطاف فی اللحظة الأخیرة، إلى حفرة المنحر حیث قال: "ورضاً بقضائک".

معنى هذا أن واقعة عاشوراء تعدّ بحد ذاتها واقعة عرفانیة. ومع أنها امتزجت بالقتال والقتل والشهادة والملحمة ـــــ وملحمة عاشوراء صفحة رائعة بشکل یفوق التصور ــــ ولکن إن نظرتم إلى عمق نسیج هذه الواقعة الملحمیَّة لرأیتم معالم العرفان والمعنویة والتضرع، وجوهریة دعاء عرفة. إذن فهذا هو البعد الاخر فی شخصیة الإمام الحسین‏ علیه السلام، وهو ما ینبغی أن یکون موضع اهتمام إلى جانب البعد الأول المتمثل بالجهاد والشهادة.

القضیة التی أود الإشارة إلیها؛ هی أنه یمکن القول قطعاً أن هذا الاندفاع المعنوی والعرفان؛ والابتهال إلى اللَّه والفناء فیه؛ وعدم رؤیة الذات أمام إرادته المقدَّسة، هو الذی أضفى على واقعة کربلاء هذا الجلال والعظمة والخلود. أو بعبارة أخرى، أن البعد الأول ــــ أی بعد الجهاد والشهادة ــــ جاء کحصیلة ونتاج للبعد الثانی. أی نفس تلک الروح العرفانیة والمعنویة التی یفتقد إلیها الکثیر من المؤمنین ممن یجاهدون وینالون الشهادة بکل ما لها من کرامة؛ نفس تلک الروح العرفانیة والمعنویة تجدها فی شهادة أخرى نابعة من روح الإیمان؛ ومنبثقة من قلب یتحرق شوقاً؛ وصادرة عن روح متلهفة للقاء اللَّه، ومستغرقة فی ذات اللَّه. هذا اللون الاخر من المجاهدة له طعم ونکهة أخرى، ویضفی أثراً اخر على التکوین.

المصدر: کتاب "الثورة الحسینیة خصائص ومرتکزات" للإمام الخامنئي

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الخميس 19 إبريل 2018 - 22:22 بتوقيت مكة