هذا هو العـنوان الذي اخـتاره الكاتب المصري عبد الكریم الخطیب لكتابه وذیّله بحدیث شریف للنبي الأكرم صلی اللهعلیه وآله یقول فيه : «یـا عـلي لا یُحبّك إلاّ مؤمن ، ولا یبغضك إلاّ منافق» ، ثـمّ راح یـدوّن فـي تقدیمه لكتابه هـذا قـائلاً :
«إنّ تاریخ العظماء لیـس مـجرّد حیاة وموت ، وأحداث وقعت فيما بین الحیاة والموت فضبطتها صحف التاریخ ، وختم علیها الزمـن بـخاتمه ، وإنّما تاریخ حیاتهم میراث كریم تـتوارثه الإنـسانیة كلّها ، وتـقتدي بـما فـيه من عظات وعبر ، وتـقطف من مجانیه ، ما تطول یدها وتبلغ همّتها من قدوة صالحة ومثَلٍ كریم» .
وحین یصل إلی الإمام عـلي علیه السلام بعد زفراتٍ طرحها علی ما حـلّ بـالمسلمین مـن اخـتلاط مـرویّاتهم عن صحابة رسـول اللّه وكـیف (اختلط فيها الحقّ بالباطل والصدق بالكذب ، والواقع بالخیال) ـ حسب تعبیره ـ راح یقول :
« . . . وعلي ـ كرّم اللّه وجـهه ـ هـو بـقیّة النبوّة ، وخاتم خلافة النبوّة ، وحیاته كلّها مـعركة مـتّصلة فـي سـبیل اللّه ، وإیـثار سـخيّ لإعزاز دین اللّه ، وإعلاء رایة الإسلام التي حملها رسول اللّه ، والتفّ حولها المهاجرون والأنصار ، فكانوا جند اللّه وكتیبة الإسلام . . . واحتملوا تبعات الجهاد في سبیل اللّه ، صابرین مصابرین . . . أمّا عـليّ ، فقد كان صدره درعا واقیا لدعوة الإسلام ، من أوّل یوم الإسلام إلی أن تداعت حصون الشرك ، وذهبت معالمه . ."
وأضاف :«وكان سیفه شهابا راصدا ، یرمي أعداء الإسلام بالمهلكات ، ویشیع في جموعهم الخزي والخـذلان ، ویـُلبس أبطالهم وصنادیهم المذلّة والهوان ، حتّی لیكون سیفه علما یسمّی (ذا الفقار) وحتّی لیكون صاحب السیف مثلاً یحدِّث الناس به في مواقف البطولات الخارقة فيقال (فتیً ولا كعليّ)» (1) .
وحین یأتي إلی موضوع الخلافة ـ كـكاتب یـری رأیا آخر ـ لا یجد مناصا من التصریح بالحقیقة رغم مرارتها فيقول :
«فقد كانت الخلافة أقرب إلیه بعد رسول اللّه صلی اللهعلیه وآله من أيّ صحابي آخر» ولكـنّه یـضیف :
«فلمّا تمّت البیعة لأبي بـكر ، تـوقّف قلیلاً وأمسك یده عن البیعة له بالخلافة ، حتّی إذا رأی القبائل تتنادی بالردّة والخروج عن طاعة الخلیفة الجدید ،بادرَ فسدّ هذه الثغرة ،وأعطی الخلیفة كلّ ولائه ونُصحه» (2) .
ویـأتی عـبد الكریم الخطیب إلی فتنة الخـلیفة الثـالث عثمان بن عفّان وابن عمّه مروان ویفتح ملفّها ولا یستطیع غلقه فيقول :
«أسلم الحكم (والد مروان) عام الفتح إسلام الطلقاء ، وكان طرید رسول اللّه صلی اللهعلیه وآله ولعینه . . . وقد قال فيه البلاذري : إنّ الحـكم بـن العاص كان جارا لرسول اللّه صلی اللهعلیه وآله في الجاهلیة وكان أشدّ جیرانه له أذًی في الإسلام . . . وكان قدومه إلی المدینة بعد فتح مكة ، وكان مغموصا علیه في دینه (أي مطعونا علیه ومتّهما في دینه"(3) .
وبعد رحیل النبي صـلی اللهعلیه وآله كلّم عـثمان أبا بكر في ردّ الحكم وولده فكان جوابه «ما كنتُ لآوی طرداء رسول اللّه» ولمّا استُخلف عمر ، قال قول أبي بكر ، ولما استُخلف عثمان أدخلهم المدینة فأنكر علیه المسلمون إدخالهم المـدینة ، ثـمّ ولّی الحـكم صدقات قضاعة (حيّ في الیمن) ـ والكلام للخطیب طبعا ـ فبلغت ثلاثمائة ألف درهم ، فوهبها له حین أتاه . . . ومات الحكم (طـرید رسـول اللّه) في خلافة عثمان فصلّی علیه عثمان وضرب علی قبره فسطاطا» (4).
وعن مروان بـن الحـكم یـنقل الخطیب ما ذكره ابن سعد في طبقاته حین قال :
«فلم یزل مروان مع ابن عـمّه عثمان ابن عفّان ، وكان كاتبا له ، وأمر له عثمان بأموال ، وكان عثمان یتأوّل في ذلك صـلة قرابة ، وكان الناس یـنقمون عـلی عثمان تقریبه مروان وطاعته له ، ویرون كثیرا ممّا ینسب إلی عثمان لم یأمر به ، وأنّ ذلك عن رأی مروان ، دون عثمان ، فكأنّ الناس شنّعوا بعثمان ، لما كان یصنع بمروان ویقرّبه» (5).
ومن هنا جاء تعلیق الإمام علي علیه السلام علی الفتنة التي أودت بحیاة عثمان مخاطبا الثوّار : «جزعتم فأسأتم الجزع ، واستأثر فأساء الأثرة» .
«والحقّ أنّ علیّا كان أوفر الناس حظّا ، وأطولهم صحبةً لرسول اللّه صلی اللهعلیه وآله ، فمنذُ وُلد علي ، وهو بین یدي محمد ، قـبل النـبوّة وبعدها . لم یفترق عنه في سلم أو حرب ، وفي حلٍّ أو سفر ، بل كان بین یدي النبي ، وتحت سمعه وبصره إلی أن لحق الرسول بالرفيق الأعلی ، وهو علی صدر علي ، حیث سكب آخر أنفاسه فـي الحیاة"(6) ویـضیف :
«فقد كان علي بطل الإسلام دون منازع . . . وكان فقیه الإسلام ، وعالم الإسلام ، وحكیم الإسلام ، غیر مدفوع عن هذا أو منازَع فيه . . .» إلی أن یقول :
«ولو أنّ إنسانا غیر علي بن أبي طالب ، امتُحن بما امـتحن بـه من شدائد وأهوال ، لتبلّدت مشاعره ، وعطّلت ملكاته ، ولما وجد العقل الذي یفكر ویقدّر ولا اللسان الذي ینطق ویبین! ولكنّها النفس الكبیرة العمیقة ، تمرّ بها الأحداث المزلزلة ، والكوارث المكربة ، كما تمرّ الأعاصیر بـالجبال الشـامخة فـتتطاحن عندها وتتخاشع بین یدیها ، وتـتكسّر مـتداعیة تـحت قدمیها . . .» (7) .
وفي مقاربة معبّرة بین زواج الخلیفة عثمان من بنتي رسول اللّه صلی اللهعلیه وآله رقیة وأمّ كلثوم ومنحه لقب (ذي النورین)،وبین زواج الإمام علي من فـاطمة عـلیها السلام یـقول عبد الكریم الخطیب أو یكتب قائلاً :
« . . فإنّ في زواج عـلي من فاطمة شیئا أكثر من هذا الذي ظفر به عثمان! فأوّلاً ، فاطمة (رض) اختُصت من بین أخواتها بهذه الدرجة الرفـيعة التي رفـعها اللّه إلیها فجعلها في مقام مریم ابنة عمران ، حیث وصفها الرسـول صلی اللهعلیه وآله بأنّهما خیر نساء العالمین ، وثانیا : أنّ فاطمة ـ وحدها من دون أبناء النبي وبناته ـ هي التي كان مـنها سـبطا رسـول اللّه صلی اللهعلیه وآله الحسن والحسین ومنهما كلّ نسل رسول اللّه .
وإذْ ننظر إلی هذا الأمر ـ والكـلام للخـطیب ـ مع ضمیمة ما سبق من مواقف في هذا المقام ، نجد أنّ ذلك الموقف متسق مع ما سـبقه ، جـار عـلی الغایة المُنجحة له ، والبالغة بابن أبي طالب ، ما أراد اللّه له من كرامة وتكریم!
فهذا رسول اللّه صـلی اللهعلیه وآله یـكون له بـنین وبنات ثمّ یختارهم اللّه جمیعا إلی جواره في حیاة الرسول ، عدا فاطمة (رض) ، ثمّ لا یقف الأمـر عـند هـذا ، بل یكون من حكمة اللّه ألا یعقب أحد من أبناء الرسول وبناته ولدا ، ومن كان له ولد من بـناته مـات هذا الولد صغیرا . . وهكذا یصبح الرسول ـ صلوات اللّه وسلامه علیه ـ لا یری له ولدا غیر فاطمة ، ولا نسلاً مـتّصلاً إلاّ مـا كـان من فاطمة وعلي"(8) .
ویأتی الخطیب إلی قضیة حسّاسة یحاول أن یتجاوزها بفذلكة وذكاء وذلك عند تمییزه بـین شـخص الرسول ورسالته ، فيقطع الطریق علی الرأي الآخر القائل بأنّ الإمام علیّا علیه السلام إنّما هـو امـتداد لرسـالة الرسول وإنْ كان لشخصه فيه النصیب الأوفى ، فيقول في هذا الإطار معترفا ممرّرا :
«فإذا قـیل : أنّ علیّا أخو النبي وزوج ابنته فاطمة ، سیّدة نساء العالمین ، وأبو السبطین ، ریحانتي شـباب الجـنّة ، الحـسن والحسین . . ثمّ إذا قیل : إنّ علیّا هو الشخص القائم مقام الرسول في كلّ موقف یُلتمس فـيه شـخص الرسـول ، لا رسالة الرسول ، إذا قیل ذلك في (علي) فإنّه لا یعطي أكثر من دلالة واحدة ، هي أنّ عـلیّا أقرب الناس إلی الرسول ، وألصقهم به وأولاهم ، فيما یمسّ ذاته ، ویتّصل بشخصه!» (9) .
وعن عدل (علي) وترفّعه عن حـطام الدنـیا واندكاكه بمبادئ الدین وعدم اهتمامه بما تقوله السیاسة ورجالها فيه ، یقول عـبد الكـریم الخطیب :
«روي أنّه حین تفرّق أصحاب علي بـعد مـقتل الخـوارج ودخل مسجد الكوفة فخطبهم ، وكشف لهم عـن الحـال التي صاروا إلیها ، وما ینتظرهم من ذلّ علی أیدي أهل الشام بعدها ، قام إلیـه بـعض أصحابه فقال :
«یا أمیر المـؤمنین . . . أعـطِ هؤلاء هـذه الأمـوال ، وفـضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقریش عـلی المـوالي ، ممّن یتخوّف خلافه علی الناس وفراقه ، إنّ هذا هو الذي كان یصنعه مـعاویة بـمن أتاه ، وإنّما عامّة الناس همّهم الدنـیا ، ولها یسقون ، وفيها یـكدحون ،فـاعط هؤلاء الأشراف ،فإذا استقام ذلك مـا ترید عـُدت إلی أحسن ما كنتَ علیه من القسْم» (10) .
ویواصل الخطیب رؤیته هذه معلّقا :
«هذه هي السـیاسة التي كان یمكن أن یغلب بـها الإمـام ، وأن یـستكثر بها من الأنـصار والأتـباع! ولكنّه یأبى بأن یـستجیب لهـذا الرأي ، ویردّ علی أصحابه قائلاً :
«أتأمروني أن أطلب النصر بالجور . . فواللّه لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نـجم ، واللّه لو كـان المال مالي لسویتُ بینهم! فكیف وهي أمـوالهم» .
هذا هـو حـكم الدیـن ـ والتعلیق هنا للخطیب طـبعا ـ ودعوة الحقّ والعدل! ولكن أین الناس من الدین ، ومن الحقّ والعدل؟! لقد تعثّرت أقدامهم عـلی هـذا الطریق وثقل خطوهم علیه ، وتقطّعت بـهم الأسـباب دونـه . . . أتـریدون شـاهدا؟ وهل شاهد بـعد أن نـری علیّا وحده في المیدان ، لا یقوم تحت رایته غیر خمسین رجلاً؟» (11).
لكن المؤلم المؤسف أنّ الخطیب نفسه وفـي طـول الكـتاب وعرضه استمرّ مداریا متهيبا یقترب من قـول الحـقیقة السـاطعة ویـنسلّ مـنها ، وتـسطع شمسه فتظلّلها غیمة الموروث وغمامة الحكم الجاهز وكأنّي به یرید أن یقول شیئا ولكن الضریبة باهظة والموقف صعب والحقّ مرّ ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العلي العظیم .
الهوامش:
(1) نفس المصدر السابق: ٢١ .
(2) نفس المصدر السابق: ٢٢ .
(3)نفس المصدر السابق: ٤٥ .
(4) نفس المصدر السابق: ٤٦ عـن أنساب الأشراف للبلاذري ٥: ٢٧ .
(5) نفس المصدر السابق: ٤٦ .
(6) نفس المصدر السابق: ٥٨ .
(7) نفس المصدر السابق: ٨٨ .
(8) نـفس المصدر السابق: ١٢٦ .
(9) نفس المـصدر السـابق: ١٢٨ .
(10) نفس المصدر السابق: ٥٦٦ عن : الإمامة والسیاسة : ١ ـ ١٦٠ .
(11) نفس المصدر السابق: ٥٦٧ .
المصدر: موقع رافد للتنمية الثقافية