وتُعقد القمة الثلاثية في أنقرة، غداً، وسط متغيرات ميدانية كثيرة أفضت إلى تغيير خرائط السيطرة وقلب موازين القوة لا سيما في محيط العاصمة دمشق وفي الشمال السوري. وكذلك وسط متغيرات سياسية بارزة تمثلت من جهة، بإعلان الرئيس الأميركي قربَ انسحاب قوات بلاده من سوريا.
ومن جهة ثانية في بروز نزعة فرنسية لرفع مستوى تدخلها في الأزمة السورية.
وتتبع أنقرة منذ التدخل الروسي في سوريا أواخر العام 2015 استراتيجية “التسلل” عبر ثغرات في جدار المعادلات الدولية والاقليمية المهيمنة على الساحة السورية بهدف كسب موطأ قدم في بعض النقاط المتناثرة، ومن ثم العمل على وصل هذه النقاط بما يتيح لها توسيع مناطق نفوذها وتكريس نفسها لاعباً رئيسياً على مائدة الحل السياسي. وقد أتاحت هذه الاستراتيجية لأنقرة مدّ منطقة سيطرتها من جرابلس إلى عفرين مروراً بمدينة الباب، بمساحة تبلغ حوالي 4000 كم مربع، بالإضافة إلى نشر نقاط مراقبة في أرياف حلب وإدلب بموجب اتفاق استانا الخاص بإنشاء “مناطق خفض التصعيد”.
واستندت تركيا في عرقلة نجاح قمة سوتشي الثلاثية على سببين رئيسيين هما: رفضها مشاركة “وحدات حماية الشعب الكردية” في مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري الذي انعقد في أواخر شهر كانون الثاني. وإصرارها على تحديد مصير مدينة عفرين قبل التوقيع على المقررات التي كان يفترض أن تخرج عن القمة.
ورغم أن هذين الشرطين قد تحققا لأنقرة لاحقاً حيث لم يشارك الأكراد في مؤتمر الحوار الوطني، وانتزع جيشها السيطرة على عفرين من قبضة من تصفهم بالإرهابيين. إلا أن ذلك على ما يبدو، لن يجعل الطريق سالكاً أمام قمة أنقرة للوصول إلى مقررات حاسمة بخصوص الأزمة السورية.
ومن المؤشرات على ذلك، أن المسؤولين الأتراك استبقوا انعقاد قمة الرؤساء الثلاثة في عاصمة بلادهم بتوسيع بيكار طموحاتهم حتى امتدت من تل رفعت ومنبج إلى كامل الحدود السورية التركية وصولاً إلى الحدود السورية العراقية. وهم يستندون في ذلك على ما يبدو، على مجموعة من العوامل أهمها: فائض القوة الذي شعروا به بعد احتلال مدينة عفرين في وقت قياسي غير متوقع، رغم أن سببه هو سوء تقدير القادة الكرد لطبيعة المعركة وليس القوة الذاتية للجيش التركي. والثاني هو إعلان الرئيس الأميركي عن انسحاب قوات بلاده من شرق سوريا في القريب العاجل، ما دفع الساسة الأتراك إلى التمسك بهذا الإعلان وتضخيمه لكونه يفتح أمامهم احتمالات إضافية تقوم على إمكانية وراثتهم للدور الأميركي في تلك المنطقة.
وكأن الأتراك لم يتعلموا من درس الاتصال الهاتفي الذي قام به الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد يومين فقط من قمة سوتشي، وحمل للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعداً بوقف مساعدة “قوات سوريا الديمقراطية” ليتبين بعد ذلك أن واشنطن كانت تخطط ، على العكس من ذلك، لإنشاء قوة حدودية من ثلاثين ألف مقاتل كردي وعربي لحماية حدود كيان “شرق الفرات”. واليوم تقع أنقرة في ذات المطبّ، إذ سارعت القوات الأميركية إلى تعزيز تواجدها في مدينة منبج وسط أنباء عن عزمها إقامة قاعدة عسكرية هناك بمشاركة قوات فرنسية لمنع أي هجوم تركي محتمل.
غير أن الانتشار الأميركي والفرنسي لا يكفي لمنع أنقرة من طرق باب منبج، وإن بشكل غير مباشر. لكن هذا الأمر متوقف على أولويات موسكو في هذه المرحلة، وما إذا كانت مستعدة في سبيل الضغط على التواجد العسكري الأميركي أن تمنح أنقرة مكاسب إضافية في كل من تل رفعت وبلدة العريمة التي تقع جنوب غرب منبج، ما يتيح لها على الأقل تضييق الخناق على المدينة.
لكن أنقرة الحالمة بتوسيع نفوذها الاقليمي على حساب الأراضي السورية مستفيدة من الأوضاع المعقدة عسكرياً وسياسياً، ستجد نفسها مطالبة بتنفيذ التزاماتها المترتبة عليها سواء نتيجة اتفاق استانا أو نتيجة تفاهماتها الثنائية مع روسيا. وأهم هذه الالتزامات، بالإضافة إلى تسهيل تشكيل “اللجنة الدستورية” التي أعلن عنها مؤتمر سوتشي، بعيداً عن معارضة الرياض، هو القضاء على “جبهة النصرة” في محافظة إدلب، وهو الالتزام الذي ما زالت أنقرة تعمد فيه إلى التسويف والمماطلة لسببين هما: عدم رغبتها في فقدان ورقة “النصرة” قبل تحقيق طموحاتها التوسعية. والثاني عدم قدرتها على اتخاذ هذه الخطوة لافتقارها إلى وسائل تنفيذها.
غير أنه من المستبعد أن تقبل موسكو التي وضعت “القضاء على النصرة” هدفاً استراتيجياً للعام الحالي، بمنح أنقرة أي تسهيلات في أي منطقة أخرى ما لم تتخذ خطوات جدية تساعد على إنهاء “جبهة النصرة” في إدلب.
ولعلّ ذلك هو ما دفع أنقرة إلى استباق انعقاد القمة الثلاثية من أجل بذل محاولة أخيرة لايجاد صيغة “تحايلية” لإخفاء تواجد “النصرة” عبر دمجها مع الفصائل الأخيرة تحت قيادة موحدة ليس فيها أي شخص مصنف على قائمة الارهاب. لكن نسبة نجاح هذا المسعى التركي تبقى ضئيلة جداً خاصة في ظل تجدد القتال بين كل من “هيئة تحرير الشام” و “جبهة تحرير سوريا” بعد فشل الوساطة التركية ممثلةً بـ “فيلق الشام” في فرض هدنة على الطرفين.
هذه التطورات المفتوحة على احتمالات شتى تجعل الغموض يلفّ طبيعة النقاشات التي ستشهدها أنقرة بين الرؤساء الثلاثة، لكن يبقى المؤكد أنه مهما كانت مقررات هذه القمة فهي غير قادرة على وضع الأزمة السورية على طريق الحل، طالما أن الشرق والجنوب السوريان محكومان بمعادلات خاصة ما زالت الولايات المتحدة تلعب فيها دوراً كبيراً. وقبل أن تتبين حقيقة الموقف الأميركي من الانسحاب أو عدمه، يبدو من الصعب التكهن بطبيعة التطورات التي ستشهدها سوريا خلال الأشهر المقبلة.
* عبدالله سليمان علي .. اوقات الشام