قبل ثلاثة أيّام قال لنا أنّ الحَرب في سورية سَتكون في غُضونِ يَوم أو يَومين على الأكثر، وهَدد روسيا بأن صواريخَه الذكيّة والبارعَة والحَديثة جاهِزة وعليها الاستعداد لمُواجَهتها، و الخميس تراجَع كُلِّيا، وخَرج علينا يَقول “أنّه سيَلتقي مُستشاريه في شأنِ سورية على أن يتَّخِذ قرارًا في وَقتٍ قَريبٍ حَول تنفيذِ عَمَلٍ عَسكريّ”.
رَشَّ جيم ماتيس وزير الدِّفاع الأمريكي أكياسًا من الثَّلج على رأسِ رئيسه المُرتَبِك عندما قال أمام الكُونغرس أنّه لا يَمْلُك “أدلّةً” على استخدام أسلحة كيماويّة في دوما، رُغم وُجود العَديد من المُؤشِّرات في الإعلام وشَبكات التَّواصل الاجتماعيّ على استخدام الكُلور وغاز السَّارين.
قبل أن نُحلِّل مَعاني هذهِ التَّصريحات والاعترافات والتّراجُعات نَسأل: مُنذ مَتى تستقي الدَّولة الأمريكيّة معلوماتِها من الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وتتَّخِذها مَصْدَرًا يُمكِن الاعتماد عليه لوَضع سِياسات دوليّة، واتِّخاذه دَليلاً مَوثوقًا لشَن الحُروب وتَدمير الدُّول وتَغيير الأنظِمة، وهي التي تَملُك مِيزانيّات بحواليّ 250 مِليار دولار.
***
هُناك أربَعة احتمالات رئيسيّة يُمكِن استخلاصهما مِن عمليّة التَّأجيل المُرتَبِك حتى الآن للضَّربةِ الأمريكيّة:
ـ الأوّل: حُدوث انقسامٍ في الإدارةِ الأمريكيّة بين مُؤيّدٍ ومُعارِض لأيِّ هُجوم مُتَسرِّعّ على سورية دُون وجود أدلَّة قاطِعة على استخدام أسلحةٍ كيماويّة في الغُوطة.
ـ الثّاني: وُصول مَعلومات مُؤكَّدة لهذهِ الإدارة بأنّه لم يتم استخدام مِثل هذه الأسلحة مُطلقًا وأنّها وَقَعت ضحيّة أُكذوبَةٍ كُبرى.
ـ الثالث: جِديّة التَّهديدات الروسيّة بالتَّصدِّي لهذا الهُجوم وإحباطِه مهما كَلّف الأمر، بِما في ذلك حُدوث صِدام عَسكري مع الولايات المتحدة قد يَتطوَّر إلى حَربٍ عالميّة.
ـ الرَّابِع: رَفض حُلفاء أمريكا مِثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا المُشارَكة في أيِّ ضَرباتٍ عَسكريّة تقود إلى صِدام مع روسيا وإشعالِ فَتيلٍ حَربٍ عالميّةٍ ثالِثة.
اللافت أنّ لهجة التَّهديدات الأمريكيّة تَراجَعت بعض الشَّيء في السَّاعاتِ القليلةِ الماضِية، وتصاعَدت التَّصريحات، وخاصّة من قِبَل أوساط قادَة الكِرملين، التي تُؤَكِّد أنّ قنوات الاتّصال مفتوحة بين الجَيشين الرُّوسي والأمريكي، وأنّ الخَط السَّاخِن بين قِيادَتَيهِما في حالةٍ عملياتيّة عالِية لتَجنُّب أيِّ صِداماتٍ على الأرض، ممّا يعني أن القُوّتين العُظميين تَوصَّلتا إلى “تفاهماتٍ ما” لتَجنُّب الصِّدام، والاكتفاء بضَربة استعراضيّة لإنقاذ ماء وجه الرئيس ترامب على غِرار قَصف مطار الشعيرات بحَواليّ 59 صاروخ “توماهوك”.
روسيا مُتَمَسِّكة بمَوقِفها بأنّه لا يُوجَد أي دليل على وقوع هُجومٍ كيماويّ من قِبَل الجيش السوري على مَدينة دوما، وعَزَّزت هذا المَوقِف مع دُخول قُوّاتِها إلى الغًوطة الشرقيّة، وكذلك مُفتِّشي مُنظّمة مَنع انتشار الأسلحة الكيماويّة إلى مَدينة دوما وبِدء تحقيقاتِهم رَسميًّا السبت، والأكثر من ذلك أنّ القِيادة الروسيّة وَجّهت أصابِع الاتّهام إلى جماعة الخُوَذ البَيضاء، التَّابِعة للمُعارضة السوريّة باستخدام هذهِ الأسلحة لتَوفير الذَّرائِع المُفبرَكة لإدارة ترامب للتَّدخُّل عَسكريًّا، والتَّغطِية على هَزائِمها في السَّاحةِ السُّوريّة.
المَخاوف الروسيّة المَشروعة تَنبُع من الدور الإسرائيلي في تَصعيد هذهِ الأزمة، وهذا ما يُفسِّر الاتّصال الهاتِفي بين الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وتَحذير الأوّل أي بوتين، من تِكرار السِّيناريو التُّركي في مَدينة عِفرين، واحتلال أراضٍ سوريّة تَحت ذريعة التصدَّي للنُّفوذ الإيراني، وربّما يُفيد تَذكير إسرائيل بأنّ أي احتلالٍ للأراضي السُّوريّة، خاصّةً في مِنطقة درعا أو القنيطرة، ومُحاوَلة إقامة حِزام أمني سيُغرِقها في حربِ استنزاف ستَنتهي بهَزيمةٍ مُذِلِّة مِثلما حَصل لها في جَنوب لبنان وقِطاع غَزّة.
الزِّيارة التي قامَ بِها السيد علي ولايتي المُستشار الأعلى للسيد علي الخامنئي في الشُّؤون الخارجيّة إلى دِمشق، ولقائِه الرئيس السوري بشار الأسد في القَصر الرِّئاسي، يُؤكِّد أنّ البَلدين في حالةِ تأهُّبٍ قُصوى، ومُستعدِّان لمُواجهة أيِّ ضَرباتٍ أمريكيّة بصُورةٍ مُباشِرة أو غَير مُباشرة، ولعلَّ الرِّسالة الأهم أنّ الرئيس الأسد لم يُغادِر القَصر الجُمهوري مِثلما أفادَت مَحطّات تَلفَزة عَربيّة وإسرائيليّة، وما زالَ يُمارِس مَهامَهُ بصُورةٍ طبيعيّة دُون خَوفٍ أو هَلع.
كان لافِتًا أن السيد ولايتي قال في تَصريحٍ أدلَى بِه في المُؤتمر الصَّحافي الذي عَقده بعد اللقاء “يجب أن يقوم الجيش السوري بِطَرد القُوّات الأمريكيّة من شَرق سورية وانتزاع مَدينة إدلب من قَبضَة مُقاتِلي المُعارَضة”، فهذا يعني أن الرَّد على أيِّ ضَربَةٍ أمريكيّةٍ سيَتركَّز في إعلان الحَرب على هذهِ القُوّات، وشَنِّ هُجومٍ كَبيرٍ لاستعادة آخر مَواقِع المُعارَضة المُسلّحة في مَدينة إدلب، والحُكومَتان السوريّة والإيرانيّة تَملِكان خِبرةً عَريقَةً في تَشكيلِ الأذرُع العَسكريّة والمِيليشيات وحَركات المُقاومة، وخَوض حُروب الاستنزاف، والأمريكان أكثر من اكتووا بِنار هذهِ الحَرب في العِراق وأفغانستان، وقَريبًا جِدًّا في سورية.
وربّما يُفيد التَّذكير بأنّ السيد ولايتي أكّد أن الهُجوم الإسرائيلي على مَطار “التيفور” العَسكري أسْفَرَ عن استشهاد 14 شَخصًا بينهم سبعة إيرانيين لن يَمُر دون رَدٍّ حازِم.
***
جميع التَّرجيحات تُؤكِّد أنّه إذا لم تَقصِف الإدارة الأمريكيّة أهدافًا في سورية فَجر الجُمعة، فإنّ العُدوان الأمريكي سَيُؤجَّل لأسابيع، إن لم يَكُن قد تَمّ صَرف النَّظر عنه كُلِّيًّا، تَحت ذريعة انتظار نَتائّج التَّحقيقات الدَّوليّة في استخدام الأسلِحةِ الكِيماويّة، والنَّتائِج التي سَتُسْفِر عَنها.
الرئيس ترامب يَعيش مَأزَقًا حقيقيًّا، وربّما يَلجأ إلى ضَربَةٍ استعراضيّة على أهدافٍ سوريّة أقل أهميّة، لإنقاذ ماء وجهه بعد أن أدرك أن خصمه الرُّوسي لن يَقِف مَكتوف الأيدي على هذا العُدوان، الذي سيُشَكِّل إهانةً له ولهَيبَتِه في المِنطَقة والعالم.
الرئيس الروسي وحُلفاؤه في سورية وإيران ربّما يكونوا قد كَسِبوا الجَولةَ الأولى في “الحَرب البارِدة”، ودُون إطلاق رَصاصةٍ واحِدة حتى كِتابة هذهِ السُّطور، لكن علينا في الوقت نفسه أن لا نَستبعِد إقدام الرئيس ترامب، الذي يَتصرَّف مِثل الثَّور الهائِج المُثخَن بالجِراح، ويَضرِب يَمينًا ويَسارًا وفي كُل الاتّجاهات، أن يَشُن عُدوانًا فَجر اليوم مُتَحدِّيًا الدَّولة العَميقة التي تُحاوِل كَبحَ جِماحِه.
نَختُم بالقَول أنّه أيَّا كانت نتائِج هذهِ الأزمة فإنّ ذَريعة استخدام الأسلحة الكيماويّة سَتَسقُط، وقد لا يَلجأ أحد لاستخدامها، لأنّها لم تَعُد مُقنِعة، أو هكذا نَعتَقِد.. وأنّ روسيا بوتين أدارت هذهِ الأزَمَة بِصَلابَةٍ وثِقَةٍ واقْتِدار.. والله أعلم.
* عبد الباري عطوان .. رأي اليوم