والكلام عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي صارت سيرته قمة من القمم تتغنى بها الأجيال من الاُمة الإسلامية، وتفاخر بها المشرق والمغرب، ذلك الرجل الذي شهد له الأعداء قبل الأصدقاء بالفضل والرفعة والسمو، وكل الأخلاق الحميدة التي تتقاصر أمامها الهمم، ولا تنال شأوها أو تدرك بعضها على كثرة اجتهادها.
لقد وقفت أمام عظمة الإمام (عليه السلام) جميع الاُمم التي ألمّت بطرف من أخباره، أو نالت حظاً من العلم بتراثه، فترى الغربيين ـ على موقفهم من الإسلام والمسلمين ـ لا يملكون إلاّ الاعتراف بعظمة هذا الرجل، بل وتراهم يستلهمون من سيرته المبادئ التي يبنون عليها نظرياتهم في الحكم والسياسة،مستلهمين المبادئ الإنسانية العظيمة التي تطفح بها أقواله وأعماله، والتي لا يسع أحد انكارها، وهي أوضح من الشمس في رابعة النهار.
ليس من الغريب أن يتصف الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بصفات الكمال الإنساني وهو الذي عاش في كنف النبي (صلى الله عليه وآله) منذ نعومة أظفاره، وارتضع مكارم الأخلاق من ذلك المنهل الروي الذي لا يضاهيه منهل، وقد وصفه الله تعالى في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقال له عزّ من قال: (وإنّك لعلى خلق عظيم) فكان الإمام (عليه السلام) يحيى في ظل ذلك الخلق العظيم، وتتشرّب به نفسه يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة حتى انجبلت بها وأصبحت جزءاً من كيانه، واختلطت بدمه ولحمه، وتحوّلت الى سجيّة وطبع.
وقد وصف الإمام (عليه السلام) تلك المرحلة الرائعة التي تركت بصماتها على وجدانه أثراً لا يمحى، بقوله(عليه السلام): «.. وضعني في حجره وأنا وليد يضمني الى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجدلي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل.. ولقد كنت اتّبعه اتّباع الفصيل أثر اُمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه، ولا يراه غيري، ولم يجمع بيتٌ واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وخديجة، وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمُّ ريح النبوة.
في ذلك الجو المعبّق بأريج النبوة ونور الرسالة، عاش الإمام (عليه السلام) حتى شبّ عن الطوق، ليتشرّف بأن يكون أول من يتلقى الدعوة المباركة الى الإسلام من قبل النبي(صلى الله عليه وآله)، فيكون أول من أسلم من الذكور، وجاءت بذلك الأخبار الصحيحة التي أخرجها الحفاظ والمحدثون والمؤرخون من كل الطوائف، والتي يصعب استقصاؤها في مثل هذا المبحث، فنكتفي برواية عن زيد بن أرقم. حيث قال: أوّل من صلّى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي.
ومضت السنون والإمام (عليه السلام) يرافق النبي (صلى الله عليه وآله) في جهاده الدؤوب المليء بالمصاعب والأشواك، ولشدّة التصاقه بالنبي (صلى الله عليه وآله)، آخى النبي بينه وبين نفسه، وقال له: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى يا رسول الله رضيت. قال: فأنت أخي في الدنيا والآخرة.
وأثبت الإمام (عليه السلام) يوماً بعد يوم أنه أهل لهذه المكانة الرفيعة التي بوّأه إياها النبي (صلى الله عليه وآله)، حتى إذا كات ليلة هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) الى المدينة، نجد علياً (عليه السلام) يفتدي أخاه الكريم بمهجته، فيبيت على فراشه تحت شفرات السيوف المرهفة التي كانت تترصد ساعة الصفر لتهوي على جسد النبي الكريم، وتنهي ثلاثة عشرعاماً من الصراع الفكري الذي أجهد قريشاً وقلب الموازين ضدّها، وبعد أن أثبتت الدعوة قدرتها على مقاومة كل رياح قريش، وشاء الله أن يسلم النبي (صلى الله عليه وآله) من تلك المؤامرة بافتداء علي نفسه والمخاطرة بحياته صوناً لحياة الرسول الذي أنجاه الله منها.
لقد كانت حادثة المبيت أول مصداق ليس على قوة إيمان الإمام (عليه السلام)فحسب، بل كانت مؤشراً الى ما يتمتع به من صفات عظيمة في طليعتها الشجاعة التي وصفها ابن أبي الحديد المعتزلي بقوله: أما الشجاعة، فانّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة، يضرب بها الأمثال الى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فرّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلاّ قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاُولى الى ثانية، وفي الحديث: كانت ضرباته وتراً.
وقد تجلت شجاعته في مواطن شهيرة في بدر واُحد والخندق وخيبر، وفي كل المعارك التي شارك فيها، وكان حامل لواء النبي (صلى الله عليه وآله) فيها، حتى قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله):«إنّه صاحب لوائي عند كل شديدة وكريهة»
وأما تجلي فضائل علي (عليه السلام)، حتى قال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي».
وقال (صلى الله عليه وآله) في مرض موته: «أيها الناس، يوشك أن اُقبض سريعاً فينطلق بي، وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم، ألا انىّ مخلّف فيكم كتاب ربّي عزّ وجل، وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض، فأسألهما ما خلفت فيهما».
وقد ظلّ علي (عليه السلام) ينهل من مناهل العلم الصافية من فم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى قال (عليه السلام): علمني (صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم، فتح لي كل باب ألف باب.
وأيّد النبي (صلى الله عليه وآله) هذه المقولة ليجذب أنظار أصحابه الى الطريق المهيع بقوله (صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب».
ولذا صار علي (عليه السلام) مرجعاً للصحابة في المعضلات، ونقل سعيد بن المسيب عن عمر، انّه كان يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن.
وكان عمر يقول: أقضانا علي، وكان (عليه السلام) يقول أيام خلافته: أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله ما بين لوحي المصحف آية تخفى عليّ، فيما نزلت ولا أين نزلت، ولا ما عني بها.
وقد بلغ من حب النبي (صلى الله عليه وآله) لربيبه (عليه السلام)، أن جعل محبته عنوان صحيفة المؤمن.
وأكد النبي هذه الحقيقة مراراً بقوله: «من أحبّ عليّاً فقد أحبني، ومن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله.
دفاع الإمام علي (عليه السلام) عن سنّة النبي(صلى الله عليه وآله)
لا يمكن لمنصف أن يتصور بعد هذا أن يكون احد أشد تعلقاً وثباتاً على المنهج النبوي ولا أكثر تمسكاً بالسنّة الشريفة أكثر من علي(عليه السلام)، وبعد أن أثبت له النبي(صلى الله عليه وآله) فضيلة الأعلمية على جميع أصحابه، فقال(صلى الله عليه وآله)«أعلم اُمتي بالسنّة والقضاء بعدي: علي بن أبي طالب».
فكان أمير المؤمنين(عليه السلام)، مستودع السنّة النبوية الشريفة، وقد أدرك(عليه السلام) أن مهمته بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله)، الحفاظ على هذه السنة من أن تتلاعب بها الأهواء والبدع لا سيّما بعد ما رآه وسمعه من النبي(صلى الله عليه وآله) من أنه قال: قد كثرت عليّ الكذابة، إلاّ فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار، فتصدى بكل حزم للدفاع عنها ونشرها، والتنبيه الى البدع التي ظهرت بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله) الى الرفيق الأعلى، فراح يبيّن للاُمة هذا الأمر، ويدلها على مواطن الخطر التي يجب اجتنابها، فكان مما قال:
«إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع، وأحكام تبتدع، يُخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله…».
وقال: «طوبى لمن ذلّ في نفسه… وعزل عن الناس شرّه، ووسعته السنّة، ولم يُنسب الى البدعة…».
ولفت أنظار الاُمة الى أن اتّباع السنة يستلزم لزوم الجماعة، وترك البدع المضلّة، فقال(عليه السلام): «فلا تكونوا انصاب الفتن، وأعلام البدع، والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، وبُنيت عليه أركان الطاعة».
كما بيّن للاُمة الطريق المستقيم الذي عليها أن تسلكه، وبيّن تلك الطريق بأنها الطريق المتوسطة، غير المنحرفة الاتجاهات، فقال(عليه السلام): «اليمين والشمال مضلّة، والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة، ومنها منفذ السنّة وإليها مصير العاقبة».
وحثّ الاُمة على التمسك بالسنّة الشريفة التي فيها الهدى قائلاً: «واقتدوا بهدي نبيّكم فانّه أفضل الهدي، واستنّوا بسنّته فانّها أهدى السّنن…».
موقفه(عليه السلام) من البدع
إنّ الاُمور التي حدثت بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله) كانت مبعث قلق لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فكثير من السنن قد أبدلت بالبدع والمحدثات، مما جعل أمير المؤمنين(عليه السلام)ينهض بمهمة الكشف عن هذه البدع، ونشر السنّة الصحيحة للنبي، مستنكراً ما يراه بقوله: «فيا عجباً ومالي لا أعجب من خطا هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وحي.. مفزعهم في المعضلات الى أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على آرائهم، كأن كل امريء منهم إمام نفسه، قد أخذ منها ما يرى بُعرىً ثقات، وأسباب محكمات…».
ودعا الناس للاحتكام الى كتاب الله وسنّة نبيه(صلى الله عليه وآله) عند التنازع والتباس الاُمور عليهم قائلاً: «واردد الى الله ورسوله ما يُضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الاُمور; فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم، فان تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والرسول) فالردّ الى الله: الأخذ بمحكم كتابه، والردّ الى الرسول: الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة.
وبيّن أن البدع لا تظهر إلاّ بترك السنّة وتبديلها، فقال: «وما أحدثت بدعة إلاّ تُرك بها سنّة، فاتّقوا البدع، والزموا المهيع، إن عوازم الاُمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها».
تصدّيه (عليه السلام) للانحراف
كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يراقب الأوضاع بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله) عن كثب، وكلّما أحسّ بأن المسيرة بدأت تنحرف عن خطها المستقيم، كان يتصدى لذلك الانحراف وينبّه عليه، حتى لو استدعى ذلك التصادم مع السلطة، فان الأحداث التي وقعت في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، قد فتحت طريق الانحراف على مصراعيه وبدأت نذر الشر تلوح في الاُفق، حيث اشتكى الناس من سوء سياسة ولاة عثمان فيهم، وتحوّل التذمر الى عصيان وقعقعة بالسلاح، فلم يكن أمام أمير المؤمنين(عليه السلام) إلاّ القيام بواجبه الشرعي في تبيين مواضع الخطأ ومواجهة المسؤول عن انبعاث الفتنه، وتنبيهه الى الحقيقة، وأن ترك السنّة هو مفتاح المصائب والبلايا، حتى لقد وقف أمام الخليفة ليقول له بكل صراحة ووضوح: «فاعلم أن فضل عبادالله عند الله: إمام عادل، هُديَ وهَدى، فأقام سنّة معلومة، وأمات بدعة مجهولة، وإن السنن لنيّرة لها أعلام، وإن البدع لظاهرة لها أعلام، وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضُلّ به، فأمات سنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة…»
لقد كانت هذه التنبيهات القيّمة كفيلة بأن تقضي على نوازع الشّر، وتعيد الى الاُمة وحدتها وترأب صدعها لو أن الخليفة الثالث استمع لنصح أمير المؤمنين، لكن ضعف الخليفة أمام أقربائه ـ وبخاصة مروان بن الحكم الذي غلب على رأي الخليفة ـ وعدم أخذه الاُمور بقوة وحملها محمل الجد، قد أدّى الى تفاقم الاُمور أكثر فأكثر، حتى انتهت الى ماهو معلوم عند الجميع.
وقد يستغرب البعض من تحميلنا الخليفة الثالث معظم المسؤولية عن مجريات الأحداث والحقيقة أن الاطلاع على حقيقة ما جرى يرفع هذا الغموض: إذ أن المعلوم عند المحققين المنصفين، وكما أكدت ذلك الكتب التي ألفها المؤرخون والمحدثون غير المتهمين على الخليفة، انّه قد بدأ يحرف السنّة عن اتجاهها ببعض الأحداث التى أحدثها ولم يكن لها مبرّر من عقل أو شرع، وربما كان لهذه الاُمور امتدادات الى ما قبل خلافة عثمان، فقد قال الصحابي الكبير حذيفة بن اليمان ـ الذي توفي بعد مقتل الخليفة الثالث بأربعين يوماً أو أقل ـ : ابتلينا حتى جعل الرجل منّا لا يصلّي إلاّ سرّاً!.
إن هذا التصريح الخطير من هذا الصحابي الجليل يرفع النقاب عما كان يجري في تلك الفترة بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله)، وقد اعترف ابن حزم بذلك، فقال: كان عثمان قد أحدث الصلاة في منى أربعاً، ولم يقصرها كما كان يفعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فاعتلّ عثمان مرة، فطلبوا من علي(عليه السلام) أن يصلي بالناس، فقال(عليه السلام): إن شئتم صلّيت لكم صلاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ يعني ركعتين ـ .
قالوا: لا، إلاّ صلاة أمير المؤمنين أربعاً. فأبى!.
إنّ هذه الرواية تكشف وجهاًآخر أكثر خطورة من رواية حذيفة، فهي تدل على أن الناس قد استمرؤا البدع والمحدثات، وبدؤا يقدّمونها على السنّة المتواترة عن النبي(صلى الله عليه وآله) !
وقد واصل الإمام(عليه السلام) جهاده المستمر الدؤوب لاعادة السنّة النبوية الى مكانها المشرق بالاقتداء بها حرفياً، حتى روى مطرّف، قال:صلّيت أنا وعمران بن حصين صلاة خلف علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، فكان إذا سجد كبّر، وإذا رفع كبّر، وإذا نهض من الركعتين كبّر.
فلما سلّم أخذ عمران بيدي فقال: لقد صلّى بنا هذا صلاة محمد(صلى الله عليه وآله).
وتتبّع هذه الاُمور يستغرق وقتاً، لكنه(عليه السلام) نبّه الى أن الاُمور قبل توليه الخلافة قد جرت في غير الاتجاه الصحيح فقال: إني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله)يقول: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتخذونها سنّة، فإذا غُيّر منها شيء قيل: قد غيّرت السنّة، وقد أتى الناس منكراً، ثم تشتد البلية وتسبى الذرية، وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب، وكما تدق الرحا بثقالها، ويتفقهون لغيرالله، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة.
ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته، فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله) متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها الى مواضعها والى ما كانت عليه في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لتفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ وجل وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
أرايتم لو أمرت بمقام ابراهيم(عليه السلام)، فرددته الى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ورددت فدك الى ورثة فاطمة(عليها السلام)، ورددت صاع رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما كان، وامضيت قطائع اقطعها رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ، ورددت دار جعفر الى ورثته وهدمتها من المسجد، ورددت قضايا من الجور قُضي بها، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حق فرددتهن الى أزواجهنّ، واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأحكام، وسبيت ذراري بني تغلب، وردت ما قسم من أرض خيبر، ومحوت دواوين العطايا، وأعطيت كما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يعطي بالسومة، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء والقيت المساحة، وسوّيت بين المناكح، وانفذتُ خمس الرسول كما أنزل الله عزّ وجل وفرضه، ورددت مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) الى ما كان عليه، وسددت ما فتح فيه من الأبواب، وفتحت ما سدّ منه، وحرّمت المسح على الخفين، وحددت على النبيذ، وأمرت باحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأخرجت من اُدخل مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) في مسجده ممن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) أخرجه وأدخلت من أخرج بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)أدخله، وحملت الناس على حكم القرآن، وعلى الطلاق على السنّة، وأخذت الصدقات على اصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة الى مواقيتها وشرائعها ومواضعها، ورددت أهل نجران الى مواضعهم، ورددت سبايا فارس وسائر الاُمم الى كتاب الله وسنّة نبيّه(صلى الله عليه وآله)، إذاً لتفرّقوا عني…»
لقد كشف الإمام عن مدى التحريف الذي وقع في السنّة النبوية الشريفة في تلك الأعوام التي سبقت خلافته، والتي صارت فيها تلك الأحداث سنّة في مقابل السنّة النبوية الصحيحة، وتعلّق الناس بتلك المحدثات بدلاً من السنّة الصحيحة، وكما أوردنا مثالاً لها عن قصر الصلاة في منى، وامتناع الناس عن ذلك رغم كونها سنّة نبوية، وتمسكهم بسنّة عثمان بدلاً منها.
إذاً ما الذي كان الإمام(عليه السلام) ينبغي أن يفعله أمام رعايا لا يتحرجّون عن مخالفة الكتاب والسنّة، والأخذ بسنّة الخلفاء الذين أعقبوا النبي(صلى الله عليه وآله) على الاُمة، وصارت تلك الأحداث أحبّ إليهم من العمل بالسنة النبوية؟
لقد أخبر الإمام(عليه السلام) عن عدم إمكان تغيير هذه البدع بعد أن ترسخت في نفوس القوم ولم يرضوا عنها حولاً، فيوقت كانت قوى الضلالة قد شمّرت عن سواعدها، وألقت الفتن بين المسلمين، وشغلت أمير المؤمنين(عليه السلام) خليفة الوقت بحروب طاحنة تأكل الأخضر واليابس، وأتباع الإمام يصدوّن عنه ويتمردون على أوامره، فكيف نتصور موقف الإمام(عليه السلام) من هذه الاُمة التي فضّلت العمى على الهدى، ولم تعطه فرصة كافية للتغيير؟ حتى لقد قال(عليه السلام): «لو قد استوت قدماي من هذه المداحض، لغيّرت أشياء».
لقد كانت عملية التغيير والتصحيح التي بدأها الإمام علي(عليه السلام) منذ اليوم الأول لتولّيه الخلافة، مدعاة لانتقاض الناس ونكوصهم على الأعقاب، فالفترة السابقة قد هيّأت لهم أسباب الغنى والثراء الفاحش، وصارت الحياة الرغيدة أهم من الالتفات الى السنّة النبوية التي بدأت تُغيّر. وكان التصدي للتغيير يعني الحرمان من تلك الامتيازات، لذا فانّ الإمام(عليه السلام)عندما بدأ في ردّ قطائع عثمان على مستحقّيها، قال: ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فانّ الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوّج به النساء، وفُرّق في البلدان، لرددته الى حاله، فانّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق، فالجور عليه أضيق…»
فبلغ ذلك عمرو بن العاص ـ وكان بأيلة من أرض الشام، أتاها حين وثب الناس على عثمان فنزلها ـ فكتب الى معاوية: ما كنت صانعاً فاصنع، إذ قشّرك ابن أبي طالب عن كل ما تملكه كما تُقشّر عن العصا لحاها.
فرفض الآخرين للسنّة النبوية التي أراد أمير المؤمنين(عليه السلام) إحياءها كان نابعاً من صلابته وعدله، فلما لم يجدوا عنده مبتغاهم من حطام الدنيا لم يكن ثمة ما يدعو للامتثال له في تصحيح السنّة، كما امتثلوا للآخرين من قبل في تحريف السنّة طالما كان هناك ثمن للتغيير والسكوت عنه.
المصدر: شفقنا
101/23