صائب عبد الحميد
لقد احتاج الاُمويون منذ البداية إلى تبرير سياستهم الجائرة وركوبهم المعاصي ، فذهبوا إلى تأويل بعض آي القرآن الكريم بما يفيد الجبر والتسيير ، ليقولوا للناس إنّ ما صنعناه إنّما هو من قضاء الله تعالى وقدره ، وليس من أيدينا ، بل حتّى مناصبهم هذه فهي من الله تعالى فهو الذي جاء بهم إلى الملك وملّكهم ، لأنّه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء !! هكذا ليكونوا أبرياء من كلّ ما ارتكبوه في طريقهم إلى انتزاع الملك ! وليكونوا مخوّلين في كلّ ما يصنعون بعد ذلك.. وبمثل هذا التأويل الفاسد أصبح يتكلّم بعدهم علماء كبار !!
يقول ابن العربي في معرض « تأسّفه ! » على مصرع الحسين عليهالسلام : « ولولا معرفة أشياخ الصحابة وأعيان الاُمّة بأنّه أمر صرفه الله عن أهل البيت... وما أسلموه أبداً » ! (1)
والحقّ أنّنا لو تقدّمنا في عمق التاريخ لوجدنا هذه المقولة قد تقدّمت عصر معاوية في ظهور سابق بها على لسان عمر بن الخطاب ، وهو يردّ على ابن عباس تذكيره بإرادة رسول الله صلىاللهعليهوآله في تنصيب عليّ لخلافته ، فيقول : وماذا كان ، إذا أراد رسول الله شيئاً غيره ؟!
وفي الحالين كان (نظام الغَلَبة) هو الباعث إلى هذه المقولة !
ولقد حاول معاوية أن يجعل منبره منبراً لهذه العقيدة ، لكنه اصطدم في أول محاولة له بعقلٍ حرّ أفسد عليه حيلته : خطب معاوية خطبةً قال فيها : إنّ الله تعالى يقول : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ )(2) فعلامَ تلومونني إذا قصّرتُ في إعطائكم ؟!
فقال له الأحنف بن قيس : إنّا والله ما نلومك على ما في خزائن الله ، ولكن على ما أنزله لنا من خزائنه فجعلتَهُ أنتَ في خزائنك وحُلتَ بيننا وبينه ! (3)
عندئذ أخذتْ هذه العقيدة تتمدّد وتنتشر بالسبل الاُخرى وبدعم صريح من السلطة حتّى صار لها نفوذ واسع في وقت مبكّر جداً.
ـ قيل لابن عبّاس : إنّ هاهنا قوماً يزعمون أنّهم أتوا ما أتوا من قِبل الله تعالى ، وأنّ اللًه أجبرهم على المعاصي ! فقال : لو أعلم أنّ هاهنا منهم أحداً لقبضتُ على حلقه فعصرته حتّى تذهب روحه ، لا تقولوا أجبر اللهُ على المعاصي ولا تقولوا لم يعلم الله ما العباد عاملون ! (4)
ولقد أدرك ابن عبّاس أنّ مصدر هذا الانحراف الفكري هو السلطة وأنصارها ، فخاطبهم خطاباً عنيفاً ، قال فيه : أتأمرون الناسَ بالتقوى وبكم ضلّ المتّقون ؟! وتنهونَ الناس عن المعاصي وبكم ظهر العاصون ؟! يا أبناء سَلَف المنافقين ، وأعوان الظالمين ، وخزّان مساجد الفاسقين ! هل منكم إلّا مفترٍ على الله ، يجعل إجرامه عليه سبحانه وينسبه علانيةً إليه ؟! (5)
واقتحمت هذه العقيدة البصرة ، ورقت إلى مجلس الحسن البصري ، فزجر أصحابها وقال : « إنّ الله خلقَ الخلق للابتلاء ، لم يطيعوه بإكراه ولم يعصوه بغَلَبة ، وهو القادر على ما أقدر هم عليه ، والمالك لما ملكهم إيّاه ، فإن يأتمروا بطاعة الله لم يكن لهم مثبّطاً ، بل يزيدهم هدىً إلى هداهم وتقوىً إلى تقواهم ، وإن يأتمروا بمعصية الله كان الله قادراً على صرفهم ، إن شاء حال بينهم وبين المعصية ، فمن بعد إعذار وإنذار » (6).
ورغم تلك المواجهات فقد ترقّى الأمر بهذا المذهب حتّى دان به كبار من أهل العلم ودافعوا عنه حتّى أصبح هو المذهب الغالب في ملّة الإسلام ، حتّى انتقل إلى الأشعري فعزّزه ونفخ فيه روحاً جديدة ، بعد تعديل لفظي أدخله بعنوان (الكسب) (7) وهو مفهوم اعتباري ليس له أيّ قيمة حقيقية ، وإنّما اُريد به التميز عن الجبرية الخالصة التي طالما سخر منها الأشعري أيّام كان معتزليّاً.
ومنذ زمن عبد الملك بن مروان كان أقطاب هذا المذهب في الشام يروّجون لفكرة جديدة تساهم في تطويره ، لكنّها افتضحت حين لم يتقنوا صياغتها ، إذ كانوا يقولون : إنّ الله إذا استرعى عبداً رعيّته كتبَ له الحسنات ، ولم يكتب عليه السيئات !. لكنّها كانت مقولة هزيلة ، تردّد حتّى الوليد بن عبد الملك في قبولها (8).
وبقيت هذه المقولة تَتّهم الله تعالى بإكراه العبد على المعاصي ، وأنّه تعالى هو الخالق لهذه المعاصي التي تجري على أيدي العباد ، ثمّ هو يعذّبهم عليها ! بحجّة ساذجة يردّدونها دوماً ، مفادها أنّ الله تعالى لا يُعصى مكرَهاً ، فهو إذن لا يعصى إلّا وهو يريد هذه المعصية أن تقع من العاصي ، ثمّ هو الذي يخلقها فيه لأنّه ( خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )! هكذا دون تمييز بين إرادة تكوينية وإرادة تشريعية ، ولا معرفة صادقة بمعاني هيمنة اللّه تعالى وقدرته.
الهوامش:
(1) العواصم من القواصم ـ بتعليق محب الدين الخطيب : ٢٤٥.
(2) سورة الحجر : ١٥ / ٢١.
(3) ربيع الأبرار / الزمخشري : ٦٨٣ ـ منشورات الشريف الرضي ـ قم ـ ١٤١٠ ه.
(4) المذاهب الإسلامية : ١٧٣ عن (المنية والأمل) للمرتضى.
(5) المذاهب الإسلامية : ١٧٢.
(6) العقد الفريد / ابن عبد ربه ٢ : ٨٣ ـ دار ومكتبة الهلال ـ بيروت ـ ١٩٨٦ م ، ونحوه في المذاهب الإسلامية : ١٧٢ ـ ١٧٣ عن المنية والأمل.
(7) اضطربوا في تعريف الكسب كثيراً ، والمحصل أنّ بين قدرة الله المؤثرة على العبد وبين إيجاد اللّه لأفعال العبد ، هناك قدرة حادثة مقارنة لقدرة الله ، وهي الكسب.. وقد اعترف متأخروهم بأنّ هذا الكلام لا معنى له ، إذ ما فائدة وجود قدرة ليس لها أي دور إلّا الاقتران ؟ [ اليواقيت والجواهر / الشعراني ١ : ١٤٠ ـ مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٩٥٩ م ] وقد طعن أكثر الناس بنظرية « الكسب » وقالوا : عجائب الكلام ثلاثة : طفرة النظّام ، وأحوال أبي هاشم ، وكسب الأشعري ! وأنشد بعضهم في ذلك :
مما يقالُ ولا حقيقة تحته معقولة ، تدنو إلى الأفهام
الكسبُ عند الأشعري والحالُ عنـ د الهاشمي ، وطفرةُ النظّام
[منهاج السنّة / ابن تيمية ١ : ١٢٧].
(8)اُنظر استفساره من الزهري في إبطالها : العقد الفريد ١ : ٤٦.
المصدر: كتاب المذاهب والفرق في الإسلام