كيف تصبح ذكيًّا؟

الإثنين 2 إبريل 2018 - 21:14 بتوقيت مكة
كيف تصبح ذكيًّا؟

إذا ارتبط اهتمام الإنسان بالقضايا المصيريّة وبحكمة وجود هذا العالم؛ فمن المتوقّع أن يتضاعف ذكاؤه ويزداد قوّة على مرّ الزّمان نظرًا لما يحتويه هذا العالم من قضايا تزداد عمقًا كلّما أوغل الإنسان في التعامل معها...

السيد عبّاس نورالدين

في هذا الزّمن الذي انكشف الكثير من الحقائق عن الذّكاء، وأصبح معروفًا أنّ لكلّ إنسان ذكاءه الخاصّ فما هو المقصود من هذا العنوان؟

يقال أنّ لكلّ إنسان درجة أو نوع خاصّ من الذّكاء ولولا ذلك لما تمكّن من العيش على هذه الأرض. لكن كلمة الذّكاء غالبًا ما تدلّ في أدبيّاتنا على حالة متفوّقة في استخدام المهارات الذهنيّة. فحين يُقال أنّ هذا الطّفل ذكيّ، يكون المقصود أنّه أسرع من آخرين في الوصول إلى هدفه وغايته، سواء كانت الغاية حل تمارين حسابيّة أو الكشف عن مسألة خفية.
أكثر الأخطاء انتشارًا فيما يرتبط بمفهوم الذّكاء هو أنّ الإنسان يولد بمعدّل ذكاء ثابت يدوم معه مدى الحياة. وقد تأثّرت هذه المقولة بالتيّار السّائد في علم الدّماغ والأعصاب، الذي يعتبر الذّكاء وليد النّشاط الدّماغيّ، وأنّ هذا النّشاط الدّماغيّ ليس سوى نتاج تركيبة الدّماغ الوراثيّة!
صحيح أنّ الأكثريّة السّاحقة من النّاس تعجز عن تطوير ذكائها، لكن هذه الملاحظة لا تدل بالضرورة على أنّ الذّكاء موهبة ثابتة غير قابلة للزّيادة والنقصان. وحين نتأمّل أكثر، نلاحظ العلاقة الوطيدة بين التزام هذه الأكثريّة البشريّة بنمطٍ محدودٍ وثابتٍ من العيش وثبات معدّل الذّكاء.
ومن جانبٍ آخر، يمكن لنا الكشف عن العديد من السّلوكيّات المرتبطة بحدّة الذّكاء أو البلادة. وقد اهتمّ أئمّة الدّين المعصومون بهذه القضيّة نظرًا لما لها من تأثيرٍ واضح على مصير الإنسان وحياته الدّينيّة والأخرويّة.. ففي النّصوص المرويّة عن هؤلاء العظماء نلاحظ الرّبط المباشر بين السّلوكيّات السّلبيّة وضعف الذّكاء؛ حيث تُعدّ تلك السلوكيات مخالفًة صريحة للفطرة والأحكام الإلهيّة (وهي التي جعلها الله تعالى سببًا لتكامل الإنسان وارتقائه في كل شؤونه وقواه). وفي المقابل، نجد العديد من التّصريحات المرتبطة بالعلاقة الإيجابيّة بين طاعة الله والعقل والفطرة وقوّة الذّكاء وحدّته وصفائه.
لهذا، لا يشك من يرتع في رياض المعارف الدّينيّة السّامية ويطّلع على هذا التّراث الغنيّ المرتبط ببناء الإنسان، أنّ الذكاء نعمة وهِبة إلهيّة تُعطى للإنسان وفق نظام الحكمة الربّانيّة؛ فإن أحسن استعماله ازداد وتعاظم، وإن أساء استخدامه أو خالفه، فسوف يضعف وينقص. ويتجلّى ذلك قبل أي شيء في مستوى انتباه الإنسان إلى القضايا الكبرى في الحياة ومدى اهتمامه بها.
فارتفاع معدّل الذكاء لا ينبغي أن يُقاس ـ وفق هذه المدرسة ـ بسرعة حلّ المشكلات والتمارين (خصوصًا إذا عرفنا أنّ هذه السرعة قد تحصل بواسطة التمرين المستمر والممارسة)، بل في مستوى النّباهة تجاه القضايا الأعمق والأكثر تأثيرًا في الحياة. إنّه الوعي تجاه الحياة والنفس والمصير والكون. وهو الذكاء الحقيقي الذي يمتلك قابلية الارتقاء.
وعلى هذا الأساس إذا ارتبط اهتمام الإنسان بالقضايا المصيريّة وبحكمة وجود هذا العالم؛ فمن المتوقّع أن يتضاعف ذكاؤه ويزداد قوّة على مرّ الزّمان نظرًا لما يحتويه هذا العالم من قضايا تزداد عمقًا كلّما أوغل الإنسان في التعامل معها.

وفي المقابل، فإنّ من يحصر همّه واهتمامه وتفكيره وخياله في تأمين عيشه وتدبير معاشه الدنيويّ، يكون قد سلك أسوأ سبل الذّكاء، وبذلك سوف يضعضع أرضيّة وجوده واستمراره.
غالبًا ما ينحصر همّ الإنسان بالمعاش المادّيّ والدّنيويّ نتيجة سوء ظنّه بربّه. وإنّما تنمو شجرة سوء الظن هذه، نتيجة تسلّل الشّرك إلى القلب والفكر، فيتوهّم صاحبها وجود أسباب كثيرة للرّزق والنجاح والقدرة و.. وليس من حماقة في الوجود أشد من هذا التوهّم، وإن كان كثير الانتشار. ولهذا نجد الإمام زين العابدين عليه السلام يقول في دعائه: "وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ".

وحين نتأمّل في طريقة عيش إبراهيم الخليل عليه السلام ونهجه المتمثّل بقوله: {قلْ إِنَّ صَلاتي‏ وَنُسُكي‏ وَمَحْيايَ وَمَماتي‏ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمين}؛(1)أو قوله: {والَّذي هُوَ يُطْعِمُني‏ وَيَسْقين‏ * وإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفين}.(2) نعلم لماذا وصف الله تعالى الناكبين عن نهجه: {ومَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}؛ (3) فالسفاهة الواقعيّة هي الاستخفاف بالعقل، وهذا ما يؤدّي إلى ضعف الذّكاء ومحدوديّته، لأنّ صاحبه لن يتعامل مع معضلات الحياة وتمارينها واختباراتها وفق قواعد سليمة، وسوف يكون مثله مثل من يريد تعبئة الماء بالشباك، أو تقسيم النهر بالحبل!
إنّ تجارب الحياة تزوّدنا بسرعة قياسيّة بفهم وإدراك حقيقة التّوحيد. فقد جعل الله نظام العالم وأحداثه على أساس حضوره الأوحد في القدرة والرزق والنصر والتعليم وكل شيء. ومن لم يدرك مثل هذه الحقيقة وهو يعيش في هذا العالم، فمتى يمكن أن يدرك ذلك!
إنّ تجارب الحياة ووقائعها قائمة على تربية الإنسان وتكميل قواه، وعلى رأس هذه القوى قوّة العقل والنّباهة. لكن يبقى لكلّ إنسان خيار تحديد كيفيّة تعامله مع هذه التجارب والوقائع؛ وحين يختار طريق السّفاهة فلا يمكن أن نتوقّع رُشدًا ولا كمالًا.

الهوامش:

(1)سورة الأنعام، الآية 162.

(2)سورة الشعراء، الآيات 79 – 80.

(3)سورة البقرة، الآية 130.

المصدر: مركز باء للدراسات

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الإثنين 2 إبريل 2018 - 20:42 بتوقيت مكة